الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة الصلاة
قوله: ومحل النية القلب.
قيل: ولأجل ذلك سميت نية، لأنها تفعل بأنأي عضو في الجسد وهو القلب. انتهى.
وهذا للفظ لم أقف على ضبطه.
قوله: قال أبو إسحاق المروزي: إنه لابد من وصف الصلاة بكونها فرضًا، لتتميز عن صلاة الصبي والصلاة المعادة في جماعة، وقد حكاه الإمام عن صاحب ((التخليص)) - أيضًا- وقال الرافعي: إنه الأظهر عند الأكثرين. قال الرافعي عند الكلام على نية الوضوء: وهو يجري في سائر العبادات المفروضة. والبندنيجي والماوردي وغيرهما قالوا: إنه لا يجري في الحج والعمرة والطهارة، لأنه لو غير ذلك إلى نفل لانعقد بالفرض دون النفل، قال بعضهم: ووجه أبي إسحاق يجري في صلاة الجنازة والمنذورة إن قلنا: يسلك به مسلك الواجب. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن ما نقله عن الإمام من كونه نسب هذا الوجه إلى صاحب ((التلخيص)) سهو، فإن الإمام لم يذكر ذلك، ولا ذكره- أيضًا- صاحب ((التلخيص)) لا في ((التلخيص)) ولا في ((المفتاح)).
الأمر الثاني: أن كلام المصنف صريح أو كالصريح في أن الرافعي أجرى الوجه المذكور في الطهارة، ولهذا استثناها من كلامه كما استثنى الحج والعمرة، وهو غلط، فإن الرافعي صرح بعكسه، فقال: والأولى ألا نجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات، بل نعتبرها للتمييز، ولو كان الاعتبار على وجه القربة لما جاز الاقتصار على أداء الوضوء وحذف الفريضة، لأن الصحيح أنه يشترط التعرض للفرضية في الصلاة وسائر العبادات، وقد نصوا على أنه لو نوى أداء الوضوء كفاه، بل كان يلزم أن يجب التعرض للفريضة وإن نوى رفع الحدث أو الاستباحة. هذا لفظ الرافعي.
الأمر الثالث: أن ما نقله عن بعضهم من جريانه في صلاة الجنازة، واقتضى كلامه استغرابه- هو المجزوم به في ((الرافعي)) في موضعه.
قوله: وقد اعترض الرافعي على اشتراط الفرضية فقال: إن عنى بالفريضة في هذا المقام كونها لازمة على المصلي بعينه وجب ألا ينوي الصبي الفريضة بلا خلاف، والأئمة لم يفرقوا بين الصبي والبالغ، بل أطلقوا الوجهين. وإن عنى بها كون الصلاة من الصلوات اللازمة على أهل الكمال: فمن نوى الظهر أو العصر فقد تعرض لإحدى الصلوات اللازمة على أهل الكمال، وكونها ظهرًا أخص من كونها صلاة لازمة عليهم، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم. وإن عنى بها شيئًا آخر فليلخصه أولًا، ثم يبحث عن لزومه. قال: وبهذا كان التعرض للصلاة مغنيًا عن التعرض للفريضة ونحوها من الأوصاف. انتهى كلامه.
وما نقله عن الرافعي في آخر كلامه غلط، فإن الرافعي عبر بقوله: ولهذا كان التعرض للصلاة مغنيًا عن التعرض للعبادة. هذه عبارته، وهو استدلال على أن الأخص يغني عن الأعم، فتوهم المصنف أن المراد استنتاج عدم اشتراط الفريضة، فأتى بها عوضًا عن العبادة، وعبر بقوله: وبهذا أغني، بالباء عوضًا عن اللام، وذهل عن تعبيره هو: بالصلاة، فإن الصلاة لا تغني عن الفريضة قطعًا.
قوله: وبعضهم ينسب إلى الشيخ أبي حامد وجوب التعرض للقضاء، ويسكت عن التعرض للأداء، وقد حكاه البندنيجي هكذا عن نص الشافعي في ((الأم))، ولم يحك غيره. انتهى.
وما نقله عن البندنيجي من أن الشافعي نص عليه ليس كذلك، فقد راجعت كلام البندنيجي من النسخة التي كان المصنف ينقل منها، فلم أر فيه نسبة ذلك إلى الشافعي، بل لم ينقل عن الشافعي في هذه المسألة شيئًا بالكلية. نعم، ذكر ما نسبه المصنف إلى الشيخ أبي حامد من وجوب نية القضاء، وسكت عن الأداء، وكلامه يقتضي عدم وجوب نيته، ونص الشافعي في ((الأم)) يدل على الاكتفاء بتعيين المكتوبة، وقد قنله عنه في ((المطلب)).
قوله: لأن فعل النفل المطلق قبل الصبح وقبل صلاة الفجر لا يجوز على وجه، وبعد صلاة الصبح لا يجوز بلا خلاف. انتهى.
وما ادعاه من عدم الخلاف غريب، فإن الكراهة حيث تثبت في الأوقات المكروهة هل هي للتحريم أو للتنزيه؟ على وجهين مشهورين.
قوله: وقيل يجزئ: الأكبر الله، لأنه ينطلق عليه اسم التكبير، والذي اختاره القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري والماوردي والإمام: أنه لا يجزئ، وقال البندنيجي: إنه المذهب. ولم يحك القاضي الحسين غيره، لأن فيه تغيير ما ورد به الشرع من الترتيب، وقال في ((الشامل)): إن الشيخ أبا علي علله بأنه قدم النعت على المنعوت وهو لا يجوز، وأن بعض الأصحاب رد عليه ذلك وقال: هو جائز، كقوله: الخالق الله.
قال بعضهم: والتعليل والرد كلاهما فاسد، فإن ((الأكبر الله)) ليس بنعت ولا منعوت، وإنما هو مبتدأ وخبر، ولأن اسم ((الله)) معرفة و ((الأكبر)) نكرة، ولا تنعت معرفة بنكرة.
ثم قال: وهذا الخلاف هل يجري في ((الله أكبر))؟ فيه طريقان
…
إلى آخره.
واعلم أن تعبيره بالشيخ أبي علي فيما نقله عن ((الشامل)) غلط، فإن المراد بهذا اللفظ إنما هو السنجي، وليس له ذكر هنا، وإنما المذكور هنا أبو علي الطبري، ولهذا عبر في ((الشامل)) بقوله: وقال أبو علي في ((الإفصاح)). وهذا أقدم من الأول، وقد رأيت ما نقل عنه في تصنيفه المذكور، فتوهم المنصف أنهما واحد فصرح به، وتعبيره- أيضًا- في تتمة ما نقله في ((الشامل)) عن ((الإفصاح)) بقوله: وهو لا يجوز، ليس كذلك- أيضًا- بل إنما عبر بقوله: وذلك بعيد في العربية. هذه عبارته في ((الإفصاح))، ومنه نقلت. نعم، عبر في ((الشامل)) في النقل عنه بقوله: فلا يقدم، فتصرف فيه، وعبر بما نقلته عنه.
وما ذكره- أيضًا- من أن ((الأكبر)) نكرة
…
إلى آخره غلط فاحش، وكأن هذا القائل ذكره في ((أكبر)) العاري عن لام التعريف، فالتبس على المصنف، وكلام المصنف في هذا كله عجيب ساقط سببه الكلام فيما لا يحسنه، أو نقله عمن هو بهذه الصفة.
قوله: ولا خلاف في أنه إذا قال: الله هو أكبر، أو: الله أكبار- أنه لا تنعقد صلاته، لأن ((أكبار)) جمع ((كبر)) وهو الطبل. وهل يستحب أن يمد التكبير، أو يجذمه وهو قطع التطويل؟ فيه وجهان في ((التتمة)). انتهى.
المراد باللفظ الأول: أن يأتي بهاء واحدة، ويمدها حتى تصير بمنزلة الضمير المنفصل. والكبر- بكاف وباء موحدة، مفتوحتين- قال ابن الأثير: هو الطبل ذو الرأسين، وقيل: هو الذي له وجه واحد. والجذم- بجيم وذال معجمة- هو القطع.
قوله- نقلًا عن الشيخ أبي حامد-: ويرفع يديه مع التكبير حذو منكبيه، فإذا انقضى التكبير حط يديه، لأن الرفع كان لأجله وقد زال.
ثم قال: وما ذكره الشيخ هو المحكي في ((تعليق)) البندنيجي عن نصه في ((الأم)). وقيل: ينبغي أن يفرغ من رفع يديه مع فراغ التكبير، كما بدأ برفعهما معه، لأ الرفع لأجل التكبير، وهذا ما حكاه في ((المهذب))، وقال: إن سبق بيديه أثبتهما مرفوعتين حتى يفرغ من التكبير، نص عليه في ((الأم))، وعن أبي إسحاق وأبي علي: أنه يكون انتهاء الرفع مع انتهاء التكبير، وهو خلاف النص. انتهى كلامه.
وحاصل هذا الكلام اشتماله على ثلاثة أوجه في زعم المصنف، وأن ما قاله الشيخ في ((التنبيه)) ونص عليه الشافعي مغاير للوجهين الأخيرين، وهو سهو، فإن الثاني هو عين الثالث، وهو واضح لا يحتاج إلى تأمل. ولنا وجه: أنه يستحب انتهاء التكبير مع انتهاء الإرسال، فراجعت لأجل ذلك كتاب ((الإفصاح)) لأبي على الطبري و ((المهذب)) للشيخ، وكلام أبي إسحاق، لاحتمال أن يكون المصنف قد أراد هذا الوجه ولكن حصل له غلط في التعبير، فرأيت- أيضًا- مقالة الجميع متحدة على وفق ما نقله المصنف عنهم. ثم إن كلام الشيخ في ((التنبيه)) لا ينافي ما ذكره في ((المهذب)) حتى يعده وجهًا آخر، بل الظاهر أنه هو، لاسيما أن دعوى اتفاق كلامه أولى من اختلافه، فآل الأمر إلى أن ما زعمه من أن المذكور ثلاثة أوجه في الحقيقة وجه واحد، فسبحان من لا يسهو!
تنبيه: ذكر المصنف هنا ألفاظًا:
منها: قبيصة بن هلب، فأما قبيصة: فبقاف مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة بعدها ياء ثم صاد مهملة. وهلب: بهاء مضمومة ولام ساكنة ثم باء موحدة.
ومنها: أن أبا طالب العشاري روى في ((الأفراد)) عن بعض الصحابة
…
إلى آخره.
العشاري: بعين مهملة مضمومة ثم شين معجمة.
ومنها: الرسع: براء مضمومة ثم سين مهملة ساكنة وغين معجمة، وهو ما رق من المنكب واتصل بالذراع، ويقال فيه: الرصغ، بالصاد، قاله الجوهري.
قوله: وفي ((التتمة)) حكاية طريقة أخرى: أن كل سورة آخر آيها بالياء والترادف مثل البقرة غيرها فالبسملة منها آية كاملة، وكل سورة آخر آيها على نمط آخر مثل سورة ((اقتربت)) فالبسملة منها بعض آية، اعتبارًا لآخر الآيات. انتهى.
والصواب المذكور في ((التتمة)) هو لفظ ((الرديف))، فتحرف على المصنف،
والرديف الواقع بعد الياء قد يكون نونا كما في آخر البقرة، وقد يكون طاء كما في قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54].
قوله: وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يسرع في القراءة، فقال:((هذا كهذ الشعر؟!)) أو قال: ((كهذا الأعراب)). انتهى.
والهذ- بهاء مفتوحة وذال معجمة مشددة: شدة العجلة.
قوله: والمذهب الأول، يعني أن القراءة اليسيرة والذكر اليسير يقطعان الولاء إذا كان أجنبيين.
ثم قال: فإن قيل: نص الشافعي على أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول في العقود لا يؤثر في قطع الولاء، فإنه قد نص على أنه إذا خالع زوجتيه، ثم ارتدتا، ثم قبلتا وعادتا إلى الإسلام- صح الخلع، فما الفرق؟! هذا لفظه.
وما ادعاه من دلالة النص على ما قاله عجيب، فإن الردة لا تستلزم القول، بل تحصل- أيضًا- بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك، وليس في عبارة الشافعي أنهما ارتدتا لفظًا، وحينئذ فلا يصح مدعاه.
قوله: وكلام بعضهم يوهم أن في تكرار بعض الفاتحة عمدًا خلافًا في البطلان، وهذا لم أعثر عليه في شيء من كتب الأصحاب، بل الذي رأيته فيها عدم الإبطال وحكاية الخلاف في الإتيان بكلها، وقد تردد الشيخ أبو محمد في تكرار بعض الآية. انتهى ملخصًا.
والذي أنكره لم يحك في ((البيان)) غيره فقال: إنه الذي يقتضيه القياس. ولم يزد عليه. وما نقله عن الشيخ أبي محمد- أيضًا- كاف في إثبات الخلاف، وقد عد الغزالي الحروف ركنًا من أركان الفاتحة، وهو يقتضي عد الآية من أركانها بطريق الأولى، ولنا خلاف مشهور في تكرار الركن القولي.
قوله: وفي وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية قولان، أصحهما: نعم.
ثم قال بعد ذلك: أما إذا كان مأمومًا في صلاة سرية فإنه يقرأ الفاتحة قولًا واحدًا. انتهى.
وما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، فقد حكى الرافعي وجهًا: أنه لا يجب عليه.
قوله: ويستحب أن يقرأ في العصر والعشاء من أوساط المفصل، ووجهه: أن
العصر هي الثانية من صلاتي جميع النهار، كما أن العشاء هي الثانية من صلاتي جميع الليل. انتهى كلامه.
وما ذكره في العصر مخالف لمذهبنا، فإن مذهبنا أنها ثالثة، إذ النهار عندنا من الفجر.
قوله: فإن قيل: هذا يعارضه ما روي عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطوال الطويلتين؟ قال: قلت: ما طوال الطويلتين؟ قال الأعراف. أخرجه أبو داود والبخاري مختصرًا. انتهى كلامه.
وتعبيره بقوله: طوال الطويلتين، غلط منه في الموضعين، وكيف يتصور أن يكون في السورتين الطويلتين سور طوال، بل صوابه- وهو المذكور في الحديث-:((طولى)) على وزن ((فعلى)) بضم الأول، وهو ((أفعل)) تفضيل تأنيث ((الأطول)) من ((الطويلتين))، قال ابن أبي مليكة والطويلتان: الأعراف والمائدة.
قوله: ولو قدر على من يلقنه الفاتحة في الصلاة، قال القاضي الحسين في ((فتاويه)): لا يجب عليه ذلك، وله أن ينتقل إلى البدل. انتهى كلامه.
وحاصله: أن القاضي يقول: لا يجب على المصلي أن يتلقن، وليس كذلك، فإن الذي دلت عليه عبارة القاضي إنما هو عدم وجوب تلقين الحافظ للمصلي، فقال ما نصه: مسألة: إذا كان لا يحسن الفاتحة، فشرع في الصلاة، فجاء رجل، فجعل يلقنه الفاتحة حرفًا حرفًا، فصلى- صحت صلاته، ولكن لا يلزم ذلك، فلو صلى بالبدل يجوز. هذه عبارته، وعوده إلى الحافظ أسرع إلى الفهم وأقرب إلى مدلول اللفظ وإلى القياس، فكيف يتصور أن يقول قائل: لا تجب على المصلي القراءة إذا أجاب الحافظ إلى التلقين، مع أنه قادر على أداء الفرض بالفاتحة؟! وبالجملة فهو غير ما ذكره المصنف لو فرضنا صحة التزامه.
قوله: وإذا كان يحسن آية ففيه قولان:
أحدهما: يقرؤها، ثم يضيف إليها من الذكر ما يتم به قدر الفاتحة.
والثاني: يكرر ذلك سبعًا.
واستدل ابن الصباغ للأول بما رواه أبو داود قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي، فقال:((قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إليه إلا الله، والله أكبر))، قال: هذا لله، فما لي؟
قال: ((تقول: اللهم، اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني، وعافني))، قال: وفي هذا الذكر: ((الحمد لله))، ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتكريرها.
قلت: وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين، أحدهما: أن المأمور به في الخبر بعض آية، والنزاع إنما هو فيما إذا كان يحسن آية، وما دونها لا يجب عليه أن يأتي به، إذ لا إعجاز فيه. انتهى كلامه.
وهذا الرد الذي ذكره ذهول عجيب وغفلة، فإن ابن الصباغ قد دفع هذا بقوله: ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين. يعني أن من كان يحفظ هذا الذكر إذا لقنه لا يتعذر عليه حفظ باقي الآية بالضرورة، وهو: رب العالمين.
قوله: ثم اختلفوا، فقال البغوي: لا يشترط الترتيب بين البدل والأصل، وكيفما قرأ جاز. وقال القاضي الحسين والمتولي والأئمة- كما قال الإمام-: إنه إن كان يحسنها من الفاتحة وجب الترتيب، فإن كانت أول الفاتحة أتى بها، ثم بالذكر، وإن كانت من آخرها أتى بالذكر ثم بها، وإن كانت في وسطها أتى بالذكر أولًا عما قبلها ثم بها، ثم بالذكر عن الباقي. قلت: وعلى هذا لو كان يحسن الآية من غير الفاتحة ينبغي أن ينظر في عدد حروفها إذا قلنا باعتبار عدد الحروف، فإن وافقت آية من أول الفاتحة أو وسطها أو آخرها قدرناها بدلها، وأتى بالذكر بدلًا عما بقي، وإن لم تكن حروفها قدر حروف آية منها بل أقل فيظهر أن يتخير في تقديم الذكر وتأخيره، ويجوز أن يتعين تقديم الآية، لأنها أقرب إلى الأصل. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما نقله عن البغوي من ذهابه إلى عدم وجوب الترتيب غلط، فإن البغوي حكاه وجهًا ضعيفًا، وصحح وجوب الترتيب فقال: وإن كان يحسن النصف الأول من الفاتحة فيقرؤه، ثم يأتي بالبدل عن النصف الثاني، وإن كان يحسن النصف الثاني فيأتي عن النصف الأول بالبدل، ثم يقرأ النصف الثاني مراعاة للترتيب، وقيل: لا يجب الترتيب بين البدل والأصل. هذه عبارته في ((التهذيب)).
الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه بحثًا غير مستقيم، بل الصواب الجاري على القواعد أنه يتعين البداءة بقراءة الآية، لأنها أصل حقيقة بالنسبة إلى الذكر، والقاعدة: أن الأصل إذا لم يكف لا ينتقل إلى البدل إلا بعد إكمال ما قدر عليه من الأصل، بدليل القدرة على بعض الماء، وقدرة المضطر على لقمة من الحلال، فإنه لا
ينتقل إلى التراب والميتة إلا بعد استعمالهما.
قوله: وإذا انتقل إلى الذكر فهل يتعين أن يقول: سبحان الله، والحمد لله
…
إلى آخره؟ فيه وجهان، أرجحهما عند الرافعي وغيره: أنه لا يتعين.
ثم قال ما نصه: وعلى هذا يشترط أن تكون حروف ما يأتي به من الذكر بقدر حروف الفاتحة، لأنه لا يمكن اعتبار قدر الآي إلا بذلك، وحكى الرافعي وجهًا: أنه لا يشترط وعلى هذا يأتي بسبعة أنوع من الذكر، ويقام كل نوع مقام آية، وهذا ما حكاه في ((التهذيب))، قال الرافعي: وهو أقرب تشبيهًا لمقاطع الأنواع مقام الآيات. انتهى كلامه.
ومقتضاه: أن الرافعي رجح عدم اشتراط استيفاء الحروف، وأن الأنواع السبعة إنما تشترط إذا لم يشترط استيفاء الحروف، وليس كذلك، بل صحح الرافعي أنه لابد من استكمال حروف الفاتحة، ثم ذكر أن الأقرب اشتراط الأنواع السبعة مع ذلك- أيضًا- ويتضح ذلك كله بمراجعة كلام الرافعي.
ثم إن تعبيره في آخر كلامه بقوله: مقام الآيات، غير مستقيم، بل عبر الرافعي بقوله: بغاية الآيات، فكأنها تحرفت عليه.
قوله: وسلك الرافعي طريقًا آخر فقال: يشترط أن تكون حروف الأذكار معادلة بحروف الفاتحة، ويعد الحرف المشدد من الفاتحة بحرفين من الذكر، ولا يراعي في الذكر الترتيب، وهل يشترط أن تكون كلمات الذكر معادلة لعدد آيات الفاتحة؟ فيه وجهان. انتهى كلامه.
وما حكاه عن الرافعي من الجزم باشتراط استكمال الحروف، وأن في الكلمات وجهين- غلط منه على الرافعي، وكذلك بقية الكلام- وهو الكلام المتعلق بالتشديدات- ليس له ذكر أيضًا في ((الرافعي)).
قوله: وفي الحديث: ((التكبير جزم))، ثم قال: وقال الرافعي: لفظ ((الإنحناء)) إشارة إلى أنه لو انخنس، وأخرج ركبتيه وهو ماثل منتصب- لم يكن ذلك ركوعًا. انتهى.
قال ابن الأثير في ((غريب الحديث)): أراد بالجزم: أنه لا يمد ولا يعرب آخره، بل يسكن. وأما الماثل فمعناه: الواقف، يقال: مثل بين يديه- بفتح المثلثة- مثولًا، فهو ماثل، ويقال- أيضًا-: مثل، إذا التصق بالأرض، وهو من الأضداد كما قاله الجوهري.
قوله: ويكره التطبيق، وهو أن يطبق يديه ويجعلهما بين ركبتيه، لأنه نهى عن ذلك
بعد أن كان يفعل- رواه أبي- وأنه يضرب فاعله بالأكف على الركب. رواه البخاري. انتهى.
واعلم أن هذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم- أيضًا- عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفي، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب. وقوله في هذا الحديث: إلى جنب أبي، يعني: والدي، وهو سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك. وقد صرح في ((المهذب)) بذلك فقال: ولا يطبق، لما روي عن مصعب بن سعد ابن أبي وقاص قال: صليت إلى جنب سعد بن مالك، فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما، فضرب بيدي وقال: اضرب بيدك على ركبتيك، وقال: يا بني، إنا كنا نفعل هذا، فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب. هذا كلام ((المهذب))، وإذا تأملت ما ذكرناه علمت أن المصنف توهم أن المراد بقوله: أبي، ليس هو: والدي، وأنه مضموم الأول، مصغر، وهو: أبي بن كعب، فصرح بما ذكره، وهو غلط. ثم إنه خلط- أيضًا- في كيفية رواية الضرب، والصواب ما تقدم.
قوله: ورواية أبي حميد في وصف ركوعه: ((فيصهر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده)). انتهى.
يقال: صهر ظهره- بفتح الصاد المهملة وفتح الهاء المخففة- أي: ثناه وعطفه. وأقنع رأسه، أي: رفعه، ومنه قوله تعالى:{مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم:43] وأما ((صافح)) فبصاد مهملة وبالفاء والحاء المهملة- أيضًا- ومعناه: أنه غير مبرز صفحة خده ولا مائل في أحد الشقين.
قوله في الركوع: وقال القاضي الحسين والماوردي: ومن العلماء من قال: ينبغي أن يقول ذلك خمسًا، ليقوله المأموم ثلاثًا. وقد حكاه الروياني وجهًا لنا، ولم يذكر في ((الحلبة)) - كما قيل- غيره. انتهى كلامه.
وهذا النقل عن الروياني ليس بصحيح، فإنه في ((البحر)) إنما حكى ذلك عن الثوري فقال: وحكى الطحاوي عن الثوري أنه قال: ينبغي أن يقول الإمام: سبحان ربي العظيم، خمسًا، حتى يدرك من خلفه ثلاثًا. هذا لفظه، وأما في ((الحلية)) فإنه لم يذكر أن ذلك مستحب، بل ذكر أن الإمام لا تستحب له الزيادة على الخمس فقال: ولا يزيد الإمام على خمس تسبيحات، للتخفيف على المأمومين. هذه عبارته.
قوله: ويرفع رأسه قائلًا: سمع الله لمن حمده، وعن ابن كج: أنه يبتدئ بقوله: سمع
الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا انتهى أخذ في رفع الرأس واليدين، انتهى كلامه.
وحاصل ما ذكره أن ابن كج يقول بأنه لا يأخذ في رفع الرأس واليدين إلا بعد فراغ ((سمع الله لمن حمده))، وهو غلط، فإن المصنف- رحمه الله لم ينقله من كتاب ابن كج، ولهذا قال: وعن ابن كج. والرافعي- رحمه الله قد وقف عليه، وهو من جملة المصنفات التي غالب نقل الرافعي منها، ولا نعلم وصول الكتاب إلى مصر، وقد عبر- أعني الرافعي- بقوله: لأن القاضي ابن كج ذكر أنه يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا ابتدأ به أخذ في رفع الرأس واليدين. هذه عبارته، ولا شك أن المصنف أخذه من الرافعي فتحرف عليه.
قوله: وأدنى السجود: أن يباشر بجبهته المصلى، لما روى مسلم وغيره عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا. أي: لم يزل شكايتنا. انتهى كلامه.
واعلم أن مسلمًا لم يتعرض لقوله: ((في جباهنا وأكفنا))، وإنما خرج أصل الحديث ولفظه عن خباب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجيلها؟ قال نعم. انتهى لفظ مسلم. نعم، روى هذه الزيادة البيهقي بإسناد حسن- كما قاله النووي في ((الخلاصة)) - قال والحديث المذكور منسوخ، لأمره صلى الله عليه وسلم بالإبراد بالظهر.
قوله: وهذا التصوير مؤذن بصحة ما قاله بعض الشارحين لهذا الكتاب: أنه لا خلاف في أنه لا يجزئه أن يضع جبهته على الأرض ويمد [يديه] ورجليه، لأنه لا يسمى سجودًا، فإن السجود في اللغة: التطامن، ومنه قولهم للبعير إذا تطامن ليركبه راكبه: قد سجد. انتهى كلامه.
وهذه المسألة التي أشعر كلامه باستغرابها قد ذكرها الرافعي- رحمه الله وجزم بها، واستدل بها لمسألة أخرى، وقال في ((شرح المهذب)): لا يجزئه بلا شك. وقد ذكر المسألة في ((التتمة)) - أيضًا- ثم قال: إلا أن يكون به علة لا يمكنه السجود إلا هكذا.
قوله: وفي مباشرة المصلى بالكف قولان، أصحهما: أنه لا يجب، لأنه- عليه الصلاة والسلام صلى في مسجد ابن عبد الأشهل وعليه كساء ملتحف به، يضع يديه عليه، يقيه برد الحصا. رواه ابن ماجه. انتهى.
وتعبيره بقوله: ابن عبد الأشهل، تحريف، وصوابه: بنى، وهي قبيلة من الأنصار معروفة.
قوله: وفي ((أبي داود)): ((كان إذا سجد لو مرت بهمة لنفذت))، وفيه عن ابن عباس:((رأيت بياض إبطه وهو مجخ)) أي: مخو. انتهى.
البهمة- بباء موحدة مفتوحة ثم هاء ساكنة-: هي الأنثى من صغار المعز، وتقع في نسخ الكتاب: بهيمة- بزيادة الياء- وهو تحريف.
والمجخي: بجيم ثم خاء مشددة. والمخوى- بالخاء المعجمة- من ((التخوية))، وهو رفع اليد عن الجنب والبطن عن الفخذ.
قوله: فإن قال معه: اللهم، لك سجدت، وبك آمنت
…
إلى آخره.
اعلم أن الشيخ قد ذكر قبل قوله: فإن قال معه
…
إلى آخره- ويقول: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال. وقد أسقطه المصنف، وأدى إسقاطه إياه إلى اعتقاد أن الشيخ لم يذكره، وإلى عدم ذكر ما يعود عليه الضمير المذكور في لفظ ((معه)). نعم، قد وقع التعرض لشيء من ذلك في الكلام على الركوع، لكنه لا يكون عذرًا في الإسقاط، للأمرين اللذين ذكرتهما، ولأنه لم يتعرض هناك لذكرها ثلاثًا، فهو سهو بلا شك.
قوله: ويجلس بين السجدتين مفترشًا.
ثم قال: وعن رواية أبي علي في ((الإفصاح)) حكاية قول آخر: أنه يجلس على صدور قدميه. وروى البويطي عن الشافعي: أنه يجلس على عقبيه، وتكون صدور قدميه على الأرض، لأن العبادلة- وهم عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير- كانوا يفعلون ذلك بين السجدتين، وهذا هو الإقعاء، والمشهور من مذهب الشافعي: أن الإقعاء فيها مكروه. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره هاهنا في تفسير العبادلة قد خالفه في باب الديات فقال: ودية المرأة على النصف من دية الرجل، روي عن العبادلة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، رضي الله عنهم. هذه عبارته، فأسقط منهم ((عبد الله بن الزبير)) وجعلهم ثلاثة، والذي ذكره في الجنايات قلد فيه الرافعي، والرافعي قلد الزمخشري في ((المفصل))، فإنه ذكره كذلك في أوائله في الكلام على ((علم الغلبة)).
الأمر الثاني: أن إدخال ابن مسعود فيهم، خلاف المعروف، فإن المعروف عند العلماء أن العبادلة أربعة آباؤهم صحابيون، وهم: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو ابن العاص.
قال النووي بعد تفسيره بهؤلاء الأربعة: إن ((صحاح)) الجوهري قد وقع فيها الإتيان بـ ((ابن مسعود))، عوضًا عن ((ابن [عمرو بن] العاص))، قال: وهو غلط نبهت عليه، لئلا يغتر به، كذا قاله في ((تهذيب الأسماء واللغات)) في ترجمة ابن الزبير، والذي قاله النووي غلط عجيب، فإن الجوهري قد ذكر ((ابن العاص)) ولم يذكر ((ابن مسعود)). نعم، على الجوهري انتقاد من وجه آخر، وهو أنه أخرج ((ابن الزبير)) منهم وجعلهم ثلاثة فقط، فقال في آخر الكلام على لفظ ((عبد)) ما نصه: والعبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص. هذا لفظه.
قوله: ويقبض الخنصر والبنصر، ويرسل المسبحة، وفي الإبهام والوسطى ثلاثة أقوال:
أشهرها: أنه يقبضهما- أيضًا- وعلى هذا فقيل: يضع الإبهام على وسطاه، وقيل: يضعهما بجنب الأصابع الثلاثة. كذا حكاه القاضي الحسين في ((تعليقه)).
ثم قال: وقيل: إنه يقبضه كأنه عاد ثلاثة وخمسين في وجه، وفي وجه: كأنه عاد ثلاثة وعشرين، والأخيران هما المذكوران في غيره.
والقول الثاني: يقبض الوسطى ويرسل الإبهام مع المسبحة، قاله في ((الإملاء))، وعلى هذا: هل يضع السبابة على الإبهام كأنه عاد تسعة وعشرين، أو يرسلهما غير متراكبين؟ فيه وجهان.
والقول الثالث: أن يحلق الإبهام مع الوسطى، وعلى هذا: فيحلق برأسيهما، وقيل: يضع أنملة الوسطى بين عقدتى الإبهام.
وقد خرج الترمذي أحاديث تدل لكل منها، وهي تدل على أنه- عليه الصلاة والسلام كان يفعل كذا مرة وكذا أخرى، ولأجله قال بعض الأصحاب- كما قال الروياني في ((تلخيصه)) -: إنه يتخير فيها، وهو المذكور في ((الشامل)) وغيره، كما قاله الرافعي، ومفهوم كلام الأكثرين: أن الخلاف في الأفضل. انتهى ملخصًا.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من حصول أربعة أوجه، تفريعًا على القول الأول، ودعوى أن الوجهين الأخيرين هما المذكوران في غير ((تعليق)) القاضي الحسين- غريب جدًا، فإن المستفاد من جميع ما ذكره وجهان لا غير، والأخيران تفسير للأول، والرافعي ممن صرح بذلك- أيضًا- فقال: وفي كيفية وضع الإبهام على هذا القول وجهان:
أحدهما: أنه يضعها على إصبعه الوسطى كأنه عاقد ثلاثة وعشرين.
وأظهرهما: أنه يضعها تحت المسبحة كأنه عاقد ثلاثة وخمسين.
هذه عبارته، وأما هذا الناقل عن القاضي الحسين فقد غلط فيه عليه، فإن عبارة القاضي: وماذا يفعل بالأصابع؟ فيه أقوال:
أحدها: يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل السبابة. وماذا يفعل بالإبهام على هذا القول؟ وجهان:
أحدهما: يضعها على وسطاه.
والثاني: على بطن الكف بجنب الثالثة.
وقيل: إنه يقبضها كأنه عاد ثلاثة وعشرين في وجه، وفي وجه: كأنه عاد ثلاثة وخمسين.
والقول الثاني: يقبض الخنصر والبنصر، ويرسل السبابة، ويحلق الإبهام والوسطى. هذه عبارته، فقوله: وجهان، لم يذكر أنهما مع قبض الإبهام كما قاله المصنف، بل تعبيره بقوله: وقيل: إنه يقبضها، صريح في أن الوجهين الأولين مع بسطها، وحينئذ فيكون مع إرسال المسبحة وجهان، وهما المذكوران في كلام المصنف بعد ذلك، ومع ضمها وجهان- أيضًا- وهو واضح. نعم، عبر القاضي بالأقوال، ولم يذكر إلا قولين.
الأمر الثاني: أن ما توهمه من التنافي بين ما نقله الإمام وما نقله عن الرافعي غريب- أيضًا- بل القائلون بأن الكل سنة قائلون بأن الخلاف في الأفضل منها، وقد صرح النووي في ((شرح المهذب)) بذلك، بل لا يمكن القول بخلافه، لأنهم إذا قالوا: الكل سنة، والخلاف ثابت عندهم وعند غيرهم- لم يبق للخلاف محل إلا بيان الأفضل، والرافعي لم يعبر بالتخيير كما عبر المصنف، فإنه لما ذكر الخلاف عبر بقوله: ثم قال ابن الصباغ وغيره: كيفما فعل من هذه الهيئات فقد أتى بالسنة. هذه عبارته، ولو ذكر المصنف أن مفهوم كلام الأكثرين أن الخلاف في السنة لكان تصحيحه ممكنًا، وإلا فما ذكره غير منتظم بالكلية.
قوله: نقلًا عن الشيخ-: والواجب منه خمس كلمات، وهي: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. هذا ما رأيته فيما وقفت عليه من ((التهذيب))، وقد حكاه الإمام عن رواية الصيدلاني، وأن العراقيين ذكروه، غير أنهم
نقصوا كلمة واحدة، وهي:((أشهد)) في المرة الثانية، وقال الرافعي: إن الذي حكاه العراقيون عن نص الشافعي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله، وتابعهم القاضي الروياني، وكذا صاحب ((التهذيب))، إلا أنه نقل:((وأشهد أن محمدًا رسوله))، وأن الصيدلاني وابن كج تبعا العراقيين، إلا أنهما أسقطا لفظ ((وبركاته)). انتهى ملخصًا.
وما ادعاه من أن الرافعي نقل ذلك عن هؤلاء بالضمير مع ((الرسول)) عوضًا عن الظاهر حتى يقال: وأن محمدًا رسوله، ولا يجب أن يقال: رسول الله- ليس كذلك، فإن المذكور في ((الشرحين)) عنهم إنما هو الظاهر مطابقًا لما نقله المصنف عنهم قبل ذلك. نعم، وقع في ((الروضة)) في هذا الوهم، فكأن المصنف قلدها في النقل عن الرافعي.
واعلم أنه قد تلخص من مجموع ما ذكرناه امتناع الضمير عند الجمهور، وقد صرح النووي في ((شرح المهذب)) وغيره بذلك، لكن ينبغي أن يعلم أن الضمير قد ثبت مع زيادة ((العبد)) في التشهد الوارد في الصحيح من رواية ابن مسعود وأبي موسى، ولم يقع الظاهر إلا في رواية ابن عباس.
وقد اتفق العلماء على جواز التشهد بالروايات الثلاث كما قاله النووي في ((شرح مسلم)) في أول باب التشهد، فلزم من ذلك استثناء هذه الصورة، واختصاص محل الخلاف بما عداها، فتفطن له.
قوله: لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: أو لا أهدى إليك هدية؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فيكف نصلي عليك؟ قال:((قولوا: اللهم، صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). انتهى كلامه.
واعلم أن البخاري قد أخرج هذا الحديث في آخر باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، ولفظه فيه: ألا أهدي إليك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله علمنا كيف نسلم؟ قال: ((قولوا: اللهم، صل على محمد وعلى آلي محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). هذا لفظ رواية البخاري، وفيه مغايرة من وجوه، منها: ذكر ((إبراهيم)) مع ((الآل)) في ((الصلاة))، وكذلك في ((البركة)).
قوله: قال الماوردي: والدعاء بأمر مباح، وقال بعض أصحابنا: المباح: أن يدعو بما يجوز أن يطلب من الله- تعالى- وأما ما يجوز أن يطلب من المخلوقين فلا يجوز، وإذا سأله بطلت صلاته. كذا حكاه ابن يونس ومن بعده من الشارحين، ولم أره في مشاهير الكتب، بل الرافعي حكاه عن بعض أصحاب أبي حنيفة. انتهى كلامه.
وإنكاره لذلك غريب، فقد حكاه الروياني في ((البحر)) والشاشي في ((الحلية)) والعمراني في ((البيان))، وذكر الرافعي في آخر كلامه قريبًا منه فقال: ويجوز أن يعلم بالواو- أيضًا- لأن الإمام حكى في ((النهاية)) عن شيخه أنه كان يتردد في مثل قوله: اللهم، ارزقني جارية حسناء، صفتها كذا، ويميل إلى المنع منه، وأنه يبطل الصلاة. هذا لفظه، وكأنه مثال للوجه المتقدم.
قوله في حديث مسلم: ((كأنها أذناب خيل شمس))
…
وفي الحديث- أيضًا-: ((جزم السلام سنة)) قال الترمذي: حسن صحيح. انتهى.
أما ((الشمس)): فبإعجام الشين الأولى وضمها وإهمال الثانية، جمع ((شموس))، تقول: شمس الفرس- بفتح الميم- شموسًا وشماسًا، أي: منع ظهره، فهو شموس- بالفتح- وبه شماس، ورجل شموس: صعب الخلق، والعامة تقوله بالصاد.
وأما ((الجزم)) فبالجيم والزاي المعجمة، وقد تقدم الكلام عليه في التكبير.
قلت: حديث ((جزم السلام)) يأتي بعد.
قوله: ثم نية السلام على الحاضرين في التسليمتين ثابتة في حق المنفرد، وأما الإمام فينوي ذلك في حق من على يمينه وشماله إذا تأخر سلامهم على سلامه، كما قال القاضي الحسين وغيره: إن المستحب ألا يسلم المأموم الأولى حتى يسلم الإمام الثانية، أما إذا سلم الأولى عقب سلام الأولى- كما قال في ((التتمة)): إنه المستحب- فكلام بعضهم يشير على أنه ينوي بالثانية الرد على من على يساره والسلام على الملائكة والجن، والجمهور على أنه لا فرق. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما نقله عن القاضي الحسين من استحباب تأخر سلام المأموم عن تسليمتي الإمام محله في المأموم الذي هو على يسار إمامه خاصة، فإن كان على
يمينه فالمستحب عنده: أن تكون الأولى عقب الأولى كما يفعله غالب الناس، وإن كان محاذيًا له فهو بالخيار بين الأمرين، كذا جزم به في هذا الباب من ((تعليقه)) فقال: فأما المأموم: فإن كان على يمين الإمام، فإذا سلم الإمام عن يمينه سلم، وينوي الخروج من الصلاة والرد على الإمام والسلام على من عن يمينه من الملائكة ومسلمي الجن والإنس، وإذا سلم عن يساره لم تجب نية الخروج من الصلاة، وإنما ينوي السلام على من على يساره، ومن على يسار الإمام المستحب له ألا يسلم إذا سلم الإمام عن يمينه حتى يسلم عن يساره، ليمكنه الرد عليه إذا سلم عن يمينه، ومن خلف الإمام يستوي في حقه اليمين واليسار: فإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن اليمين، وإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن اليسار، وإنما ينوي الرد عليه إذا سلم عين اليمين، أن التيامن مستحب في كل شيء هذا لفظه، وهو كما ذكرته لك، وهو يراعي الرد على الإمام بالأولى، فلهذا قال: إن من على اليمين يسلم الأولى عقب الأولى ويرد بها وإن كان غير مواجه للإمام، وحاصله أن الأمرين عنده على السواء، أي: فعل الأولى عقب الأولى وعقب الثانية، بدليل المحاذي، وإنما يترجح أحدهما إذا كان فيه الرد على الإمام بالأولى. نعم، قد صحح النووي في ((التحقيق)) ما نقله المصنف عن القاضي.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن بعضهم من استحباب رد الإمام على من على يساره، تفريعًا على طريقة المتولي- هو الموافق للقواعد ولكلامهم، ودعواه أن الجمهور على أنه لا فرق حتى يقتصر الإمام- أيضًا- على الحاضرين ولا ينوي الرد، ممنوع، والمطالبة قائمة بقائله أو ناقله، ويدل على فساده أنه ادعاه في المأمومين- أيضًا- فقال: إن المأموم لا يرد على الإمام على طريق الجمهور، وعلى الطريق الأخرى: يرد عليه بالثانية إن كان على يمينه، وبالأولى إن كان على يساره، مع أن الرافعي جازم بهذا الكلام، بل قد ذكر المصنف عقب هذا الكلام ما يعكر عليه فقال: وإن كان خلف الإمام، قال في ((الأم)): هو كما لو كان على يسار الإمام، فإن نوى السلام على إمامه في الأولى، وإلا نواه في الثانية. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار: إن شاء رد على الإمام عن يمينه، وإن شاء رد عليه عن يساره. هذا كلامه، وهو جازم بأنه يرد، والمأموم المحاذي قسم من أقسام المأمومين.
قوله: قال الأصحاب: وينبغي للإمام بعد فراغه من الدعاء ألا يثبت مكانه، بل يثب، لأنه جاء في الحديث:((إذا لم يقم إمامكم فانخسوه))، وهذا يدل على أن الجميع
محبوسون إلى أن يقوم الإمام. ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قطر يميل: فمنهم من يقول: يفتل يده اليسرى ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب، ومنهم من يقول- وهو القفال-: يفتل يده اليمنى ويجلس على الجانب الأيسر. وقال الإمام إذا لم يصح في هذا نقل فلست أرى في ذلك إلا التخيير، ثم ينصرف في أي جهة شاء. واستحباب قيامه عقب الدعاء، محله إذا لم يكن ثم نسوة، فإن كان فيستحب له أن يجلس، كيما يخرجن. انتهى كلامه.
وحاصله: أن الإمام يستحب له إذا لم يكن ثم نسوة أن يمكث بعد السلام للدعاء، فإذا فرغ منه وثب قائمًا، ثم جلس، ويستقبل الناس، على الخلاف في كيفية الاستقبال. وهذا المجموع على هذا الترتيب لم يقل به أحد، ولا معنى له- أيضًا- وقد قال النووي في ((شرح المهذب)): قال الشافعي والأصحاب- رحمهم الله: يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء. هكذا قاله الشافعي في ((المختصر))، واتفق عليه الأصحاب، وعللوه بعلتين:
إحداهما: لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أم لا.
والثانية: لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة فيقتدي به.
أما إذا كان خلفه نساء فيستحب أن يثبت بعد سلامه، ويثبت الرجال قدرًا يسيرًا يذكرون الله- تعالى- حتى ينصرف النساء، ويستحب لهن أن ينصرفن عقب سلامه. هذا كلامه. هذا كلامه، فذكر أن الانتقال عن مكانه عقب السلام، على خلاف ما ذكره المصنف من كونه عقب الدعاء، ولم يتعرض هنا للدعاء إلا فيما إذا كان معه نسوة، إلا أنه- أعني النووي- ذكر قبل ذلك أنه يستحب الذكر والدعاء عقب الصلاة لكل مصل، وهو معارض لما ذكرناه عنه.
ثم قال بعده: فرع: إذا أراد أن ينفتل في المحراب، ويقبل على الناس بالذكر والدعاء وغيرهما- قال البغوي: فالأفضل أن ينفتل عن يمينه. قال وفي كيفيته وجهان:
أصحهما: يدخل في يساره في المحراب ويمينه إلى الناس، ويجلس على يسار المحراب.
والثاني: يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس، ويجلس على يمين المحراب.
وقال الإمام: إن لم يصح في هذا تعبد فلست أري فيه إلا التخيير. هذا كلامه، وقد
ذكر الماوردي كلامًا هو أقرب إلى جميع ما سبق، فقال: إذا فرغ الإمام من صلاته: فإن كان من صلى خلفه رجالًا لا امرأة وثب ساعة سلم، ليعلم الناس فراغه من الصلاة، ولئلا يسهو فيصلي، وإن كان معه رجال ونساء ثبت قليلًا، لينصرف النساء، فإذا انصرفن وثب، فإذا الإمام: فإن كانت صلاة لا ينتفل بعده كالصبح والعصر استقبل القبلة ودعا، وإن كانت صلاة ينتفل بعدها كالظهر فيختار له أن ينتفل في منزله، ويستحب للمأموم ألا يتقدم إمامه، ويخرج معه أو بعده. هذا كلامه، وهو حسن جامع لجميع ما سبق، إلا أنه يوهم اختصاص الذكر والدعاء بالصبح والعصر، وليس كذلك.
قوله: في التشهد الأول: ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وحده في أصح القولين.
ثم قال: ولا يصلى في الآخر، لأن مبناه على التخفيف، روى ابن عباس ((أنه- عليه الصلاة والسلام كان يجلس في الركعتين كأنه يجلس على الرضف حتى يقول)) رواه أبو داود، والرضف: الحجارة المحماة. انتهى كلامه.
وهذا الحديث ليس كما قال المصنف من كونه من رواية ابن عباس، بل الذي في ((أبي داود)) وغيره إنما هو روايته عن ابن مسعود.
و ((الرضف)): بالضاد المعجمة الساكنة وبالفاء.
قوله: وهل يقرا السورة في الركعتين الأخيرتين؟ فيه قولان: أحدهما. لا. قال: وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي والمزني- كما قال أبو الطيب- وقاله في القديم. انتهى لفظه بحروفه.
والمفهوم منه أن البويطي نقله- أيضًا- عن المزني، وليس كذلك، بل المراد- وهو الذي قاله أبو الطيب-: أن البويطي والمزني نقلاه عن الشافعي.
قوله: وقد روى الدارقطني بسنده عن أنس بن مالك قال: ((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا))، وقد رأيت في كلام بعض الشراح أن مسلمًا خرج هذا الخبر، وبعضهم نسبه إلى رواية الإمام أحمد في ((مسنده)). انتهى.
فأما نسبة هذا الحديث إلى ((مسند)) أحمد فصحيحه، وأما إلى مسلم فلا. نعم، الحديث صحيح صححه الحاكم والبيهقي وغيرهما.
قوله: ((قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على أحياء من سليم على رعل وذكوان وعصية)) رواه أبو داود. انتهى.
رعل: براء مهملة مكسورة وعين ساكنة مهملة- أيضًا- بعدها لام، وذكوان: بذال معجمة مفتوحة بعدها كاف ساكنة، وعصية: بعين وصاد مهملتين، أصله مصغر ((عصا)).
قوله: وإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الفرائض، وفي قول: لا يجوز.
ثم قال ما نصه: أما إذا لم تنزل نازلة فمفهوم كلام الشيخ: أنه لا يجوز، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه، والغزالي في ((الوسيط)) عن المراوزة، ولم يحك في ((المهذب)) غيره، وعليه نص في ((الأم))، وقال في ((الإملاء)): إن شاء قنت، وإن شاء ترك. حكاه البندنيجي، وهو يقتضي أنه غير مستحب ولا مكروه، قال الرافعي: وهو قضية كلام أكثر الأئمة، ومنهم من يشعر إيراده باستحبابه في جميع الصلوات، قال في ((الروضة)): والأصح استحبابه. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن ما حكاه عن ((الوسيط)) من النقل عن المروازة غلط، فإنه لا ذكر له في هذه المسألة، وإنا نقل مقابلة عن العراقيين، ثم عبر عن هذا بقوله: وقيل. وقد بين في ((البسيط)) قائله وأنه الشيخ أبو محمد.
الثاني: أن ما حكاه عن ((المهذب)) من عدم الجواز ليس كذلك- أيضًا- فإنه قال: وأما رفع اليد في القنوت فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يرفع.
ثم قال: وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه من غير حاجة، وإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا. هذا لفظه، فقوله: فلا يقنت، يحتمل نفي الاستحباب ونفي الجواز على السواء، ويدل عليه: أنه ذكر مثل ذلك في الرفع كما تقدم، والمراد عدم الاستحباب قطعًا، فتلخص أنه لم يثبت التحريم عن أحد ممن نقل عنه سوى الشيخ أبي محمد.
الأمر الثالث: أن ما نقله- رحمه الله عن الرافعي من أن قضية كلام الأكثرين: أن القنوت في غير النازلة لا يستحب ولا يكره- لغط عجيب، بل في ((الرافعي)): أن قضية كلامهم: أنه لا يجوز، وكذلك- أيضًا- ما نقله عن النووي من تصحيح استحبابه في الحالة التي يتكلم فيها- وهي حالة عدم النازلة- غلط أيضًا، فإنه إنما خالف الرافعي فصحح طريقة القائل بأن الخلاف في استحبابه، وحينئذ فيكون الأصح عنده: أنه إن نزلت نازلة استحب القنوت، وإلا فلا يستحب، لأن الصحيح عنده من الخلاف في أصل القنوت هو هذا التفصيل، والصحيح: أن ذلك الخلاف في الاستحباب، فيلزم ما قلناه. وقد لخص النووي كلام الرافعي، فراجعه يتضح لك ما ذكرته، والعجب هنا من المصنف، فإنه غير كلام الرافعي والنووي تغييرًا فاحشًا، وإن كان في اختصار النووي استدراك نبهت عليه في ((المهمات)).