الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التفليس
قوله: ولأن في الحجر مصلحة الغرماء، فإنه قد يخص بعضهم بالوفاء فيتضرر الباقون، وقد يتصرف فيه فيضيع حق الجميع، ومن هذه العلة يستنبط أن المال لو كان مرهونًا امتنع الحجر، اللهم إلا أن يكون فيه رقيق ونقول بنفوذ عتق الراهن، وهذا ما ظهر لي فقهًا، ولم أقف عليه منقولًا. انتهى كلامه.
وما ذكره من امتناع الحجر قد ذكر بعد ذلك في الكلام على النفقة على المفلس ما يخالفه، وسأذكر لفظه، وسأذكر لفظه. ثم إن ما قاله إنما يأتي إذا قلنا: من شرط الحجر أن يكون له مال، فإن قلنا: لا يشترط حجر عليه قطعًا، لأن غاية الموجود أن يكون تعلق حق الغير به ألحقه بالمعدوم، واشتراط المال قد توقف فيه الرافعي في أول الباب فقال: يجوز أن يقال: لا حاجة إليه، بل مجرد الدين يكفي لجواز الحجر، منعًا له من التصرفات فيما عساه يحدث له باصطياد واتهاب، فإن كان كذلك فليفسر المفلس بالذي ليس له مال يفي بديونه، لينظم من لا مال له أصلًا ومن له مال قاصر. هذا كلام الرافعي، ولم ينقل خلافه.
قوله: ولو أقر بعين أو دين وجب قبل الحجر قبل إقراره في الأصح، فإن لم يقبل إقراره ففضلت العين بعد فك الحجر فهل تسلم إلى المقر له؟ فيه قولان في كتاب الإقرار من ((النهاية)) و ((تعليق)) القاضي الحسين. ثم قال: وعلى قياس هذا يتجه أن يجيئا في الغرم- أيضًا- وفي الدين. انتهى كلامه.
وهو يقتضي أنه لم يقف على نقل في هذه المسألة، وقد صرح بها الغزالي في كتاب الإقرار من ((البسيط))، وحكى فيها الخلاف الذي حاول تخريجه، إلا أنه ذكر ذلك في الدين خاصةً، فقال ما نصه: وإن أقر بدين معاملة لم يثبت للمقر له مضاربة الغرماء أصلًا، ويؤاخذ به بعد انفكاك الحجر، وذكر الإمام في ذلك بعد انفكاك الحجر خلافًا، وزيفه، ولم يذكره في كتاب التفليس. هذا لفظ ((البسيط)) بحروفه.
قوله: واعلم أن وقت القسمة حين يجاز بيع الأموال وحيازة أثمانها إن رضي الغرماء بالتأخير إلى ذلك الوقت، أو لم يمكن قسمة ما يتحصل أول فأول، أما إذا
أمكن وامتنع الغرماء من التأخير، أطلق القاضي أبو الطيب والمحاملي والإمام وغيرهم القول بإجابتهم.
وفي ((الحاوي)): أنهم لا يجابون، لاحتمال أن يظهر غريم لم يطلع عليه، وهذا ما قال الرافعي: إنه الظاهر. انتهى كلامه.
وما نقله عن الرافعي من أنه إذا أمكن قسمة المتحصل أولًا فأولًا، لا يقسم وإن طلب الغرماء التعجيل- غلط لا يوافق كلام الرافعي لا حكما ولا تعليلا، فقد قال الرافعي ما نصه: وما يقبضه الحاكم من أثمان أمواله على التدريج: إن كان يسهل قسمته عليهم فالأولى ألا يؤخر، وإن كان يعسر لقلته وكثرة الديون فله أن يؤخر ليجتمع، فإن أبوا التأخير ففي ((النهاية)) إطلاق القول بأن يجيبهم، والظاهر خلافه. هذا كلام الرافعي.
قوله: ولأنه إذا لم يكن ذا مال وجبت نفقته على كافة المسلمين، فوجب إذا كان له مال أن يقدم بالإنفاق منه بطريق الأولى. انتهى كلامه.
وما قاله منقوض بالمرهون والعبد الجاني، فإن مالكهما لا ينفق عليه منهما، وقد صرح الإمام هنا أنه إذا لم يكن للمفلس سوى المرهون لا ينفق عليه منه.
قوله: واعلم أن ما ذكرناه- أي من النفقة عليه وعلى عياله- ظاهر فيما إذا كان بعض ماله لم يتعلق به حق لمعين، أما إذا تعلق بجميع ماله حق معين، إما بسبب الحجر، أو بغيره، أو بهما كالأعيان المبيعة التي لم تقبض أثمانها، والرهون والرقاب التي تعلقت بها أروش الجنايات- ففي ((النهاية)): أنه إذا لم يكن له سوى المرهون لا ينفق عليه وعلى عياله منه. وغير المرهون لم أقف فيه على نقل، والقياس: أن يحلق بالمرهون في ذلك، ويؤيده قول جمهور أصحابنا في مؤنة تجهيز الميت ودفنه: إنها لا تخرج. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما قاله صريح في الحجر عليه إذا كان ماله مرهونًا، وقد تقدم في أول الباب ما حاصله: أنه لا يحجر عليه، فراجعه.
الأمر الثاني: أن هذا النقل عن الإمام لو صح لكان صريحًا في نقل هذه المسألة المهمة، لكنه غير صحيح، ولم يصور الإمام المسألة في المفلس، بل ذكر مسألة مستقلة، فإنه قال: وكان لا يمتنع أن يلتحق المفلس- أي في نفقة الأقارب- بالفقير الذي لا مال له، ولكن أصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه. ولو
كان عليه دين وقد رهن به مالًا لا يملك غيره، لا ينفق عليه ولا على أهله وأولاده منه، فإن المرهون خارج عن حكم تصرفه إلى الانفكاك، والأموال باقية على حق المحجور، ولكنه بالحجر محمول على أن يبتدر صرفها إلى دين. هذا كلام الإمام، وحاصله: أنه حاول فرقا بين مسألتين مستقلتين، ولم يذكر أن هذا المرهون حجر عليه، والذي أوقع المصنف في الوهم أنه توهم أن قوله:((ولو كان عليه)) عائد على المفلس، وغفل عن عادة الأصحاب في ترجمة المسائل بذلك، وكيف يتصور ألا يكون عليه دين حتى يأتي بهذه العبارة؟!
قوله: بل يعطى في فصل الصيف كسوة الصيف: قميص، وسراويل
…
إلى آخره. أهمل العمامة، ولا خلاف في وجوبها.
قوله- في الكلام على إخراجه من الحبس إذا قامت بينة على إعساره-: ولا فرق في ذلك- على ما حكاه الإمام- بين أن تكون البينة معدلة، أم لا وقد شرع في طلب تزكيتها، لأن الحبس من بعض العقوبات. انتهى كلامه.
وما حكاه عن الإمام من إخراجه بعد قيام البينة وقبل الاستزكاء- وهمٌ، فإن الذي قاله الإمام ما نصه: فإن وجد بينته أقامها كما سنذكر الوجه فيها، فإذا قامت وجرى البحث عن التعديل فلا يسوغ عندنا إدامة الحبس بعد ذلك، فإنه على الجملة من قبيل العقوبات، وقد يرى الوالي التعزير به وحده. وقال أبو حنيفة: لا يصغي إلى البينة على الإعسار حتى يمضي أمد فيه، ثم اختلف قوله فيه، فقال: مرة. لابد من مضي شهرين، وقال مرة: أربعين يومًا، أو خمسين يومًا، وقال مرة: أربعة أشهر. هذا كلامه، وليس فيه أن يطلق بإقامة البينة قبل تعديلها، والذي أوقع المصنف في هذا الوهم تعبير الإمام بقوله: وجرى البحث عن التزكية، مع قوله: ولا يسوغ عندنا إدامة الحبس
…
إلى آخره. قال الإمام: قصد بذلك الرد على ما نقله بعد ذلك عن أبي حنيفة من امتناع قبول الشهادة إلا بعد مدة. وأما التعبير بـ ((جريان البحث عن التزكية)) فيرد على المصنف، لأنه قد يقتضي أن البحث قد وجد وانقضى، والأصحاب يطلقونه لإرادة حصول التعديل، والعجب من المصنف فيما قاله، فإنه نسب إلى الإمام أمرًا مخالفًا لسائر الأبواب! وإذا كان يحبس ابتداء في دين بشاهدين لم يعدلا مدة يظهر للقاضي جرحهما أو تعديلهما، احتياطًا للحق وإن لم يثبت- فاستدامته مع ثبوت الدين قبل ثبوت الإعسار أولى.
قوله: وقد يقال على رأي الصيدلاني في حمل الشهادة بالإعسار على وقوف البينة
على التلف: إنه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الخبرة، وقد يجاب بأنا وإن قدرنا ذلك فخلافه مظنون، فاعتبرنا أن يكون من أهل الخبرة ليتحقق الشرط على كل حال. انتهى كلامه.
وهذا الاحتمال الذي ذكره خطأ فاحش، لأنه لا يسوغ بالإجماع الشهادة على الإعسار برؤية تلف ماله الظاهر من غير أن يعلم حاله في الباطن، والمصنف- رحمه الله نظر إلى المال المعروف له، وذهل عن احتمال غيره، ولهذا أجاب بما أجاب من أن عدم المشاهدة مظنون- أيضًا- فاعتبرت الخبرة، وهو عجيب! وقد صرح الرافعي بالمسألة على الصواب، فقال: وإن شهدوا على إعساره قبلت بشرط الخبرة الباطنة. قال الصيدلاني: ويحمل قولهم: إنه معسر، على أنهم وقفوا على تلف المال. هذه عبارته.
قوله: لو كاتب المشتري المبيع امتنع على البائع الرجوع، وإن أجره لم يمتنع، كذا قال الرافعي وغيره، وهو في الإجارة جواب على جواز بيع المستأجر، وإلا فهو كالمرهون كما صرح به المتولي.
ثم قال بعد ذلك: ويشهد لما ذكره المتولي في الإجارة: أن الإمام حكى عن شيخه أن الطلاق إذا وقع قبل الدخول، والصداق مستأجر- أنه لا يرجع إلى عينه إذا منعنا بيع المستأجر، واختاره.
وكذلك قال الأصحاب فيما إذا وقع التحالف والعين المبيعة مستأجرة. انتهى كلامه.
وما ذكره- رحمه الله عجيب، فإن التفصيل الذي استدركه على الرافعي قد ذكره الرافعي فقال: وإن أجره فلا رجوع إن لم نجوز بيع المستأجر، وإن جوزناه: فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة لحق المستأجر، وإلا ضارب بالثمن. هذا لفظ الرافعي، وكأنه سقط في النسخة التي وقف عليها شيء، وبالجملة فهو يدل على المعهود من حسن تفقهه.
قوله: فرع: لو كان المبيع أرضًا، وقد بنى فيها المشتري وغرس، ثم أفلس
…
إلى آخره. ثم قال في آخر الفرع: وفي ((النهاية)) ما يجتمع منه أربعة أقوال فيه: أحدها: أن بائع الأرض فاقد عين ماله، فلا يرجع بحال.
والثاني: أن الأرض والبناء والغراس يباعان معا كما يفعل في الثوب المصبوغ.
والثالث: أنه يرجع في الأرض، ويتخير بين ثلاثة أشياء كما في حق المستعير.
والرابع: أنه إن كانت قيمة الأرض أكثر فهو واحد، وإن كانت قيمة البناء أكثر فهو فاقد، وأن الحكم فيما لو وهب لولده أرضا كذلك. قال الرافعي: وأنت إذا تأملت هذا الكلام، بعد وقوفك على المذهب المعتمد، وتصفحك عن كتب علمائنا، ورأيت ما بينهما من المخالفة الصريحة- قضيت العجب منه، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال! انتهى كلامه.
واعلم أن نقله لإنكار الرافعي وسكوته عليه دليل على موافقته للرافعي في الإنكار، وأنه لم يظفر بالأقوال التي نقلها الإمام، وليس كذلك، بل الأقوال ثابتة، وقد تفطن في ((المطلب)) إلى الصواب، فقال: أما القول الثالث والرابع فلا إشكال فيهما، وقد حكاهما الرافعي. قال: وأما الأول فقد نقله القاضي حسين في ((تعليقه))، فإنه نقل قولا في منع رجوع الواهب بعد الغراس أو البناء، وقال- أي القاضي-: إنه مثل قوله في المفلس إذا غرس وبنى: لا يرجع بائع الأرض فيها، فثبت القول بمنع الرجوع على الإطلاق. ثم إن ابن الرفعة أيده وقواه بأن المشتري بنى في ملكه الذي لا خيار فيه، بخلاف الموهوب له والمستعير ومشتري الشقص. وأما القول الثاني فقد حكاه ابن سريج كما مر، ونقله المحاملي وغيره. وقد ذكر- أيضًا- في ((الكفاية))، ثم سلك في ((المطلب) مسلكا آخر في الجواب عن الإمام، فقال: إذا امتنع المفلس والغرماء من القلع، والبائع من بذلك القيمة وأرش النقص- جاءت الأقوال. وكلام الرافعي مشتمل عليها، فتأمله، وحينئذ فلا اعتراض على الإمام إلا من جهة الإطلاق، فإذا حملنا كلامه على هذا اندفع الاعتراض منه.