الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التيمم
قوله: قال الإمام: ومع وجوبه فهو رخصة، وقال البندنيجي: إنه عزيمة، فحصل فيه وجهان، صرح بهما غيرهما، وأثرهما يظهر فيما إذا سافر في معصية وعدم الماء، فإنه يتيمم وتجب عليه الإعادة إن قلنا: إنه رخصة، وإلا فلا. انتهى كلامه.
وما نقله عن البندنيجي من كونه عزيمة قد صرح به في هذا الباب من كتابه المسمى بـ ((الذخيرة))، لكن رأيت في صلاة المسافر من الكتاب المذكور- أيضًا- الجزم بأنه رخصة، وذكر الغزالي في ((المستصفى)) تفصيلًا حسنًا فقال: إن تيمم لعدم الماء بالكلية فهو عزيمة، وإن تيمم مع وجوده لمرض أو عطش أو نحوهما فرخصة.
قوله: وإنما عدل في ((المهذب)) عن قول ((التنبيه)): و ((يجب التيمم عن الأحداث)) إلى قوله: ((ويجوز))، لوقوع الخلاف في الجواز، فإن بعض الصحابة قال: لا يجوز عن الجنابة. ولا جرم صدر كلامه بجوازه في الأصغر، لكونه مجمعًا عليه، ثم ثنى بالأكبر، للاختلاف فيه، وفل هذا في ((المهذب)) دون ((التنبيه))، لأنه مبسوط يحتمل مثل ذلك، أو لأنه لما قرره في ((المهذب)) أراد أن يبين هنا أمرًا زائدًا عليه، إذ لا يلزم من جوازه وجوبه. انتهى.
وهذا الجواب خطأ، لأن القائل بأنه لا يجوز قائل بأنه لا يجب بالضرورة، فصار الخلاف فيهما معًا، وهكذا القائلون بجوازه يوجبونه عليه، ولا يخيرون بين تركه وفعله. وما اقتضاه- أيضًا- آخر كلامه من أن ((المهذب)) سابق في التصنيف على ((التنبيه)) فليس كذلك، فإن الشيخ بدأ في تصنيف ((التنبيه)) في أوائل رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وفرغ منه في شعبان سنة ثلاث وخمسين، كذا ذكره جماعة منهم الشيخ تاج الدين الفركاح في خطبة شرحه لـ ((التنبيه)) المسمى بـ ((الإقليد)). وبدأ في تصنيف ((المهذب)) سنة خمس وخمسين، وفرغ منه يوم الأحد سنة تسع وستين، ذكره النووي في خطبة شرحه له.
قوله: و ((الصعيد)) مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((جعلت لي الأرض مسجدًا وجعل ترابها لي طهورًا))، كذا حكاه ابن التلمساني عن رواية مسلم، والمشهور: ((وجعلت
تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء))، ولا يقال: هذا لا حجة فيه، لأنه مفهوم لقبٍ، لأنا نقول: قد قال بعض أصحابنا: إنه حجة. انتهى.
واعلم أن مسلمًا رواه عن حذيفة بلفظ ((التربة)) لا بلفظ ((التراب))، وأما رواية ((التراب)) فرواها الدارقطني في ((سننه)) وأبو عوانة الإسفراييني في ((صحيحه)).
قوله: وقد اندرج في التعبير بالتراب التراب الأحمر والأصفر وهو الطين الإرمني. انتهى.
والطين المذكور- وهو الإرمني- إنما هو قسم من التراب الأحمر لا الأصفر، كذا ذكره الرافعي وغيره. والإرمني: بكسر الهمزة، وفتح الميم. منسوب إلى إرمينية، ناحية من نواحي الروم، كذا قاله الجوهري، وذكر النووي في ((دقائق الروضة)) المسمى بـ ((الإشارات)) أنها بكسر الميم على القياس، وكذا ابن الصلاح في ((المشكل)) وزاد أن مدينة ((خلاط)) منها.
قوله: الثاني: أن التراب الممزوج بماء الورد والخل ونحوهما إذا جف يجوز التيمم به، ولا خلاف فيه. انتهى كلامه.
وما حكاه من نفي الخلاف غريب، فقد جزم في ((الحاوي)) بالمنع عند تغير التراب به، فقال: فصل: وأما التراب إذا خالطه طيب أو زعفران، فإن تغير بما يخالطه من الطيب لم يجز التيمم به، وإن لم يتغير فلا يخلو حال ما اختلط به من الطيب من أحد أمرين: إما أن يكون مائعًا كماء الورد، أو مذرورًا كالزعفران، فإن كان مائعًا جاز التيمم به، لأنه إذا لم يغلب عليه وجف فيه صار مستهلكًا، وكذا سائر المائعات كالخل واللبن إذا خالطت التراب. هذا كلام الماوردي.
قوله: والتفريق في الضربة الثانية متفق على وجوبه. انتهى كلامه.
ودعواه الوجوب غريب، فضلًا عن الاتفاق عليه، فإن المجزوم به في ((الرافعي)) وغيره: أنه لا يجب، ولكن يجب عليه التخليل إن لم يفرق، لأجل وصول التراب إلى ما بين الأصابع، فإن فرق استغنى عنه.
قوله: والمذكور في أكثر كتب العراقيين: أن نية رفع الحدث لا تجزئ- وكذا نية الطهارة- عن الحدث، ولم يحك في ((الوسيط)) غيره. انتهى كلامه.
وليس في ((الوسيط)) ذكر لنية الطهارة عن الحدث.
واعلم أن القول بعدم الإجزاء فيها مشكل، لأن التيمم طهارة، وهي طهارة عن حدث لا عن خبث، فإذا صرح المتيمم بذلك لزم أن يصح.
قوله: تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا.
ثم قال: السابع: أن الموالاة ليست من الواجبات ولا من السنن، والمشهور: أن في وجوبها قولين كما في الوضوء. ومنهم من قطع بالوجوب، ومنه من قطع بعدمه. انتهى كلامه.
وما ذكره من أن المشهور طريقة التخريج على القولين قد خالفه في ((باب فرض الوضوء وسننه)) مخالفة عجيبة، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه.
قوله: فإن الماوردي وأبا علي الزجاجي وآخرين قالوا فيمن إذا كان معه ماء طاهر وماء نجس وهو عطشان: إنه يتطهر بالماء الطاهر، ويشرب النجس، ولا يتيمم. انتهى كلامه.
واعلم أن ما نقله- رحمه الله عن الزجاجي قد قلد فيه الرافعي، فإنه قد نقله عنه هكذا، وكلام الزجاجي ليس مطابقًا له، فقد رأيت كتابه الذي ينقل الرافعي والأصحاب عنه، وهو ((زيادات المفتاح)) الملقب بـ ((التهذيب))، فقال بعد كتاب الطهارة بنحو ورقة ما نصه: ولو كان مع المسافر ماءان: طاهر، ونجس، توضأ بالطاهر، وحبس النجس للعطش. هذه عبارته، ومقتضاه: أن العطش ليس حاصلًا الآن، وإنما هو متوقع، ولهذا قال: وحبس النجس. ودعوى المصنف في الشرب حال التيمم، وأين أحدهما من الآخر؟! فإنه لا يلزم من إيجاب الوضوء بالطاهر إذا لم يكن به عطش- لأجل وجود المقتضى، وعدم اقتران المعارض- إيجابه عند العطش، لاقتران المعارض. واعلم أن ((الزجاجي)) هذا: بضم الزاي وتخفيف الجيم.
قوله- نقلًا عن الشيخ-: ولا يجوز التيمم لمكتوبة إلا بعد دخول الوقت وإعواز الماء أو الخوف من استعماله.
ثم قال: وظاهر عطف ((إعواز الماء أو الخوف من الاستعمال)) على ((دخول الوقت))، يقتضي أن يكون قيد ((المكتوبة)) قيدًا فيهما- أيضًا- حتى لا يكون واحد منهما شرطًا في النافلة وغيرها، وليس كذلك، بل لا يجوز التيمم لذلك إلا عند الإعواز أو الخوف من الاستعمال، سواء خشي فوت ذلك أم لم يخشه، وهذا مذهبنا، والجواب: أن المراد مجموعة ما ذكر- من دخول الوقت، والإعواز أو الخوف- شرط في المكتوبة، ومفهومه: أن المجموع ليس شرطًا في غيرها، بل البعض، وهو كذلك. انتهى ملخصًا.
وليس الأمر كما ذكره في الجواب، بل لا فرق في ذلك بين المكتوبة والنافلة المؤقتة.
قوله: وقد حد الغزالي ومن بعده المسافة التي يتردد إليها عند التوهم بما يلحقه فيه غوث الرفاق، أخذا من قول الإمام: لا نكلفه التعدي عن مخيم الرفقة فرسخًا أو فرسخين وإن كانت الطرق آمنة، ولا نقول: لا يفارق طنب الخيام، فالوجه القصد، وهو أن يتردد إلى حيث لو استغاث بالرفقة لأغاثوه مع ما هم عليه من التشاغل بالأشغال والتفاوض في الأقوال، وهذا يختلف باستواء الأرض واختلافها صعودًا وهبوطًا، قال الرافعي: ولا يلفى هذا الضابط في كلام غيره، وليس في الطرق ما يخالفه. قلت: بل عبارة الماوردي توافقه، لأنه قال: عليه طلبه في المنزل الذي حصل فيه من منازل سفره، وليس عليه طلبه من غير المنزل الذي هو منسوب إلى نزوله. انتهى كلامه.
واعلم أن المقدار الذي يتردد إليه عند التحقق هو المقدار الذي ينتهي إليه النازلون في حاجاتهم كالاحتطاب والاحتشاش، قال الرافعي: وهذه المسألة فوق حد الغوث، وهو القدر الذي يجب عند التوهم. إذا علمت ذلك فقد ذكر الماوردي: أن كل موضع يجب الذهاب إليه عند التحقق وجب الطلب منه عند التوهم. وهذا الكلام صريح في وجوب الذهاب عند التوهم إلى فوق حد الغوث، وهو خلاف ما قاله الإمام، فيكون الماوردي مخالفًا للإمام في هذا التفصيل، وهذا الذي نلقناه عن الماوردي قد ذكره المصنف بعد هذا بأوراق عند قول الشيخ: وإن دل على ما بقربه. وأما ما نقله عن الماوردي هنا دليلًا على الموافقة فلا دلالة فيه.
قوله: قال في ((الروضة)): قال أصحابنا: ولا يجب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء، من يجود بالماء؟ ونحوه، حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة لم يطلب من كل بعينه. وفي ((الرافعي)): أنه إذا كان معه رفقة وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم. انتهى كلامه.
وهو يقضتي أن الرافعي والنووي مختلفان، وليس كذلك، إلا أن الرافعي لما ذكر ما نقله عنه وكان فيه إجمال وإبهام، تعقبه النووي ففسره بما تقدم نقله عنه، فاعلمه! وقد ذكره النووي كذلك بعبارة واضحة في ((شرح المهذب)) وغيره.
قوله: ولو أقرض ثمن الماء، وهو واجد له في بلده عادم له في موضعه- فالأصح في ((الرافعي)): أنه لا يجب القبول، لأنه يحتمل أن يهلك ماله قبل وصوله إليه، وهذا
بخلاف ما لو أقرض الماء نفسه، فإن الأصح في ((الرافعي)): وجوب قبوله، ووجهه بأنه إنما يطالب عند الوجدان، وحينئذ يهون الخروج عن العهدة. قلت: وفي ذلك نظر، فإنه إن أراد وجدان الماء فقد نص الشافعي على أنه إذا أتلف عليه ماء في مفازة، ولقيه في بلد- أن الواجب قيمته في المفازة، فإن الماء في البلد تقل قيمته، وستعرف ذلك في كتاب الغصب. وإن أراد وجدان قيمته في البلد فقيمته وثمنه الذي يقرضه إياه سواء في المعنى، فلا فرق، والله أعلم. انتهى كلامه.
وفيه أمران:
أحدهما: أن هذا التقسيم الذي ذكره ليس بحاصر، لأنه أهمل قسمًا ثالثًا الظاهر أنه المراد، وهو أنه قد يكون واجدًا له قبل وصوله للبلد، وحينئذ يندفع المحذور المذكور.
الثاني: أنه لا يلزم من تنصيص الشافي في الغاصب على ذلك لتعديه، أن يكون المقترض الآخذ بالرضا كذلك، لظهور الفرق.
قوله: ولو بذل له ماء، أو بيع بثمن المثل- لزمه قبوله.
ثم قال: وثمن المثل: هو الذي يبذل في مقابلته في ذلك الموضع في عموم الأحوال، قاله أبو إسحاق المروزي، ولم يحك البندنيجي والماوردي وابن الصباغ غيره، واختاره الروياني. وقيل: ما يبذل في مقابلته في ذلك الموضع مع السلامة واتساع الماء، حكاه الإمام عن بعض المصنفين، وهو في ((الإنابة)).
وقيل: ما يبذل في مقابلته في تلك الحالة، وهو ما حكاه الإمام عن الأكثرين، والأصح في ((الإبانة))، ولم يحك الشيخ أبو حامد- كما قيل- غيره. وقيل: إن الماء لا ثمن له، والمعتبر أجرة نقله إلى ذلك المكان، قال الإمام: وهذا مبني على أن الماء لا يملك، وقال الغزالي: إنه جار وإن قلنا: الماء مملوك. انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن الوجه الأول هو الوجه الثاني بعينه، وإنما اختلف التعبير خاصة، هكذا ساقه الأصحاب عند العزو إلى أبي إسحاق، فتفطن لذلك الأمر.
الثاني: أن ما نقله عن تصحيح الفوراني في ((الإبانة)) صحيح، لكنه صحح في ((العمد)) الوجه الذي قبله.
الأمر الثالث: أن هذا النقل عن الشيخ أبي حامد نقله عنه في ((البيان))، وليس كذلك، بل الصواب- وهو ما نقله في ((شرح المهذب)) عنه- إنما هو الوجه المتقدم
عليه، وهو المعروف في المذهب، على خلاف ما صححه الرافعي تقليدًا للإمام، وقد أوضحته في ((المهمات)).
الرابع: أن ما نقله عن الغزالي مذكور في ((الوسيط))، ولكنه خالف في ((البسيط)) فجعله مفرعًا على أن الماء لا يملك.
قوله: الثالث: لو خالف عند وجوب قبول البذل، وتيمم- لا يصح، وفي ((الكافي)) وغيره: أن الماء المبذول إن كان باقيًا عند تيممه، والباذل باق على بذله- لم يصح، وإذا صلى أعاد، وإن كان تالفًا، أو رجع الباذل عن بذله- ففي الإعادة وجهان، فإن قلنا: يعيد، فمحل الإعادة إذا وجد الماء، فيستعمله ويعيد، ولا يعيد قبل ذلك، قاله في ((التتمة)). والحكم فيما لو كان معه ماء، فصبه عبثًا بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء. انتهى.
وما نقله عن ((التتمة)) سهو ليس مطابقًا لما فيها، فإنه قال في الصب عمدًا: إن في لزوم القضاء وجهين، فإن أوجبنا فقيل: صلاة واحدة، وقيل: الصلوات التي يؤديها بالوضوء الواحد في عادته.
ثم قال ما نصه: فرع: إذا أوجبنا عليه الصلاة فلا تصح الإعادة في الوقت، لأنه لو كان يصح القضاء بالتيمم لصح الأداء لكن يؤخر حتى يجد الماء، أو ينتهي إلى حالة تصح صلاته فيها بالتيمم، فيعيد ما أوجبنا عليه إعادتها. هذا لفظه.
قوله: ولو لم يقدر على الماء إلا بشق العمامة ونحوها وجب إذا لم يحصل نقص يزيد على ثمن الماء في وجهٍ، وعلى أجرة مثل ذلك في وجه آخر.
ثم قال ما نصه: والحق ما قاله بعضهم أن المعتبر ألا يزيد على قدر ثمن مثل الماء أو أجرة مثل ذلك، فإن زاد لم يجب. انتهى.
وحاصل ما ذكره في الأخير: أنه متى زاد على أحدهما سقط الوجوب، وهذا باطل قطعًا، لم يقل به أحد، لأنه متى امتنع البائع أو المؤجر إلا بزيادة، وقدر على الآخر بقيمة مثله- وجب عليه قبوله بلا خلاف كما ذكره المصنف وغيره. نعم، ذكر الرافعي وغيره: أن المعتبر ألا يزيد على أكثر الأمرين من الثمن والأجرة، ولاشك أن المصنف أراده، ولكن أخطأ في العبارة.
قوله: وإن تيمم وصلى، ثم علم ماء حيث يلزمه طلبه- أي: وكان قد علم به، ثم نسيه- أعاد في ظاهر المذهب، وهذا هو الذي نص عليه في ((البويطي)). انتهى.
واعلم أن الذي نص عليه في ((البويطي)) من وجوب الإعادة إنما هو فيما إذا لم
يكن قد علم بها بالكلية، وقد نقله عنه على الصواب جماعة منهم ابن الصباغ والنووي في ((شرح المهذب))، ثم إن تقييده- أيضًا- بقوله: أي وكان قد علم ثم نسي، كما أنه لا يستقيم مع هذا النص لا يستقيم- أيضًا- مع كلامه في أثناء المسألة، فاعلمه، فإن فيه تنبيهًا لمن أراد الوقوف عليه.
قوله: ولو تيمم ثم سمع شخصًا يقول: عندي ماء وديعة، فإنه يبطل تيممه في هذه الصورة، لأنه يتعين عليه عند سماع ذكر الماء طلبه، وهو مبطل للتيمم، ولو انتفى وجوب الطلب مع سماع ذلك، مثل أن قال: عندي وديعةً جرة ماء- أي بتقديم الوديعة- لم يبطل. انتهى.
وهذه المسألة الثانية شرطها: أن يعرف غيبة المودع، حتى إذا علم حضوره أو لم يعلم الحال بطل- أيضًا-: أما الأول، فلتوجه الطلب، وأما الثاني، فلاحتمال الحضور المقتضي للطب، كذا جزم به الرافعي في ((الشرح)) والنووي في ((شرح المهذب))، وهو واضح.
قوله: ولا فرق في عدم وجوب القضاء على المتيمم في السفر بين السفر الطويل والقصير، وقد حكي عن نصه في ((البويطي)): أن ذلك يختص بالطويل كما في القصير. انتهى كلامه.
وهذا النقل عن ((البويطي)) ليس بجيد، فإن الذي دل عليه كلامه: أنه لا قضاء مطلقًا، وأما ما نقله عنه المصنف فإنه إنما قاله في تعيين التيمم، ناقلًا- أيضًا- له عن غيره، فقال: وقد قيل: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. هذه عبارته.
قوله: فرع: إذا تحرم المسافر بالصلاة، ثم نوى الإقامة في أثنائها- فحكمه إذا أتمها حكم المصلي في الحضر، فل رأي الماء قبل نية الإقامة فقياس المذهب: بطلانها، وهذا ما نقله أبو الطيب، وكذا الرافعي. انتهى كلامه.
واعلم أن ما ادعاه من كونه قياس المذهب ذهول عجيب، لأن المصلي بالتيمم في موضع يغلب فيه عدم الماء لا قضاء عليه، مسافرًا كان أو مقيمًا، وفي موضع يغلب فيه الوجود يجب عليه في الحالين، كذا جزم به الرافعي في آخر الباب في الكلام على ما يجب قضاؤه وما لا يجب، قال: وقولهم: إن القضاء يجب على الحاضر دون المسافر، مشوا فيه على الغالب. وذكر المصنف مثله قبل هذا الموضع بنحو ورقة.
إذا علمت ذلك فلنرجع إلى مسألتنا، فنقول: هذا المسافر الذي رأى الماء، ثم نوى الإقامة، وادعى بطلان تيممه لأجل الإقامة-: إن كان سفره يغلب فيه العدم، وهو
الظاهر من كلامه، والمستقيم أيضًا من جهة المعنى- فنية الإقامة فيه لا أثر لها، لأنه لو كان مقيمًا هناك وتيمم لعدم الماء، ثم رآه في أثناء صلاته لم نحكم بإبطالها، فبطريق الأولى هذا، وإن كان سفره يغلب فيه الوجود بطلت صلاته بمجرد رؤية الماء، ولا يتوقف الإبطال على نية الإقامة، لأنها لا تغني عن القضاء، فبطل ما ادعاه. وهذه المسألة حصل فيها ذهول للرافعي كما أوضحناه في ((المهمات))، ثم إن المصنف قلده فيه، وادعى أنه قياس المذهب، فزاد الكلام خللا.
قوله: أما إذا كان غسل الصحيح يتأذى به موضع القرح، بأن كان يخاف إن غسل أن يسيل الماء إلى القرح: فإن لم يمكنه أن يمسحه بخرقة رطبة ينغسل الموضع بها ولا يسيل، ولا قدر على من يغسله له من غير سيلان- فإنه يكتفي بالتيمم ويصلي ويعيد. ولو كان لا يتأتى فعل ذلك منه ولا من غيره إلا بضرر يلحقه، كما إذا كان في وجهه جراحات، وهو جنب لا يمكن غسل رأسه إلا بوصول الماء إلى الجراحات- فقد سقط فرض غسل الرأس عنه، قاله أبو الطيب وغيره. انتهى كلامه.
وهو صريح في أن المسح بدون الغسل لا أثر له حتى ينقل إلى التيمم، وليس كذلك، فقد نص الشافعي عليه، وجزم به الأصحاب، كذا قاله في ((التحقيق))، وذكر نحوه في ((شرح المهذب))، إلا أنه مشكل بالعليل نفسه، فإنه لا يجب مسحه بالماء كما قاله الرافعي، وجزم به النووي في الكتابين المذكورين.
واعلم أن ما ذكره المصنف- أيضًا- في جراحات الوجه مردود، فإن كلام الأصحاب يخالفه، وقد نقله عنهم في ((شرح المهذب)) فقال: قال أصحابنا: فإن كانت الجراحة على وجهه، فخاف إن غسل رأسه نزول الماء إليها- لم يسقط غسل الرأس، بل يلزمه أن يستلقي على قفاه ويخفض رأسه، فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة، وتحامل عليها، ليقطر منها ما يغسل الصحيح الملاصق للجرح، فإن لم يمكنه ذلك أمس ما حوالي الجرح الماء من غير إفاضة، وأجزأه، وقد رأيت نص الشافعي في ((الأم)) نحو هذا. هذه عبارته.
قوله: تنبيه: القرح- بفتح القاف وضمها-: هو الجرح، قاله النووي، وقال غيره: إنه كالجدري، وإن الجرح في الحكم كهو. وعلى هذا ينطبق قول الماوردي:((إذا كان بعض بدنه جريحًا أو قريحًا))، وقول الشيخ:((وتيمم عن الجرح)) يجوز الأمرين، فتأمله. انتهى كلامه.
وما ذكره من أن كلام الشيخ محتمل للأمرين ليس كذلك، بل هو صريح فيما نقله
عن النووي خاصة، لأنه فسر القرح بالجرح، فتأمله.
قوله- في الكلام على الجريح-: وقد صار الشيخ أبو محمد إلى القطع بإيجاب إلقاء لصوق على الجرح إذا أمكن من غير ضرر يلحقه، وقال الإمام: إنه لم يره لأحد.
ثم قال: ويشهد له ما ذكرناه من أنه لو صب الماء قبل دخول وقت صلاةٍ لا يأثم، بخلاف ما بعده. انتهى كلامه.
وما ذكره من عدم الإثم مردود، فإن فيه إضاعة مال، وما ادعاه من ذكره قبل ذلك فسهو، فإن الذي ذكره إنما هو عدم القضاء، ولا يلزم منه عدم التأثيم.
قوله: وقد أورد الرافعي على تصوير محل الخلاف فيه سؤالًا اعتقد صحته، فاستضعف به قول أبي محمد، فقال: اعلم أن ظاهر المذهب اشتراط الطهارة عند إلقاء الجبيرة واللصوق ليجوز المسح عليهما، فالشيخ أبو محمد يأمر به قبل الحدث ليمسح عليه، وإذا تطهر بعد الحدث كما في مسألة لبس الخف
…
إلى آخره. ثم إن المصنف أجاب بوجهين، فذكر الأول.
ثم قال: وأحسن منه الثاني، وهو أن الطهارة إنما هي شرط عند إلقاء الجبيرة واللصوق على ظاهر المذهب في إسقاط القضاء، لا في جواز المسح على ذلك كما صرح به هو من قبل. انتهى كلامه.
وما نسبه إلى الرافعي من أن اشتراط الطهارة عند الوضع على ظاهر المذهب إنما هي لإسقاط القضاء لا لجواز المسح، غلط، فقد صرح الرافعي هنا بعكسه، فقال ما نصه: والثاني: أن يضع الجبيرة على طهرٍ كالخف لابد وأن يلبس على الطهارة، ليجوز المسح عليه، هذا ظاهر المذهب، وفي وجه: لا يشترط الوضع على طهارة، ثم ليس معنى اشتراط الطهارة تعذر المسح أصلًا لو وضع الجبيرة على الحدث، ولكن المراد: أنه يلزم النزع وتقديم الطهارة إن أمكن النزع، وإلا فيجب القضاء بعد البرء. هذا لفظه، وصرح به- أيضًا- كذلك في آخر الباب، وقد ذكره المصنف على الصواب بعد ذلك في الكلام على وضع الجبائر.
قوله: ولو نوى استباحة صلاتي فرضٍ قضاءً، أو قضاءً وأداءً كذا- فهل يصح تيممه ويستبيح به فرضًا واحدًا منهما، أو لا يصح؟ فيه وجهان، والأصح في ((الرافعي)) هو الأول. وهذا إذا قلنا بالصحيح: أن تعيين الفريضة ليس بشرط. انتهى كلامه من غير زيادة عليه.
وما ذكره من أن الوجهين إنما يأتيان إذا قلنا: إن التعيين ليس بشرط، لا وجه له،
بل يأتيان- أيضًا- إذا قلنا: إنه شرط، فعين، والتصوير السابق ليس مقيدًا بحالة إطلاق الفرضين حتى نقول فيه ذلك، لا جرم أن الرافعي وغيره لم يذكروه، بل ولا هو_ أيضًا- في ((المطلب)).
قوله: ولا نزاع عند الأصحاب أنه لا يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فرض واحد من الصلوات الخمس. انتهى.
ليس كما قال من عدم النزاع، فقد ذهب الروياني في ((الحلية)) إلى الجواز، وسبقه المزني إلى ذلك، وهو بناء على أصله في أن التيمم يرفع الحدث.
قوله: والمراوزة والماوردي قالوا: هل يجوز أن يجمع بين الطواف وركعتيه إن قلنا: إنهما سنة؟ فنعم على المذهب، وإن قلنا: إنهما واجبتان، فلا في أصح الوجهين في ((تعليق)) القاضي حسين، ووجه مقابله- وهو المذكور في ((الحاوي)) و ((التتمة)) -: أنهما كالجزء منه. انتهى كلامه.
وما اقتضاه كلامه من حكاية الخلاف في الجمع بين الطواف الواجب وركعتيه إن قلنا: إن الركعتين سنة- لا وجه له، ولا ذكر له في كلام المراوزة، ولا في كلام غيرهم. نعم، الطواف المسنون هل ركعتاه واجبتان أم لا؟ فيه طريقان للمراوزة، وحكاهما الرافعي وغيره: منهم من قطع بالاستحباب، ومنهم من قال: إنه على الخلاف في الطواف الواجب، ولا يستبعد أن يترتب على المسنون أمر واجب، فعلى هذه الطريقة: لو صلى فرضًا بالتيمم، ثم طاف تطوعًا، وأراد أن يصلي ركعتيه بذلك التيمم- ففيه الخلاف. فحصل للمصنف اختلاط واشتباه من هذه المسألة بلا شك.
قوله: ولو نسى صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها- لزمه الخمس، ويكفيه لها تيمم واحد، لأن الواجب في الأصل صلاة واحدة، وقيل: لابد من خمسة تيممات، لأن كلًا من الخمس واجبة، فلو نسي صلاتين من الخمس: فعلى الأول يكفيه تيممان: إما بأن يصلي بكل منهما الخمس، أو يصلي بالأول الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلو عكس فصلى بالأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالثاني الصبح والظهر والعصر والعشاء- لم يخرج عن العهدة، لجواز أن يكون الفائت الظهر والعشاء، فيكون الظهر قد تأدى بالأول، فلا يؤدي به العشاء، فطريقه: أن يصلي العشاء مرة أخرى، وعلى الثاني يلزمه خمسة تيممات. انتهى كلامه.
وتعبيره بقوله: وبالثاني الصبح والظهر والعصر والعشاء، ذكر ((العشاء)) فيه سهو،
وصوابه: المغرب. وأيضًا: فقوله: لجواز أن يكون الفائت الظهر والعشاء، تعبير ناقص، وكان حقه أن يقول: لجواز أن يكون الفائت الظهر أو العصر أو المغرب مع العشاء.
قوله: ولو نسى صلاتين من صلوات يومين، فإن كانتا مختلفتين: فعلى الوجه الأول يلزمه تيممان كما ذكرنا، وعلى الثاني: يتيمم عشرة تيممات. انتهى كلامه.
وما ذكره في آخره من كونه يتيمم عشرة تيممات غلط، بل لا يلزمه إلا خمسة كما لو كانا من يوم واحد، وكأنه توهم أن الحكم يتغير بكونهما من يومين، ولا أثر له قطعًا، لأن الذي عليه إما هو صلاتان، وأوجبنا الخمس لأجل التباسهما، فمن يقول: لابد لكل صلاة من تيمم، يوجب عليه خمسة تيممات لخمس صلوات، وقد صرح به مع وضوحه في ((شرح المهذب)) فقال: هذا كله إذا كانت الصلاتان أو الصلوات مختلفات، سواء كانت من يوم أو يومين. هذه عبارته.
قوله في المسألة: وإن كانت الصلاتان من جنس واحد- أي: متفقتين- فعلى الأول يلزمه عشرة تيممات، يصلي بكل واحد صلاة يوم، وعلى الثاني يأتي بعشرة تيممات. انتهى.
والصواب على الأول: أنه يلزمه أن يتيمم مرتين، وكأنه أراد أن يذكر التفريع على الثاني قبل الأول، فلما ذكر صدره رجع إلى التفريع على الأول، وذهل عن تغيير ما صدر به كلامه، فوقع في الوهم.
قوله:- أيضًا- في المسألة: فلو شك: هل هما متفقتان أو مختلفتان، بنى الأمر على اختلافهما، لأنه أحوط. انتهى.
وما ذكره من بناء الأمر على الاختلاف سهون والصواب بناء الأمر على الاتفاق، ويتضح بما ذكره هو قبل ذلك فيما إذا علم الحال من الاتفاق أو الاختلاف. وكأن المصنف- رحمه الله كان في حالة وضع هذه المسالة كلها مشوش الفكر، أو مغلوبًا عليه بالنعاس، فإنه مع وقوع هذه الأوهام قد أجحف في المسالة إلى الغاية، ولم يبين الضوابط المذكورة فيها ولا الشروط، وقد تكلم عليها الرافعي أحسن كلام، فليته نسخ ما قاله برمته!
قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن لم يجد ماءً ولا ترابًا صلى الفريضة وحدها، وأعاد إذا قدر على أحدهما، أي: استدراكا للمصلحة بقدر الإمكان. ثم ظاهر كلام الشيخ ومن وافقه في العبارة- وهو صاحب ((الكافي)) - أنه يعيد عند قدرته على التراب، سواء كانت صلاته يسقط فرضها بالتيمم أو لا، في الوقت أو بعده، كما أن
هذا حكمه إذا قدر على الماء، وفي إعادته إذا قدر على التراب قبل فوات الوقت- والصلاة لا تسقط به- نظر يقوى في حال قدرته عليه بعد خروج الوقت، ولا جرم خص الماوردي والفوراني وجوب الإعادة بحالة قدرته على الماء، والإمام خصه بحالة قدرته على طهور، وأما غيرهم فلم يتعرض لحالة وجوب الإعادة. انتهى كلامه.
وهذه المسألة التي توقف في حكمها، وذكر ما حاصله عدم التصريح بها- مسألة مسطورة مشهورة، وقد نقلها النووي في ((شرح المهذب)) عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: لا يعيد بالتراب إلا إذا كان في موضع يسقط القضاء. وجزم به- أيضًا- في ((فتاويه))، وعلله بأنه لا فائدة فيه إذا لم يسقطه، وقد ذكرها البغوي في ((فتاويه)) - أيضًا- وجزم بالوجوب إذا قدر عليه في الوقت. وإن كان في موضع لا يسقط القضاء، قال: فإن قدر عليه بعده ففيه احتمالان أحدهما: لا يلزمه، لأنه لا فائدة فيه. والثاني: يلزمه، لأن وقت وجوده كوقت الصلاة، ولهذا إذا لم يجد الطهورين، وخرج الوقت، ولم يصل، ثم وجد أحدهما- وجب عليه استعماله، فدل على عدم مراعاة الوقت.
هذا كلام البغوي، وهذه المسألة التي استشهد بها في آخر كلامه مسألة حسنة، لكن للقائل الأول أن يقول: هذا قد ضيع حق الوقت وفوته، فيقضيه، بخلاف ما إذا صلى.
قوله: وهل تتنزل الجبيرة منزلة الخف في التقدير بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر؟ فيه وجهان، والأكثرون على عدم التقدير.
ثم قال: وقد استشكل المتأخرون تصوير ذلك، لأنه إن كان يخاف من نزعها عند انتهاء مدة الخف لم يجب نزعها بلا خلاف، وإن لم يخف وجب النزع والغسل بلا خلاف، والإمام صوره بالحالية الثانية، وهذا لا يشفي الغليل. وبعضهم قال: محل الخلاف إذا كان لا يتأتى النزع، وفائدة التوقيت: أنه يعيد ما صلاه بعد المدة.
والذي يظهر لي: أن يكون محله عند الخوف كما قال، لكن الفائدة: أنه بعد المدة لا يصلي ما لم يجدد المسح، تنزيلًا للمسح بعد المدة منزلة التيمم بعد فعل الفريضة، وإن صح هذا كان في احتياجه إلى تجديد الغسل ما سلف. انتهى كلامه.
وما ذكره من عند نفسه لا يكفي- على حذقه- وكذلك ما نقله- أيضًا- عن بعضهم، بل لابد من المجموع بزيادة فنقول: إذا انقضت المدة فله حالان:
أحدهما: أن يكون على طهارة المسح، فإن قلنا: إنها لا تتأقت، صلى بهذه
الطهارة، وإن قلنا: إنها تتأقت، فلابد في المسح بعد هذا من النزع وغسل العضو مع ما يترتب عليه، لكنه لا يتأتى، فيمسح ويغسل ما بعده، ويقضي كمن وضع على غير طهر.
الثاني: ألا يكون: فإن قلنا لا يتأقت، فيمسح ويصلي، ولا إعادة، لأنه قد وضع أولًا على طهر، وإن أقتناه فلابد من نزعه والطهارة الكاملة قبل المسح عليه، وقد تعذر فيسمح ويعيد.
وهذا الذي ذكرته كلام محقق لو عرض على الأئمة لقبلوه.