الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الحج
قوله: واستحب النووي دخوله مكة حافيًا، وهو ما ذكره في ((البحر)) عن بعض الناس، مستدلا بقوله- تعالى-: لموسى عليه السلام: ((لقد حج هذا البيت سبعون نبيًا، كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوى تعظيمًا للحرم))، قال الأصحاب: ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، وقال في ((المرشد)): إنه يستحب أن يخرج من باب بني مخزوم. انتهى كلامه.
واعلم أن باب بنى مخزوم هو باب الصفا، وإنما يستحب الخروج من هذا لمن أراد السعي خاصة، فأما من أراد الخروج لحاجته فمن الباب الأقرب إليه، وإن خرج إلى بلده خرج من باب بني سهم، وما نقله عن ((البحر)) رأيته كذلك في نسخة منه- أي: من ((البحر)) - وكأنه سقط شيء من الاستدلال، وأصله قوله- تعالى-: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
…
} الآية [طه:12].
قوله: فإذا بلغ إلى الركن اليماني استلمه، وقبل يده، ولا يقبله، لأنه لم ينقل. انتهى.
وما ذكره من عدم نقله ليس كذلك، فقد روى الدارقطني، والحاكم في المستدرك، والبيهقي أنه- عليه السلام قبله، إلا أن البيهقي ضعفه.
قوله: ولا فرق في جواز الطواف راكبًا بين أن يكون لعذر من مرض أو لا، لأنه- عليه الصلاة والسلام لم يطف راكبًا لمرض كما رواه مسلم عن جابر، ثم إذا جاز الطواف راكبًا فهل هو مكروه؟ قال الماوردي: إن كان بغير عذر فنعم، وهو الذي أورده أبو الطيب وغيره. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن الرافعي في ((شرح مسند)) الإمام الشافعي قد ذكر أن عكرمة روى عن ابن عباس أن طوافه- عليه الصلاة والسلام راكبًا كان لمرض، وأقوى من ذلك: ما في ((البخاري))، فإنه ترجم لطوافه- عليه الصلاة والسلام بقوله: باب المريض يطوف راكبًا.
الأمر الثاني: أن الرافعي قد جزم في ((شرحيه: الكبير، والصغير))، وكذلك النووي
في ((الروضة)) بعدم الكراهة، ويتعجب من جزمه بحكم قد جزم المذكوران في مثل هذه الكتب المشهورة بعكسه.
قوله: وقد حكى الإمام عن أبي يعقوب الأبيوردي من أصحابنا وجهًا: أنه يصح طواف القدوم بغير طهارة، ويجبر بدم. انتهى.
وحكايته لهذا الوجه في طواف القدوم غلط، بل إنما حكاه الإمام في طواف الوداع فقال ما نصه: وذكر أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في أنه هل يصح الوداع من غير طهارة؟ ثم قال: يجبر بالدم. وإنما قال هذا من حيث إنه ألزم فقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم لجاز جبر الطهارة فيه بالدم، فارتكب وقال: يجبر بالدم. هذا لفظه، وإنما أوقع المصنف في هذا الوهم: أن الإمام ذكره في القسم الثالث المعقود لطواف القدوم.
قوله: لكن قد عمت البلوى بغلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير وغيره، فلأجل ذلك اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين- كما قال النووي في ((المناسك)) - إنه يعفى عنها، وأنه ينبغي أن يقال: يعفى عما يشق الاحتراز منه من ذلك، كما عفي عن دم القمل والبراغيث
…
إلى آخره.
وهذا لكلام الذي ذكره- رحمه الله يشتمل على سهو وتناقض، وذلك لأن النووي قد قال في ((المناسك)): وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين المطلعين أنه يعفى عنها، وينبغي أن يقال: إنه يعفى عما يشق
…
إلى آخر ما تقدم. وذكر في ((شرح المهذب)) مثله- أيضًا- فظن المصنف أن قوله: وينبغي
…
إلى آخره، من جملة المختار لهذه الجماعة، مع أنه للنووي لا لهم، ثم إنه لزم منه التناقض في عبارته، لأنه نقل عنهم أولا العفو مطلقًا، ثم أسند إليه ثانيًا العفو فيما يشق الاحتراز منه دون غيره.
قوله: وقد اندرج فيما ذكره الشيخ عدم صحة طواف النائم، لأنه محدث على الصحيح، وقد قال الإمام: إن هذا يقرب من صرف الطواف إلى طلب غريم، ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. انتهى كلامه.
وما توهمه- رحمه الله من أن الإمام ذكر هذا الكلام في النوم الذي يصير به الشخص محدثًا غلط، بل إنما ذكره فيما إذا كان على هيئة لا تنقض الوضوء، فقال في أوائل: فصل أوله: ((قال الشافعي- رضي الله عنه: ويخطب الإمام يوم السابع)) ما نصه: والذي يدل على ما ذكرناه: أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرف من أطراف عرفة
نائمًا كفاه ذلك، ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثل هذا من ذاك في أشواط الطواف، والنوم على هيئة لا تنقض الوضوء- فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك، فإنه لم يوجد منه فعل شيء أصلًا، وهذا محتمل في الطواف. ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم الذي صورناه موقعه من حيث لم يصرف الطواف عن النسك. هذا لفظ الإمام، وهو على العكس مما نقله المصنف، وقد ذكره الرافعي على الصواب.
قوله: وقد كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغر مما هو عليه الآن، فاشترى عمر دورًا وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وهو أول من اتخذ جدارًا للمسجد الحرام، ثم وسعه عثمان كذلك، واتخذ له الأروقة، وكان أول من اتخذها له، وقيل: أول من اتخذ عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي، وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا، قاله في ((الروضة)). انتهى كلامه.
وحاصل ما ذكره: أن المسجد حصل التوسيع فيه خمس مرات فقط، وليس كذلك، فقد أهمل سادسًا بعد عثمان وقبل الوليد- وهو ابن الزبير- والعجب أن النووي قد نقله في ((الروضة)) أيضًا، فسها عنه المصنف، ولم يتعرض المصنف لابن الزبير في التوسيع، وإنما حكى الخلاف عنه في اتخاذ الأروقة، هل صدرت عنه، أو عن عثمان؟
قوله: قال- يعن الشيخ: وإنه حمله محرم، ونويا جميعًا، أي: نوى كل منهما الطواف عن نفسه، ووجد شرطه في كل واحد منهما- ففيه قولان: أحدهما: أن الطواف للحامل.
ثم قال: والثاني: أنه للمحمول، لأن الحامل آلة له فهو كالراكب، وهذا ما اختاره في ((المهذب))، وصحهه النووي في ((المناسك)). انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذه المسألة ليست في ((مناسك)) النووي بالكلية، وليست في ((الروضة)) أيضًا. نعم، ذكرها النووي في ((شرح المهذب)) و ((تصحيح التنبيه)).
الأمر الثاني: أن النووي لم يصحح وقوعه للمحمول في شيء من كتبه، بل الذي صححه في الكتب التي ذكر فيها المسألة: وقوعه عن الحامل فقط.
قوله- في المسألة-: تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا.
ثم قال: الثاني: أن الحامل لو نوى الطواف عن المحمول لم يجر القولان، ولأجل ذلك قال النووي في ((التصحيح)): إن الحامل إذا نواه للمحمول وقع عنه.
وهذا صحيح إن كان في طواف القدوم أو في طواف متطوع به، أما إذا كان في طواف الفرض فلا، لما ستعرفه. انتهى.
ومستند تفصيله بين طواف القدوم وطواف الفرض: أن طواف القدوم يحتاج إلى النية، فإذا صرفه الحامل إلى المحمول انصرف إليه، ولا يجئ فيه القولان، وأما طواف الإفاضة فإن في احتياجه إلى النية وانصرافه بالصرف خلافًا، فيجيء القولان كذلك، إذا علمت ما قلناه ففي كلامه أمور:
أحدها: أن استدلاله بكلام ((التصحيح)) على تقوية ما أفهمه كلام الشيخ من عدم جريان القولين، استدلال عجيب، فإن النووي في ((التصحيح)) قد ساق هذه المسألة مساقًا ينصب عليه لفظ الأصح، ولاسيما أن عادته فيه أنه إن أثبت الخلاف عبر بـ ((الأصح)) ونحوه، وإن نفاه عبر بـ ((الصواب)).
الثاني: أن هذا الكلام منه يقتضي الجزم بأن طواف القدوم يحتاج إلى النية، وليس كذلك، فإن كلام الشيخ مقتض لإثبات الخلاف، وإلحاقه بطواف الإفاضة، على ما نبه عليه هو- أعني ابن الرفعة- ونقل عن الشيخ أبي حامد وغيره ما يوافقه- أيضًا- ولم ينقل الجزم بالوجوب إلا عن إشارة وقعت في كلام ابن يونس، وحينئذ فيمشي كلام الشيخ هنا وهناك على طريقة واحدة، ويكون ما أفهمه كلامه هنا موافقًا لما أفهمه هناك، بل كلام المصنف يقتضي شهرة القول به، فإنه قال هناك: وطواف القدوم يحتمل إجراء الوجهين فيه كما يشعر به إيراد الشيخ وسياق كلامه، لأنه من سننه الداخلة في العبادة، بل قال المرني: إنه نسك فيه حتى يجب بتركه الدم، وإذا كان من سننه كانت النية منسحبة عليه، لكن في ((ابن يونس)) ما يفهم الجزم باشتراط النية فيه. هذا كلامه [أو].
قوله- أيضًا في المسألة-: ويجوز أن يكون قوله: ونويا جميعًا، أي: نويا الطواف عن المحمول، فإن فيه قولين حكاهما الفوراني وغيره: أحدهما: أنه يقع عن الحامل، والثاني: أنه يقع عن المحمول، وهو الأصح، وفيه قول ثالث: أنه يقع عنهما، حكاه النووي في ((المناسك)). انتهى كلامه.
وما نسبه إلى ((المناسك)) من حكاية الثالث فغلط، إنما حكاه وجهًا منضمًا إلى وجهين آخرين.
قوله: نعم، قال الإمام تبعًا للقاضي الحسين: إنه لو خلف من الحجر مقدار الستة الأذرع على رأيه، واستظهر ثم اقتحم في طوافه الجدار وراء ذلك، وتخطى الحجر على هذا السمت- اعتد بطوافه، وإن كان ما جاء به مكروهًا. انتهى.
وما اقتضاه كلامه من إسناده الإجزاء والكراهة إلى القاضي الحسين صحيح بالنسبة إلى الإجزاء خاصة، وأما الكراهة فلم يتعرض لها بالكلية، بل ولا حكم بعدم الاستحباب، فضلًا عن الكراهة.
قوله: وإن طاف من غير نية فقد قيل: يصح، لأن نية الحج تأتي عليه كما تأتي على الوقوف، وهذا ما صححه النووي، وقيل: لا يصح، لأنه عبادة تفتقر إلى السير فافتقرت إلى النية كركعتي المقام، وحكى في ((الوسيط)) وجهًا ثالثًا: أنه يجزئ، إلا إذا صرفه إلى طلب غريم وقصد آخر، وهذا من تخريج الإمام، وجزم به القاضي أبو الطيب. انتهى كلامه.
وما نقله- رحمه الله عن النووي من تصحيح الأول غلط، بل إنما صحح في كتبه كلها الوجه الثالث، وسبب وقوع هذا الغلط: أن النووي صحح- أولًا- أن النية لا تجب، وأطلق، ثم أفرد الصرف بمسألة أخرى وذكرها عقبها، وصحح فيها عدم الإجزاء، فوقف المصنف على كلامه الأول، وغفل عن الأخير.
قوله: قال الماوردي: ويستحب له بعد استلام الركن وقبل خروجه- أي: إلى المسعى- أن يقف في الملتزم، ويدعو عنده، لأنه- عليه الصلاة والسلام فعله، وأن يدخل الحجر ويدعو تحت الميزاب، لقوله- عليه الصلاة والسلام:((ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له)).
ثم قال: وقال ابن الصلاح: ظاهر الحديث الصحيح يدل على أن هذا مما لا ينبغي أن يشتغل به عقب الطواف الذي يستعقب السعي، بل يخرج إلى السعي، ويؤخر ذلك إلى أوان آخر. انتهى كلامه.
وما نقله عن الماودري من أنه يستحب ذلك بعد الطواف المستعقب للسعي قبل خروجه إلى السع، فغلط، فإن الماوردي لم يصرح باستحبابه بعد هذا الطواف، كما نقله عنه المصنف، وإنما ذكر أنه يستحب ذلك بعد الطواف، وأطلق، وحمله- على ما أشار ابن الصلاح- على استحبابه لا دافع له لو اقتصر عليه، لاسيما أنه بعد ذكره لهذا الكلام ذكر ما يعين ما قلناه، فقال: فصل: فإذا ثبت أن تقدم الطواف شرط في صحة السعي، ففرغ من طوافه، وعاد إلى استلام الحجر بعد صلاته- خرج من باب
الصفا. هذا لفظه، وسبب وقوع المصنف في هذا: أن النووي اختصر عبارة ابن الصلاح بعبارة موهمة، فصرح المصنف بما أوهمه كلامه، وهذا من آفات كثرة الوسائط.
قوله: وقد اتفق الكل على أن من شرط السعي: أن يقع بعد طوافٍ ولو نقلًا، إلا طواف الوداع، فإنه لا يتصور وقوعه بعده. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أن المكي إذا أحرم بالحج ثم طاف طواف نفل- أنه يصح السعي بعد، وليس كذلك، فإنه لم يجوزه أحد، وممن جزم بامتناعه النووي في ((شرح المهذب))، وشرط أن يكون بعد طواف القدوم أو الإضافة، واقتضاه- أيضًا- كلام الرافعي.
الأمر الثاني: أن ما قاله من عدم تصور وقوعه بعد طواف الوداع قلد فيه الرافعي، ومنعه له غريب، وذلك لأن من أراد الخروج من مكة فإنه مأمور بطواف الوداع، لكن اختلفوا: هل من شرطه الخروج إلى مسافة القصر أم لا كما هو معروف في موضعه؟ إذا علمت ذلك، فإذا أحرم بالحج من مكة، ثم أراد الخروج- قبل الوقوف- لحاجة، فطاف للوداع، وخرج لحاجته، ثم عاد، وأراد أن يسعى بعد عوده- فهذا سعي وقع بعد طواف الوداع، وتخلل السفر بينهما لا يقدح، فإن المولاة لا تشترط فيه، وهذا التصوير واضح جلي، وقد ذكره صاحب ((البيان)) عن الشيخ أبي نصر، وزاد على ذلك فجزم بالصحة وقال: إنه مذهب الشافعي. ونقله النووي في ((شرح المهذب)) عنه، وسلم التصوير، لكنه نازع في الصحة، فقال: ولم أره لغيره ما يوافقه. قال: وظاهر كلام الأصحاب: أنه لا يجوز إلا بعد القدم أو الإضافة. وهذا التوقف منه مع هذا النقل الصريح مردود.
قوله: والأفضل أن يقف عند الصخرات، ويجعل بطن ناقته إن كان راكبًا إلى الصخرات، اقتداء به، عليه الصلاة والسلام. انتهى.
وما ذكره من استحباب الوقوف عند الصخرات إنما هو في حق الرجل، أما المرأة فالمتسحب لها: أن تقف في حاشية الموقف، كما تقف في آخر باب المسجد. كذا جزم به النووي في ((المناسك))، وفي آخر باب الإحرام من ((شرح المهذب))، نقلًا عن الماوردي من غير مخالفة.
قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن فاته ذلك، أو وقف وهو مغمى عليه- فقد فاته
الحج أما إذا فاته ذلك، فلفوات الوقت، وأما إذا وقف وهو مغمى عليه، فلخروجه عن أهلية العبادة، وهذا ما أورده الغزالي في ((الوسيط))، موجهًا له بما ذكرناه، وصححه في ((الروضة)).
ثم قال: ويؤخذ من كلام الشيخ: أنه إذا وقف وهو مجنون فقد فاته الحج من طريق الأولى، لأنه أسوأ حالًا من المغمى عليه، وقد قيل فيهما: إنه يتم حجهما- أيضًا- وهو الذي ذكره القاضي الحسين في المغمى عليه، ولأجله اقتضى إيراد البغوي ترجيحه فيه وصححه الرافعي. انتهى.
اعلم أن الكلام في وقوفه المغمى عليه من وجهين:
أحدهما: أنه هل يكون محصلًا للحج، أو لا يحصله، بل يكون كمن لم يقف بالكلية؟
الوجه الثاني: أنه على تقدير حصوله هل يغني عن حج الفرض، أو يقع نفلا؟ فأما الأول- وهو حصول الحد- فإن فيه وجهين: أحدهما:
أنه لا يحصل، وهو الذي جزم به صاحب ((التنبيه))، ونص عليه الشافعي في ((الإملاء)).
والوجه الثاني- وهو الذي نقله الرافعي عن صاحب ((التتمة))، ولم ينقل خلافه، ولم يعترض عليه-: أنه يحصل، وتابعه على ذلك النووي في ((الروضة)) و ((شرح المهذب))، إلا أن الذي تكلم فيه صاحب ((التتمة))، ونقله عنه الرافعي والنووي: إنما هو في وقوف المجنون، غير أنه إذا ثبتت الصحة فيه ثبتت في المغمى عليه بطريق الأولى.
وأما الثاني- وهو الصحة بمعنى الوقوع عن الفرض- فحكى الرافعي فيه وجهين، وصحح أنه لا يحصل، فقال ما نصه: الرابعة: لو حضر وهو مغمى عليه لم يجزئه، لفوات أهلية العبادة، ولهذا لا يجزئه الصوم إذا كان مغمى عليه طول نهاره، وفيه وجه: أنه يجزئه اكتفاء بالحضور، ولو حضر مجنونًا لم يجزئه، قال في ((التتمة)): لكن يقع نفلا كحج الصبي الذي لا يميز. هذا كلامه، وإذا ظهر لك ما قلناه علمت أن في كلام المصنف غلطًا من وجهين:
أحدهما: في نقله عن ((الروضة)) تصحيح الفوات في حق المغمى عليه، فإن فيهما الجزم بعكسه كما تقدم.
والثاني: في نقله عن الرافعي تصحيح الإجزاء في المجنون، فإن الصحيح فيه
- كما تقدم أيضًا- عكسه، والسبب في وقوعه في الموضع الثاني هو تقليده للنووي، فإنه في ((الروضة)) قد اختصر كلام الرافعي على العكس، ثم اعترض عليه في ((زياداته)) بأن الصحيح عكسه.
قوله: فإن دفع من عرفة قبل الغروب لزمه دم في أحد القولين، وهذا ما نص عليه في القديم والجديد، وقال النووي: إنه الأصح، والخلاف مبني على أن الجمع بين الليل والنهار هل هو من واجبات الإحرام، أو من سننه؟ انتهى.
وما نقله عن النووي غلط، فإن الذي صححه في ((الروضة)) و ((شرح المهذب)) وباقي كتبه: أنه لا يجب، وصححه- أيضًا- في ((المناسك)) فقال، أصحهما: مستحب، والثاني: واجب. هذا لفظه، وسبب وقوع هذا للمصنف: أنه استنبط ذلك من كلام آخر مذكور بعد هذا في ((المناسك))، غافلًا عن هذا الذي صرح به فيه وفي كتبه كلها.
قوله: ويصلي بمزدلفة المغرب والعشاء في وقت العشاء.
ثم قال: ومحل القول باستحباب الجمع- كما قال الإمام- إذا لم يخف فوت وقت الاختيار للعشاء قبل أن يوافي مزدلفة، وفيه قولان في الكتاب الجديد: ما لم يذبه ثلث الليل، كما قاله أبو الطيب، فإن خاف فوت ذلك فيصلي في الطريق دون مزدلفة. انتهى كلامه.
واعلم أن هذا التقييد الذي نقله عن الإمام خاصة قد نص عليه الشافعي في ((الأم)) في ((مختصر الحج الأوسط)) في باب ما يفعل من دفع من عرفة، فقال ما نصه: ولا يصلي المغرب والعشاء حتى يأتي المزدلفة فيصليهما، فيجمع بينهما بإقامتين ليس معها أذان، وإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما دون المزدلفة. هذا لفظ ((الأم))، ومنها نقلت. إذا علمت ذلك فقد توجه على المصنف أمران:
أحدهما: أن هذا التقييد لابد منه، وأنه مذهب الشافعي، بخلاف ما يوهمه كلامه من انفراد الإمام به، لاسيما الرافعي، فإنه نقل عن الأكثرين أنهم أطلقوا القول بذلك.
الأمر الثاني: أن القول بامتداده إلى نصف الليل قول جديد لا قديم، كما ذكره هاهنا، لأن ((الأم)) من الكتب الجديدة، وقد نص عليه في ((الإملاء)) فقال: قال الشافعي: وأكره للرجل إذا دفع من عرفة أن يعرج حتى يأتي مزدلفة، فإن فعل لم يصل المغرب والعشاء حتى يأتي مزدلفة، إلا أن يدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة فيصلي المغرب والعشاء قبل نصف الليل حيث أدركه. هذا لفظه بحروفه، وقد
استفدنا من نصه في ((الإملاء)): أن استحباب جمع التأخير شرطه أن يريد مزدلفة، فإن لم يرد الدخول إليها فلا يستحب له هذا الجمع، وهي مسألة حسنة ومتجهة من جهة المعنى، لأن المستحب لمن كان في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إليها، وإنما تركنا هذا، التأخيره- عليه الصلاة والسلام ليجمع في مزدلفة، فيبقى فيما عداه على الأصل.
قوله: والمنقول عن الشافعي: أنه كره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع: من المسجد، والحش، والمرمى. انتهى كلامه.
أهمل موضعًا رابعًا نقص الشافعي على كراهة أخذه منه- أيضًا- وهو الحل، وقد صرح بنقل هذه الأربعة عنه وعن الأصحاب- أيضًا- النووي في ((شرح المهذب)) في الكلام على المبيت بمزدلفة.
واعلم أن التقييد بالحش لا معنى له، بل يكره الأخذ من كل موضع نجس، كذا رأيته في ((الأم))، وهو واضح، ولك أن تقول: إذا غسل هذا الحصي المأخوذ من الموضع النجس فهل تزول كراهة الرمي، لصيرورته طاهرًا، أم الكراهة باقية، لأخذه إياه من مكان مستقذر؟ فيه نظر، والثاني يؤيده استحبابهم غسل الجمار قبل الرمي بها، سواء أخذها من موضع نجس أم لا، وحينئذ فلو لم تبق الكراهة لكان يلزم ألا يصح قولهم: يكره الرمي بها، مع قولهم: يستحب الغسل، فتفطن لذلك!
والحش- بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة-: هو المرحاض، وأصله في اللغة: البستان، وإنما سمي هذا بذلك، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في البساتين قبل اتخاذ هذه المراحيض المعدة لذلك.
قوله: وكذا قوله النووي في ((الروضة)): إن الذي نص عليه الشافعي فيما إذا حصل بمزذلفة في النصف الأخير: أنه حصل له المبيت، وحكى قولًا ضعيفًا عن نصه في ((الإملاء)) و ((القديم)): أنه يحصل بساعة بعد نصف الليل وطلوع الفجر. انتهى كلامه.
والقولان اللذان حكاهما عن ((الروضة)) قد غلط في حكايتهما غلطًا أداه إلى اتحاد القولين، فإن الصواب في حكاية الثاني: أن يقول: من طلوع الشمس، لا: طلوع الفجر، فإنه قال: لو لم يحضر مزدلفة في النصف الأول، وحضرها ساعة في النصف الثاني- حصل المبيت، نص عليه في ((الأم))، وفي قول ضعيف نص عليه في ((الإملاء)) والقديم: يحصل بساعة بين نصف الليل وطلوع الشمس، وفي قولٍ: يشترط معظم الليل. هذا لفظه.
قوله- في أثناء بحث-: قال الرافعي: ولك أن تقول: هذه الاستحالة واضحة إن قيل بوجوب المبيت، لكنه مستحب على هذا القول، فعلى هذا: لا يستحب المصير إلى الكون بها في معظم الليل أو حالة الطلوع. انتهى كلامه.
وصوابه الذي قاله الرافعي: لا يستحيل المصير، بلفظ:((يستحيل)) - أعني باللام- لا بلفظ ((يستحب))، أي: بالباء.
قوله: قال في ((المهذب)): والمستحب أن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وهو راكب، لما روت أم سلمة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي من بطن، الوادي وهو راكب، وهو يكبر مع كل حصاة. انتهى.
وتعبيره بقوله: أم سلمة، تبع فيه ((المهذب))، وهو غلط، قال النوي في ((شرح المهذب)): والصواب الذي رواه جميع أصحاب كتب الحديث، ولا خلاف فيه بينهم: أنها أم سليمان. قال: وممن كذلك أبو داود وابن ماجه والبيقهي وغيرهم.
قوله: قال- يعني الشيخ-: وإذا رمى ذبح هديًا إن كان معه، لقوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] يعني: نحر الهدي، ولقول جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر. ويستحب أن يأكل من كبد هديه إذا كان متطوعًا به قبل أن يمضي إلى طواف الإفاضة، وأما إذا كان واجبًا فقد تقدم الكلام فيه، وإذا كان منذورًا فسيأتي.
ثم قال ما نصه: الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا- كما قال النووي-: ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم. انتهى كلامه.
وهذا التفسير الذي نقله عن النووي قد صرح به النووي كما قال، إلا أنه تفسير باطل يتعجب من موافقة المصنف له، فإن الهدي يطلق على ما وجب على المحرم بسبب الإحرام كدم التمتع وغيره، ويطلق على ما يسوقه المحرم- تقربًا- إلى مكة، وكل منها يشرع ذبحه في يوم النحر بعد الرمي، وكلام المصنف صريح في الموافقة على ذلك كله، فإنه مثل بالنوعين كما سبق، وإذا علمت ذلك فكل منهما لا يشترط فيه أن يكون بصفة الأضحية: فأما الواجب بسبب الإحرام، فبدليل جزاء الصيد والشجر، فإنه يجب في الصغير صغير، وفي المعيب معيب، وأما ما يسوقه المحرم ابتداء فواضح، وكذلك إذا أشار إلى ما لا يجزئ ونذر سوقه أو التزمه في ذمته، ولكن قيده بالعيب المانع من الأضحية كالصغر ونحوه، وكل هذا مشهور معروف في كتاب النذر.
قوله: وقد اقتضى كلام الشيخ هنا وفي ((المهذب)): أن الإفاضة لأجل الطواف تكون بعد الخطبة التي ذكر أنها تشرع بعد الظهر، وهو ما دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: يستحب أن يخطب الإمام يوم النحر بعد صلاة بمنى، فيعلم الناس الذبح والرمي والمصير إلى طواف الإفاضة، وذلك وجه يحكى في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب.
ثم قال: لكن في ((الأم)) أنه يطوف قبل الزوال. وقال القاضي في الكلام على الجبران: إنه الصحيح. ولم يذكر القاضي الحسين والغزالي والرافعي غيره، واختار القاضي أبو الطيب وجهًا ثالثًا في المسألة، فقال: إن كان الزمان صيفًا عجل الإفاضة في أول النهار لاتساعه، وإن كان شتاء أخرها لقصر النهار. انتهى. وما ذكره- رحمه الله في أول كلامه من دلالة كلام ابن الصباغ على أنها بعد الزوال عجيب وغفلة، فإنه كما يعلمهم النحر والرمي- وإن كان يستحب قبل الزوال، لاحتمال تركهما- كذلك أيضًا يعلمهم المسير إلى مكة وإن كانت مستحبة قبل الزوال، لاحتمال ذلك.
قوله: وأما آخر وقته- يعني رمي جمرة العقبة- فقال القاضي الحسين والماوردي وغيرهما: إنه غروب الشمس من يوم النحر. وفي ((النهاية)) وجه: أنه يمتد إلى طلوع الفجر، والصحيح: الأول.
ثم قال ما نصه: ولك أن تقول: سيأتي أن الصحيح فيما إذا أخر هذا الرمي إلى اليوم الأول أو الثاني أو الثالث من أيام التشريق وقع أداء، وهذا يدل على أن الوقت لا يخرج بما ذكر، ويجوز أن يقال: المراد بخروج الوقت هنا خروج وقت الاختيار، وما سيأتي المراد به بيان وقت الجواز، وحينئذ يكون للرمي ثلاثة أوقات: وقت فضيلة: وهو بعد طلوع الشمس إلى الزوال، ووقت اختيار وهو من الزوال إلى الغروب، ووقت جواز وهو إلى آخر أيام التشريق. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن هذا الكلام صريح في أن الأصح جواز تأخير رمي يوم إلى يوم، لكنه قد صرح بعد ذلك بتصحيح المنع، وعبر بلفظ ((الصحيح))، ذكر ذلك في الكلام على أهل السقاية في أثناء شرحه لقول الشيخ: فيرموا يومًا ويدعوا يومًا.
الأمر الثاني: أنه إذا ترك رمي يوم من أيام التشريق فإن الأصح: أنه يتداركه في باقي الأيام، ويكون أداء، هكذا قاله الرافعي وغيره، ويؤخذ منه جواز التأخير، وسيأتي ذكر ذلك في كلام المصنف واضحًا صحيحًا، وأما دعواه هنا أن ذلك سيأتي- أيضًا- في
جمرة العقبة فدعوى غير صحيحة كما ستعرفه، إن شاء الله تعالى.
قوله: وما ذكره الشيخ- أي: من جواز تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر- هو الذي أورده الجمهور، وقد حكى ابن التلمساني: أنه لا يجوز له أن يخرج من مكة حتى يطوف.
ثم قال: قلت: والذي يظهر لي أن أقول من قال: إنه يجوز له تأخير الطواف إلى آخر العمر، ليس على إطلاقه، بل هو محمول على ما إذا كان قد تحلل التحلل الأول، أما إذا لم يكن قد تحلل التحلل الأول فلا يجوز له تأخيره وتأخير ما يحصل به التحلل الأول إلى آخر العمر، بل لا يجوز تأخيره إلى العام القابل، لأنه يصير محرمًا بالحج في غير أشهره، وسنذكر مادة ذلك في باب الفوات والإحصار عن الماوردي. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من أن ما قاله التلمساني وجه مخالف للجمهور فليس بصحيح، لأن طواف الوداع واجب، ومتى طاف للوداع وقع عن الفرض، فأشار ابن التلمساني إلى هذا، وقد صرح به غيره، وهو معنى ما في ((الرافعي))، فإنه قال: وأما الحلق والطواف فلا يتأقت آخرهما، لكن لا ينبغي أ، يخرج من مكة حتى يطوف، فإن طاف للوداع وخرج وقع عن الزيارة. هذا لفظه.
الأمر الثاني: أن هذا البحث الذ ذكره فاسد، لأنه إن كان المراد بمصيره محرمًا في غير أشهر الحج هو إنشاء للإحرام فانتفاؤه معلوم، وإن أراد استدامته فلزوم حصوله مسلم، وليس يمتنع إجماعًا، فإن أشهر الحج قد انقضت بطلوع الفجر من يوم النحر، ولا يجب عليه تقديم أسباب التحلل على الفجر، بل الأفضل تأخيرها عنه.
قوله: فإن قلنا: إن الحلق نسك، حصل له التحلل الأول باثنين من ثلاثة، وهي الحلق والرمي والطواف، لما روى أبو داود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء))، وفي كتب الفقهاء أنه قال ((إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس)).
فيه تعرض إلى لخصلة واحدة، وأما اشتراط خصلتين في حضور التحلل الأول- كما يقولونه- فالحديث الدال عليه ليس مذكورًا في كتب الحديث، بل في كتب الفقهاء، وما أشار إليه من أنه لا أصل له في كتب الحديث ليس كذلك، فقد روى الدارقطني الحديث المذكور عن عائشة من ثلاث طرق، وفي كل منها ذكر الرمي
والحلق كما ذكره الفقهاء، وفيها- أيضًا- التنصيص على الطيب واللباس، إلا أنه ضم إلى الخصلتين ثالثة وهي الذبح، وقد اتفقوا على عدم اعتبارها في التحلل، ولفظ الطريق الأول:((إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل كل شيء إلا النساء، وحل لكم الثياب والطيب))، ولفظ الثاني:((إذا رمي وحلق وذبح فقد حل له كل شيء إلا النساء)) ولفظ الثالث: ((إذا رميتم وحلقتم وذبحتم حل لكم كل شيء إلا النساء))، وبالجملة فالحديث ضعيف، صرح بضعفه أبو داود.
قوله: ونص في ((الإملاء) على أنه يستحب رمي الجمرات في اليوم الأول من أيام التشريق، وفي اليوم الثاني منها راكبًا، لأنه يسير بعده، وفي ((التتمة)): أن الصحيح ترك الركوب في الأيام الثلاثة، وكأنه- والله أعلم- تمسك بما رواه أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لكن في إسناده هذا الخبر عبد الله بن عمر بن حفص العمري، وفيه مقال، وإن كان مسلم قد خرج له مقرونًا بأخيه عبيد الله. انتهى كلامه.
وما ذكره- رحمه الله تفقهًا من كون صاحب ((التتمة)) قد تمسك بالحديث المذكور غريب، فقد صرح صاحب ((التتمة)) بذلك متصلًا بالكلام الذي نقله عنه، ثم إن إخراج المصنف لهذا المستند مع علمه بضعفه دليل على عدم اطلاعه على غيره، مع أن الترمذي رواه عن ابن عمر من طريق آخر وقال: إنه حسن صحيح. وقال في ((شرح المهذب)): إنه على شرط الشيخين، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا.
قوله: ومن عجز عن الرمي استناب من يرمي عنه.
ثم قال: والعجز تارة يكون بالحبس ظلمًا- كما نقله البندنيجي عن نصه في ((الإملاء)) - وتارة بالمرض. انتهى كلامه.
واعلم أن تقييد الحبس بكونه ظلمًا يشعر بأن المحبوس بحق لا يستنيب، وليس كذلك، بل متى عجز المحبوس بحق أو بغيره استناب، لوجود العلة، وقد صرح به النووي في ((شرح المهذب)) فقال ما نصه: ويجوز للمحبوس الممنوع من الرمي الاستنابة فيه، سواء كان محبوسًا بحق أو بغيره، وهذا متفق عليه. هذا لفظ النووي، وصورة المحبوس بحق: أن يجب عليه قود لصغير أو مجنون، فإنه يحبس، وما أشبه هذه الصورة من جهة المعنى، فأما إذا حبس بدين قادر عليه فلا يستنيب جزما.
قوله: نعم، لو ترك رمي اليوم الأول: فهل يأتي به في الثاني، أو رمي اليوم الأول
والثاني فهل يأتي به في اليوم الثالث أداء؟ فيه قولان مأخذهما: أن أيام منى هل تجعل كاليوم الواحد أم لا؟ فالقديم والجديد وأحد قوليه في ((الإملاء)): أنه لا يأتي به أداء، بل يكون لكل يوم حكم نفسه بفوت الرمي فيه بغروب الشمس منه، قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ، وادعى الرافعي والإمام أنه الأصح. انتهى كلامه.
واعلم أن ما نقله- رحمه الله عن الإمام والرافعي أنهما صححا أنه لا يكون أداء غلط عجيب: أما الرافعي فصحح في ((الشرحين: الكبير، والصغير)) أنه يتدارك أداء، وعبر بـ ((الأظهر))، وأما الإمام فحكى خلافًا من غير ترجيح في أنه هل يتدارك أم لا؟ وكذلك في أن المأتي به على القول بالتدارك قضاء أم أداء، لم يرجح فيه شيئًا أيضًا، ولا حكى فيه ترجيحًا عن غيره، وقد سبق في الكلام على جمرة العقبة أن المصنف قد ناقض كلامه في هذه المسألة.
قوله: أما لو ترك رمي يوم النحر حتى دخلت أيام التشريق فهل يأتي به في أيام التشريق، ويكون حكمه حكم رمي اليوم الأول من أيام التشريق إذا فاته فيما ذكرناه؟ فيه طريقان: منهم من قال: نعم، وهي الطريقة الصحيحة في ((الشامل))، وجعلها البندنيجي المذهب، واختارها في ((المرشد)). انتهى كلامه.
وهو يقتضي أنه إذا فعله فيها لا يكون أداء على الصحيح عند هؤلاء، وليس كذلك، فإن صاحب ((الشامل)) لم يذكر سوى تصحيح الإتيان به، وكذلك صاحب ((المرشد))، إلا أنه جزم به ونقله عن النص فقال: فأما من أخر رمي جمرة العقبة حتى غربت الشمس من يوم النحر فإنه يرميه في أيام التشريق، نص عليه الشافعي. هذا لفظ ((المرشد))، ومن النسخة التي كانت لابن الرفعة وعليها خطه بذلك نقلت.
قوله: فعلى هذا: إذا ترك الرمي في الأيام الأربعة حتى مضت أيام التشريق لزمه دم واحد على الصحيح.
ثم قال: في آخر المسألة ما نصه: قال الرافعي: والأصح ما ذكره في ((التهذيب)): أنه تلزمه أربعة دماء. انتهى كلامه.
وما نقله- رحمه الله عن الرافعي غلط منه عليه، فإن الرافعي قد قال ما نصه: والأصح منها- على ما ذكره في ((التهذيب)) -: إيجاب أربعة دماء.
ثم قال: لكن الجمهور قالوا: إن قلنا بتدارك رمي بعضها في الباقي اكتفينا بدم، لأن جعلنا الرمي كالشيء الواحد. انتهى، فأسقط- رحمه الله لفظ ((على))، وذهل عما نقله عن الجمهور، فوقع في الغلط، ولم ينقل في هذه المسألة عن ((التهذيب))
إلا ما ذكرته لك، وقد صرح بوجوب دم واحد في ((الشرح الصغير))، وكذلك النووي في ((الروضة)).
قوله: قال أهل اللغة: يقال: أبق العبد- بفتح الباء- إذا هرب من سيده. انتهى.
قال الثعالبي في كتاب ((سر اللغة)) في الفصل الثالث من الباب: إنه لا يقال للعبد: آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل، وإلا فهو هارب.
وما ذكره المصنف من فتح الباء هي لغة، وفي لغة أخرى بالكسر، والمضارع فيهما متعاكس.
قوله: ولو رحل من منى، فغرب عليه الشمس وهو سائر قبل انفصاله منها- لم يلزمه الرمي أيضًا ولا المبيت، لأن عليه في الحط بعد الارتحال مشقة. نعم، لو كان مشغولًا بالتأهب فغربت عليه فوجهان في ((الشامل)) وغيره: أحدهما: لا يلزمه المقام، وهو المذكور في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب لا غير، واختاره في ((المرشد))، وقال الرافعي: إن الأصح مقابله. انتهى كلامه.
وما نقله عن الرافعي من تصحيح الوجوب فغلط، فإنه قد صحح جواز الانصراف، وذكر مثله في ((الروضة)) - أيضًا- ولم يتعرض للمسألة في ((المحرر)) ولا في ((الشرح الصغير)).
قوله: ويستحب لمن حج أو اعتمر أن يدخل البيت ويصلي فيه النفل.
ثم قال: أما صلاة الفرض فالقياس أن تكون خارج البيت أفضل، للخروج من خلاف الأئمة، فإن مالكًا لا يرى بالصحة، وهذا كما قلنا: إن الأفضل إيقاع ما فاته من الصلاة منفردًا، للخروج من خلاف أبي حنيفة، فإنه لا يرى بصحة ذلك في جماعة، لكن في ((مناسك)) النووي أنه إن رجا كثرة جماعة فالصلاة خارجها أفضل، وإن كان لا يرجوها فداخل البيت أفضل. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره هنا في الفائتة سهو، وقد ذكره على الصواب في أوائل صلاة الجماعة فقال: إن الجماعة فيها- يعني الفائتة- سنة قولًا واحدًا، لأن في ((الصحيح)): أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الصبح في جماعة حين فاتتهم في الوادي. وما أطلق الرافعي عند الكلام فيما إذا أقيمت الصلاة وهو في قضاء فائتة من أن الفائتة لا تشرع لها الجماعة، فمحمول على أنه لا يصليها في جماعة خلف من يصلي أداء، لأن صلاة الفائتة عندنا لا تستحب خلف من يصلي أداء- كما قاله المتولي وغيره-
للخروج من خلاف العلماء في صحة ذلك. هذا كلامه، وقد اتضح به وجه الغلط، وحاصله: أنه التبس عليه فعلها في جماعة خلف مؤداة بأصل فعلها في جماعة.
الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أنه لم يقف على هذه المسألة إلا في ((المناسك))، وهو غريب، فقد صرح بها في ((الروضة)) في باب استقبال القبلة، وزاد على ذلك فنقلها عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: وذكر مثله في ((شرح المهذب))، وأجاب عما تمسك به المصنف من الخروج من الخلاف بأنه إنما يستحب الخروج منه إذا كان محترمًا، فأما ما لا حرمة له- وهو المخالف للأحاديث الصحيحة- فلا.
واعلم أن الأصحاب قالوا باستحباب ركعتي الطواف خلف المقام، فإن تعذر فالمستحب الحجر، فإن تعذر ففي المسجد، ثم في أي موضع شاء. ولم يتعرضوا لفعلها في الكعبة، فهل يقال: إنه أفضل من جميع ما سبق، عملًا بما تقدم من الإطلاق، وإنما سكتوا عنه لعدم تيسيره في الغالب، بدليل أنه أفضل من الحجر ومن المسجد بلا شك، ولم يصرحوا بتقديمه عليهما، أو يقال: المقام يقدم على البيت، لفعله- عليه الصلاة والسلام وتكون هذه الصلاة مستنثاة من ذلك الإطلاق؟ فيه نظر.