الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب اختلاف المتبايعين
قوله: ونص الشافعي هنا أن الحكم يبدأ بيمين البائع، وفي قول مخرج: بيمين المشتري، وفي قول: أنهما يستويان.
ثم قال: وهل هذا الخلاف في الاستحباب أو الاستحقاق؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، أظهرهما: الأول، والذي نقله: الإمام الثاني. انتهى.
وما نقله عن الإمام من كون التقدم على سبيل الاستحقاق غلط، فإن الإمام لم يتكلم في هذه المسألة بشيء. نعم، نقل الإمام وجوب تقديم النفي على الإثبات، فسرى الوهم إلى المصنف بسببه، فاعلمه.
قوله: فيحلف: إنه ما باع بكذا، ولقد باع بكذا، ووراءه وجوه أخر، أحدها: أنه يكتفي بيمين النفي، قياسًا على سائر الخصومات، وهو مخرج من نصه فيما إذا كان في يد رجلين دار، فادعى كل منهما أن جميعها له، فإنه قال: يحلف كل منهما على مجرد نفي استحقاق صاحبه ما في يده، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالآخر يحلف يمينًا أخرى على الإثبات. انتهى.
وما ادعاه من أن هذا هو القول المخرج من مسألة الدعاوى غلط، وإن كان وجهًا منقولًا، فإن الذي ذكره الأصحاب كلهم- حتى الرافعي- أن المخرج كالأول في أنه لابد من يمين أخرى للإثبات- أيضًا- إلا أنه لا يأتي بها متصلة بيمين النفي، بل بعد حلف صاحبه على النفي، فحلف الأول يمين النفي، ثم يحلفها الثاني، ثم يحلف الأول يمين الإثبات، ثم يحلفها- أيضًا- الثاني، حتى لو حلف الأول يمين النفي، فامتنع الثاني عنها- فلا يقضى للأول حتى يحلف يمين الإثبات، ولو امتنع الأول عن النفي وحلف الثاني عليهما- قضي له. هكذا قاله الرافعي في المسألتين، على خلاف ما يقتضيه كلام المصنف، وعلله الرافعي باحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه في ما يدعيه هو، وقد تفطن المصنف في ((المطلب)) لذلك، فذكره على الصواب كما ذكره غيره.
قوله: وقد خرج الأكثرون قولًا إلى مسألة الدعوى في الدار من مسألتنا: أنه يكتفي
فيها بيمين واحدة جامعة بين النفي والإثبات.
وحكى الإمام الغزالي ذلك في الدعاوى، وأثبت هنا التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا، وقال: إن مسألة الدار لا خلاف فيها. انتهى.
واعلم أن التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا أشهر من عكسه، ودليله ما حكاه المصنف هنا عن الإمام والغزالي، والأصح: القطع في مسألتنا بالمنصوص كما قاله الرافعي، وطريقة التخريج ضعيفة عند الأصحاب، فإذا كانت التخريج في مسألتنا ضعيفة عند الأصحاب، مع أن الخلاف فيها أشهر من عكسه- فكيف يستقيم مع هذا أن يكون الأكثرون قائلين بالتخريج في عكسه؟! والذي أوقع المصنف في هذا: أن الرافعي قال: إذا فرعنا على التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا فهل يخرج من مسألتنا إلى مسألة الدار؟ قال كثيرون: نعم، والحق خلافه. فذهل المصنف عن التفريع، وسبق وهمه من ((الكثيرين)) إلى ((الأكثرين))، وقد ذكر الرافعي ذلك في كتاب الدعاوى، وعبر بما هو أوضح من تعبيره هنا، فقال: والطريق الثاني: أنهما غير مقرين بحالهما، ولكن يخرج من نصه في هذه المسألة قول في التحالف، وفي التخريج من التحالف اختلاف لأصحاب الطريقة الثانية.
قوله- في المسألة-: والرابع: نقل القاضي أبو حامد في ((جامعه)): أن من أصحابنا من قال: يحلف كل منهما يمينين، فيقول البائع: والله ما بعت بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت بكذا، ثم يقول البائع: والله لقد بعته بكذا، ويقول المشتري: والله لقد اشتريته بكذا. انتهى.
هذا قد تقدم الكلام عليه، وأنه هو القول المخرج، وحينئذ فنتحصل فيما سبق على ثلاثة أوجه فقط، لا على أربعة.
قوله: وإن قلنا: يحلف كل واحد يمينين، فإذا حلف الأول على النفي، ونكل الثاني عنه- عرضت على الأول يمين الإثبات، فإن حلف قضي له، وإن نكل لم يقض له، لاحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه فيما يدعيه.
وعن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا. انتهى كلامه.
ومتقضاه: أن ما قاله الشيخ أبو محمد وجه آخر مخالف لما تقدم، وليس كذلك، بل هو تفريع على عدم القضاء له، ولهذا عبر الرافعي بقوله ثم: عن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا، لأن نكول المردود عليه عن يمين الرد نازل في الدعاوى منزلة حلف الناكل أولًا. هذا لفظه، فتوهم المصنف أنها مقالة أخرى.
قوله: ولو حلفا على النفي فوجهان، أصحهما- وبه قال الشيخ أبو محمد-: أنه يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى يمين الإثبات، لأن المحوج إلى الفسخ جهالة الثمن، وقد حصلت، وهذا يظهر أنه عين القول المخرج
…
إلى آخر ما قال.
وهذا الذي قاله عجيب- أيضًا- فإن هذا تفريع على أنه يحلف يمينين كما ذكره، والذي ذكره أولًا وادعى أنه المخرج إنما هو الاكتفاء بيمين النفي.
قوله: وقيل: لا ينفسخ إلا بالحاكم، لأنه فسخ مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم، كالفسخ بالعنة والإعسار. انتهى.
وما جزم به من كون الفسخ بالعنة لا ينفذ إلا من الحاكم قد ناقضه في موضعه- وهو باب الخيار في النكاح- فقال: وفي استقلالها بالفسخ وجهان، أقربهما- وذكر في ((التتمة)) أنه المذهب-: الاستقلال، كما يستقل بفسخ المبيع بالعيب، والثاني- وهو مذهب العراقيين-: أن الفسخ إلى الحاكم. هذا كلامه.
قوله: ولو رهن المبيع، ثم تحالفا- قال الرافعي: يخير البائع بين أخذ القيمة والصبر إلى انفكاك الرهن، فإن أخذ القيمة كانت للحيولة على الأصح.
قلت: وما قاله الرافعي من أن البائع يتخير فيه نظر، فإن الغزالي حكى فيما إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، وكان الصداق مرهونًا: لو قال الزوج: أنتظر الفكاك للرجوع، فلها إجباره على قبول القيمة، خيفة من غرر الضمان إن قلنا: إن الصداق مضمون في يدها، وإن قلنا: لا ضمان، فهل يلزمه إجابتها؟ فيه وجهان. ومنشأ هذا: أنه قد يبدو له المطالبة بالقيمة، وتخلو يدها في ذلك الوقت عن النقد. وما ذكره من المعنى موجود في مسألتنا. انتهى ملخصًا.
وما حاوله من التسوية بين المسألتين قد أجاب عنه في ((شرح الوسيط)) بأن القيمة إذا أخذت كانت عين الحق، وهنا إذا أخذت لا تكون عين الحق، بل للحيولة على الأصح كما تقدم.
قوله: وإن اختلفا في المبيع، فقال البائع: بعتك هذه الجارية بألف في ذمتك، وقال المشتري: بل بعتني هذا العبد بها- فالذي حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي: أنهما لا يتحالفان، واختاره الإمام والبغوي. انتهى.
وما حكاه عن الإمام من اختيار المنع ليس الأمر فيه كما قال، بل حاصل كلامه: الجواز، فإنه خرج الخلاف في هذه المسألة على الخلاف فيما إذا أقر لإنسان بألف من ثمن مبيع، فقال: بل عن قرض- هل يملك المطالبة أم لا؟ فإن قلنا: إنه يملك
المطالبة به، صار كالمعين، فإنه لو وقع مثل ذلك في العين ملك المطالبة بها وجهًا واحدًا، وإن قلنا: لا يملك المطالبة به، فلا تحالف. ثم إن الإمام صحح اللزوم في مسألة الإقرار كما ذكره في موضعه، فاقتضى أن الصحيح التحالف، والغريب: أن المصنف مع ذكره لما ذكره أولا عن الإمام من اختيار المنع، قد نقل هذا التخريج بعد ذلك، ولكن السبب فيه: أن الرافعي قد وقع له- أيضًا- نقل اختيار ذلك عن الإمام، فقلده فيه المصنف، ولهذا عبر بعبارة الرافعي، ثم بعد ذلك نظر في كلامه فأخذ التخريج منه.
قوله في المسألة: وحكى القاضي أبو الطيب أن التحالف يجري في هذه الصورة- أيضًا- واختاره ابن الصباغ، واستدل له القاضي بأن ابن الحداد قال: إذا اختلف الزوجان، فقال: مهرتك أباك، فقالت: بل مهرتني أمي تحالفا. انتهى.
وهذا التعبير الذي ذكره يقتضي عادةً أن ابن الصباغ لم يستدل بما استدل به القاضي، لأنه نقل عنهما معا القول بالتحالف، وأفرد القاضي بهذا الاستدلال، ولم يقل: واستدلا، فدل على ما قلناه، وليس كذلك، بل الاستدلال وقع منهما- أيضًا- فاعلمه.
قوله: ولو اختلفا في التسليم أجبر البائع على ظاهر المذهب، وحينئذ فإن كان الثمن مع المشتري أجبر على إعطائه، وإلا حجر عليه في جميع ماله إلى أن يحضر الثمن، فإن كان- أي الثمن- في بلد آخر، نظر: إن كان بينهما مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ، لتصرره بالتأخير، فإن فسخ فذاك، وإن صبر إلى الإحضار دام الحجر.
ثم قال ما نصه: قال الرافعي: وحكي الإمام عن ابن سريج: أنه لا يفسخ، ولكن يرد المبيع إلى البائع ويحجر على المشتري، ويمهل إلى الإحضار، وادعى في ((الوسيط)) أنه الصحيح، وإن كان بينهما دون مسافة القصر فهو كما لو كان في البلد، أما لا لو كان على مسافة القصر؟ فيه وجهان. هذا آخر كلام الرافعي، ومقتضاه: أن خلاف ابن سريج فيما إذا كان المال في مسافة القصر، والذي رأيته فيما وقفت عليه من ((النهاية)): أن ابن سريج قال: إن كان ماله غائبًا عن المجلس فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ولا يحجر عليه، ويرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن، وإذا انتهى الأمر إلى الامتناع إلى الوصول إلى الثمن، لغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعًا ثبت له الفسخ. انتهى كلام ابن الرفعة، رحمه الله.
والكلام عليه متوقف على نقل كلام الإمام، فنقول: قال في ((النهاية)) ما نصه: وقال
ابن سريج: إن كان ماله في البلد، ولكن كان غائبًا عن مجلس التسليم- فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ويحجر عليه، ولا يرد المبيع إلى البائع، فأما إذا كان ماله غائبًا عن البلد فليرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن، ولا يثبت حق الفسخ عند ابن سريج أصلًا بهذا الوقف الذي نص عليه الشافعي، وإنما يثبت إذا انتهى الأمر إلى الإعسار أو إلى امتناع الوصول إلى الثمن بغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعها. هذا كلام الإمام.
إذا علمت ذلك علمت أن في كلام المصنف أمرين:
أحدهما: أن ما اعترض به على الرافعي من أن الإمام لم يحك مقالة ابن سريج في حالة غيبة المالك، وأنما حكاها عنه فيما إذا كان ماله في البلد- غلط، سببه إسقاط من كلام الإمام، فإن الإمام قد ذكر المسألتين كما قد أوقفتك عليه، وهما: مسألة الرافعي، ومسألة المصنف، فأسقط المصنف من كلام الإمام من لفظ ((البائع)) إلى ((البائع)): إما لانتقال نظره، وإما لغلط في نسخته.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن ((النهاية)) فيما إذا كان ماله في البلد غائبًا علن المجلس، أن ابن سريج قال: إنه لا يحجر عليه، وير المبيع إلى البائع- غلط على العكس مما في ((النهاية))، فإن فيها عنه إثبات الحجر ونفي الرد كما قاله تقدم من حكاية لفظه، فتأمله. وقد وقع في ((الرافعي)) هنا- أيضًا- غلط في هذه المسألة تبعه عليه في ((الروضة))، فإنه نقل عن ابن سريج أمرًا ثالثًا، وهو أنه يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري، أعني بإثبات الأمرين، فتفطن.