الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4835 -
قول "الحاوي"[ص 549]: (كلٌّ في شارع) كذلك المسجد، لكن لو جلس فيه لأمر ينزه المسجد عنه، أو نام غير معتكف .. فهو كما لو نام في الطريق، حكاه في "أصل الروضة" عن البغوي، وأقره (1).
فصل [في الاصطدام]
4836 -
قول "التنبيه"[ص 222]: (وإن اصطدما فماتا .. وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر) لا يخفى أن الكلام في الحرين، وصرح به "المنهاج و"الحاوي" (2)، وسنتكلم عليه بعد ذلك، وقوله: (وجب على كل واحد منهما) أي: يتعلق بفعله، وهو مضروب على العاقلة، وهي دية مخففة إن كان بلا قصد، ومغلظة مع القصد، وقد صرح بذلك "المنهاج" فقال [ص 490]: (اصطدما بلا قصد .. فعلى عاقلة كلٍّ نصف دية مخففةٍ، وإن قصدا .. فنصفها مغلظة) أي: على العاقلة أيضاً كما يفهمه كلامه، وصرح به في "المحرر" (3)، وهذا الذي ذكرناه من أنها مع القصد على العاقلة أيضاً هو الذي نص عليه في "الأم" (4)، وحكاه الرافعي عن الأكثرين؛ لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض؛ ولذلك لا يتعلق به القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، وذهب أبو إسحاق إلى أنه عمد، وتجب الدية في تركتهما، واختاره الإمام والغزالي (5)، وعليه مشى "الحاوي" فقال [ص 577]: (وعلى عاقلة كلٍّ نصف دية الآخر، لا إن تعمدا) ثم قال شيخنا الإمام البلقيني: إنه لو كان أحدهما ضعيفاً وحركته ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركته مع الآخر .. فهو كالواقف، فيهدر القوي، وعلى عاقلته دية الضعيف كما سيأتي عن الإمام في الدابتين (6).
4837 -
قول "المنهاج"[ص 490] و"الحاوي"[ص 577] فيما إذا مات مركوباهما: (وفي تركة كل نصفُ قيمة دابة الآخر) قال الإمام: لكن لو كانت إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع أنه لا أثر لحركتها مع قوة الدابة الأخرى .. لم يتعلق بحركتها حكم؛ كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة، حكاه عنه في "أصل الروضة"(7)، وهو محتمل للقيد والوجه، وجعله شيخنا
(1) الروضة (9/ 327)، وانظر "التهذيب"(7/ 184).
(2)
الحاوي (ص 577)، المنهاج (ص 490).
(3)
المحرر (ص 411).
(4)
الأم (6/ 86).
(5)
فتح العزيز (10/ 441)، وانظر "نهاية المطلب"(16/ 466، 467)، و "الوجيز"(2/ 151).
(6)
انظر "نهاية المطلب"(16/ 466).
(7)
الروضة (9/ 332).
الإمام البلقيني قيداً، ثم أورد عليه قول الشافعي رضي الله عنه:(وسواء كان أحد الراكبين على فيل والآخر على كبش، أو كانا على دابتين سواء ومتقاربتين)(1) ثم قال: للإمام أن يقول: للكبش حركة لها وقع، والكلام في دابة ضعيفة يقطع بأنه لا أثر لحركتها مع الدابة الأخرى.
قلت: للكبش حركة لكن مع صدمة الفيل .. فلا، والله أعلم.
4838 -
قول "المنهاج" في الصبيين والمجنونين [ص 491]: (وقيل: إن أركبهما ولي .. تعلق به الضمان) فيه أمور:
أحدها: قد يفهم أن المراد: ولي المال. وليس كذلك، بل المراد هنا كما قال شيخنا الإمام البلقيني: ولي الحضانة الذكر، قال: وذلك ظاهر من قول الشافعي رضي الله عنه: (أو حملهما عليها أبواهما أو ولياهما في النسب)(2)، قال: ومن ذلك يؤخذ أن المعتق لا يدخل في ذلك، ولا كل الإناث، ولا كل ذكر لا حق له في الحضانة، ويدخل السلطان في ذلك؛ لأن له الحضانة، وإنما قيد الشافعي بالنسب؛ لإرادته الولاية الخاصة، وقد عرف انتقال الحضانة للسلطان عند فقد القريب، قال: وقد عرف أن ولاية النسب هنا لا تكون إلا بالحضانة؛ فلذلك قلنا: إن المراد به: ولي الحضانة، ولم أر من تعرض لذلك.
ثانيها: قال في "أصل الروضة": الوجهان مخصوصان بما إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركبه الولي دابة شرسة جموحاً .. فلا شك أنه يتعلق به الضمان (3).
ثالثها: قال في "أصل الروضة" أيضاً: كذا أطلق جماعة الوجهين، وخصهما الإمام لإركاب لزينة أو حاجة غير مهمة، فأما إذا مست حاجة أرهقت إلى إركابه للنقل من مكان إلى مكان .. فلا ضمان قطعاً (4).
قال شيخنا الإمام البلقيني: وينبغي أن يضاف إلى ذلك: ألاّ ينسب الولي إلى تقصير فى ترك من يكون معهما ممن جرت العادة بإرساله مع الصبيان.
رابعها: فهم من تعبيره بـ (قيل) أن المرجح وجه أيضًا، وبه صرح في "أصل الروضة"(5)، وليس كذلك، بل نص عليه في "الأم"(6).
(1) انظر "الأم"(6/ 85).
(2)
انظر "الأم"(6/ 86).
(3)
الروضة (9/ 334).
(4)
الروضة (9/ 334)، وانظر "نهاية المطلب"(16/ 479).
(5)
الروضة (9/ 333، 334).
(6)
الأم (6/ 86).
4839 -
قولهم - والعبارة لـ"المنهاج" -: (ولو أركبهما أجنبي .. ضمنهما ودابتيهما)(1) فيه أمور: أحدها: قال شيخنا الإمام البلقيني في "حواشيه": الذي يظهر لي - والله أعلم بالصواب - أن الصبيين إذا كانا حرين .. فالحر لا يدخل تحت اليد، والركوب ليس من الشروط المقتضية للضمان فضلاً عن الإركاب؛ وحينئذ .. فينبغي ألَاّ يضمن المركب من أركبه ولا من تلف بمن أركبه، وسواء أقلنا: عمد الصبي عمد أم خطأ، ويكون كما لو ركبا بأنفسهما.
ثانيها: قال شيخنا المذكور في "تصحيحه": هذا مشكل على تصحيح المصنف فيمن وضع صبياً في مسبعة بحيث لا قدرة له على التخلص، فافترسه السبع .. من أنه لا ضمان وصححنا هناك خلافه، وهذه المسألة تشهد لنا؛ فإن الإركاب مع كون الصبي يستمسك في الركوب على الدابة يبعد فيه الهلاك، وطرح الصبي في الأرض المذكورة يقرب فيه الهلاك.
ثالثها: قال شيخنا في "تصحيحه" أيضًا: محل ضمان الأجنبي: إذا كان مثلهما لا يضبط الدابة، فإن كان يضبطها .. فهو كما لو ركبا بأنفسهما، قال الشافعي رضي الله عنه:(فإن حملهما أجنبيان ومثلهما لا يضبط الدابة .. فدية من أصابا على عاقلة الذي حملهما؛ لأن حملهما عدوانٌ عليهما، فيضمن ما أصابا في حملهما)(2).
رابعها: قال في "الوسيط": لو تعمد الصبي والحالة هذه .. احتمل أن يحال الهلاك عليه إذا قلنا: عمده عمد؛ لأن المباشرة مقدمة على السبب، قال الرافعي: وهذا احتمال حسن، فإن قيل به .. فحكمه كما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذار عنه تكلف (3).
4840 -
قول "المنهاج"[ص 491] و"الحاوي"[ص 578]: (وعبدان مهدران) فيه أمور:
أحدها: يستثنى من ذلك: ما إذا امتنع بيعهما مطلقاً؛ كابني مستولدتين أو موقوفين أو منذور إعتاقهما فلا يهدران؛ لأنهما حينئذ كالمستولدتين، وحكم المستولدتين أن على سيد كل واحدة فداء النصف الذي جنت عليه مستولدته للآخر بأقل الأمرين من قيمتها وأرش الجناية؛ لأنه باستيلادها مانع من بيعها، وإن كان لفظ العبد يتناول الأمة .. استثنيت المستولدتان أيضاً، وقد ذكرها "الحاوي" فقال [ص 578]:(وتقاصتا في مستولدتين، وإن ساوتا مئتين، ومئةً فضل خمسون).
ثانيها: ويستثنى أيضًا: المغصوبان، فعلى الغاصب فداء كل نصف منهما بأقل الأمرين.
ثالثها: استثنى شيخنا الإمام البلقيني مع هاتين الصورتين: ما إذا أوصى أو وقف لأرش
(1) انظر "التنبيه"(ص 222)، و "الحاوي"(ص 578)، و "المنهاج"(ص 491).
(2)
الوسيط (6/ 363).
(3)
انظر"فتح العزيز"(10/ 444).
ما يجنيه العبدان، قال: فيصرف منه لسيد كل عبد نصف قيمة عبده، قال: وهذا وإن لم يتعرضوا له فقهه واضح.
4841 -
قول "المنهاج"[ص 491]: (أو سفينتان .. فكدابتين، والملاحان كراكبين إن كانتا لهما، فإن كان فيهما مال لأجنبي .. لزم كلاً نصف ضمانه، وإن كانتا لأجنبي .. لزم كلاً نصف قيمتهما) محله: فيما إذا كان الاصطدام بفعل الملاحين، أو قصّرا في الضبط مع إمكانه، أو سيرا في ريح شديدة، فإن لم يكن شيء من ذلك .. فذكر "التنبيه" فيه قولين: ثانيهما: أنه لا ضمان، وهذا الثاني هو الأظهر (1)، وعليه مشى "الحاوي" فقال [ص 578]:(وغلبة الريح بحلفه تُهدر).
ويرد عليه وعلى "المنهاج" في إطلاقهما أن الملاح كالراكب: أن الملاحين لو تعمدا الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مفضياً إلى الهلاك فغرقا .. فنصف دية كل منهما في تركة الآخر، بخلاف المصطدمين؛ فإنه على عاقلته كما تقدم، وقد ذكر ذلك في "أصل الروضة" بالنسبة لإيجاب القصاص لأولياء الركاب على الملاحين (2).
قال شيخنا الإمام البلقيني: ويجري حكم العمد في الدية أيضاً بالنسبة إليهما، ولو مات أحدهما بما صدر من التعمد دون الآخر .. وجب القصاص على الحي بناء على إيجاب القصاص على شريك جارح نفسه، وهو المعتمد، قال شيخنا أيضاً: وقضية التشبيه: أن الراكبين لو كانا صبيين أقامهما الولي، أو أجنبي في السفينتين .. أن الحكم كذلك، ولم أر أحداً ذكره، والذي يقتضيه الفقه: القطع هنا بأنه لا ضمان على الولي والأجنبي. انتهى.
ثم ما أطلقوه من أن على كل ملاح ضمان نصف المال. قال في "الكفاية": كذا أطلقوه، والمراد به: استقرار الضمان وإلا .. فلمالك كل سفينة مطالبة ملاحها بكل ضمانها، ولمالك كل مطالبة قائد سفينته بكل ضمانه، وقرار الضمان في النصف من ذلك على كل منهما، صرح به الفوراني وغيره، ووجهه تقصير كل منهما، فدخلت سفينته وما فيها في ضمانه، وقد شاركه في الإتلاف غيره، فضمنا نصفين، وقول "التنبيه" في المسألة [ص 222]:(وقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل، فأما إذا سيرّا السفن ثم اصطدما .. وجب الضمان قولاً واحداً، وقيل: القولان في الجميع) نبه النووي في "التحرير" على أن كلامه الأخير تكرار؛ لأنه حكى القولين في الجميع (3)، فقال بعضهم: لو قال: (فقيل: القولان إذا لم يكن منهما فعل) بالفاء .. لاستقام.
4842 -
قول "المنهاج"[ص 491]: (ولو أشرفت سفينةٌ على غرق .. جاز طرح متاعها،
(1) التنبيه (ص 222).
(2)
الروضة (9/ 336).
(3)
تحرير ألفاظ التنبيه (ص 301).
ويجب رجاء نجاة الراكب، فإن طرح مال غيره بلا إذنٍ .. ضمنه، وإلا .. فلا) فيه أمور:
أحدها: قال في "أصل الروضة": ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الروح، ولا يجوز إلقاء الدواب إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان، وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب .. ألقيت لإبقاء الآدميين، والعبيد كالأحرار (1).
ثانيها: استشكل ذلك شيخنا الإمام البلقيني: بأنه إن جعلت الخيرة في عين المطروح للملاح ونحوه .. فهو غير لائق، وإن توقف على إذن صاحبه .. فقد لا يأذن، فيحصل الضرر، ثم قال: إنه يحتاج إلى إذن المالك في حالة الجواز (2) دون الوجوب (3)، فلو كانت لمحجور .. لم يجز إلقاؤها في محل الجواز، ويجب في محل الوجوب.
ولو كانت مرهونة أو لمحجور عليه بفلس أو لمكاتب أو لعبد مأذون عليه ديون .. وجب إلقاؤها في محل الوجوب، وامتنع في محل الجواز إلا باجتماع الراهن والمرتهن، أو السيد والمكاتب أو السيد والمأذون والغرماء في الصور المذكورة، فلو رأى الولي في محل الجواز أن إلقاء بعض أمتعة محجوره يسلم به باقيها .. فقياس قول أبي عاصم العبادي: فيما لو خاف الوصي استيلاء غاصب على المال فله أن يؤدي شيئا لتخليصه: جوازه هنا، والله أعلم.
ثالثها: أن قوله: (رجاء نجاة الراكب) إن كان تعليلاً للمسألتين .. فكيف تصلح هذه العلة الواحدة للجواز تارة والوجوب أخرى؟ ، وإن كان للوجوب فقط .. فكيف يستقيم الجواز بدون ذلك؟ أورده شيخنا الإمام البلقيني بمعناه، ثم قال: والذي يقال في ذلك: أنه إن حصل هول خيف منه الهلاك مع غلبة السلامة .. جاز إلقاء غير ذات الروح رجاء نجاة الراكب، وإن غلب الهلاك مع ظن النجاة بالطرح .. وجب.
رابعها: لا بد من تقييد الراكب بكونه محترماً؛ ليخرج الحربي والمرتد والزاني المحصن وغيرهم، فلا يلقى مال محترم لنجاة راكب غير محترم، ويرد على قول "الروضة":(ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الروح)(4) الكلب العقور والخنزير، فلا يلقى لأجلهما ما لا روح فيه.
4843 -
قول "التنبيه" في (باب الضمان)[ص 106]: (وإن قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه .. لزمه ضمانه) أهمل له شرطين:
أحدهما: أن يقوله في حال إشراف السفينة على الغرق.
(1) الروضة (9/ 338).
(2)
في (ج): (وهي ما إذا حصل هول خيف منه الهلاك مع غلبة السلامة).
(3)
في (ج): (وهي ما إذا غلب الهلاك إن لم يطرح).
(4)
الروضة (9/ 338).
والثاني: ألَاّ يختص نفع الإلقاء بالملقي فقط، فإن اختص به .. لم يصح الضمان، وقد ذكرهما "المنهاج" فقال [ص 491]:(وإنما يضمن ملتمسٌ لخوف غرقٍ، ولم يختص نفع الألقاء بالملقي) و"الحاوي" فقال [ص 579]: (ومن قال لخوف الغرق: ألق متاعك ضامناً .. لزمه، لا إن احتاج الملقي فقط) ولم يتعرضا لإلقائه، كما صرح به "التنبيه" و"المحرر"(1) لوضوحه.
ولكن فائدة ذكره: أنه لابد أن يلقيه صاحبه أو مأذونه، فلو ألقاه شخص بغير إذنه أو سقط بريح أو غيرها .. لم يلزم القائل شيء، ثم في كلامهم أمور:
أحدها: قال شيخنا الإمام البلقيني: لا بد من الإشارة إلى ما يلقيه، فيقول: هذا، أو يكون المتاع معلوماً للقائل، فإن لم يكن معلوماً .. فلا يضمن إلا ما يلقيه بحضرته، ولا بد من استمراره على الضمان، فلو رجع عنه قبل الإلقاء .. لم يلزمه شيء، قال: ولم أر من تعرض له.
ثانيها: أنهم لم يبينوا المضمون هل هو المثل ولو صورة كالقرض، أو القيمة مطلقاً، أو المثل في المثلي والقيمة في المتقوم؟ وصرح في "الروضة" بالقيمة. ذكره في صيغة الضمان، فقال: أو على أني ضامن قيمته، وفى الحكم: فقال: قال البغوي: تعتبر قيمة الملقى قبل هيجان الأمواج؛ فإنه لا قيمة للمال في تلك الحال. ولا تجعل قيمة المال في البحر وهو على خطر الهلاك كقيمة البر (2).
وقال شيخنا الإمام البلقيني: إن سمى ثمناً حالاً أو مؤجلاً .. لزمه ما سمى، وإلا .. فإن قلنا: إن الضامن لا يملك الملقى - وبه صرح الإمام وهو الأرجح - .. لزمه مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن كان متقوماً كالشراء الفاسد، وإن قلنا: يملكه - وهو ما صرح به الماوردي - .. لزمته قيمته من النقد باعتبار تلك الحالة لا قبل الهيجان خلافاً للبغوي، ثم قال: وعلى الجملة فالأرجح: ما قال الإمام من عدم الملك، والأرجح على هذا: ضمان القيمة مطلقاً وتعذر ضمان المثل؛ لأنه لا مثل لمشرف على هلاك إلا مشرف على هلاك، وذاك بعيد، فتعينت القيمة، قال: ولم أر من حقق ذلك.
ثالثها: ما جزم به "المنهاج" و"الحاوي" من عدم اللزوم فيما إذا اختص نفعه بالملقي فقط ذكره القفال والقاضي حسين والبغوي وغيرهم (3)، ولم يحك فيه الرافعي والنووي خلافاً، وحكى أبو الفرج الزاز في "تعليقه" عن بعض الأصحاب تصحيح هذا الضمان، وعن الشيخ أبي على: أنه على وجهين كما لو قال: أعتق عبدك عني وعليّ قيمته.
قال شيخنا الإمام البلقيني: وقضيه هذا البناء تصحيح الصحة كالأصح هناك، قال: والأصح
(1) التنبيه (ص 106)، المحرر (ص 412).
(2)
الروضة (9/ 339)، وانظر "التهذيب"(7/ 188).
(3)
انظر "التهذيب"(7/ 189).
عندنا: الصحة، وللإنسان قصد في أن يسعى بدفع شيء من ماله في نجاة غيره.
4844 -
قول "الحاوي"[ص 579]: (وأنا والركبان ضامنون .. لزمه حصته ولزمهم حصتهم إن رضوا) ينبغي حمله على ما إذا قصد الإخبار عن ضمان سبق منهم وصدقوه، فإن قصد الإنشاء ورضوا به .. فقيل: يلزمهم، ورجحه في "الوسيط"، وقال: يسامح فيه للحاجة، بخلاف سائر العقود (1)، والظاهر كما قال الرافعي خلافه؛ لأن العقود لا توقف، وفي "أصل الروضة": إنه الصحيح (2).
ولو أذن له في الإلقاء فألقاه .. فهل تلزمه الحصة أم الجميع؛ لأنه باشر الإتلاف؟ وجهان بلا ترجيح في "الروضة"(3)، أما لو زاد على قوله:(أنا والركبان ضامنون كل واحد منا على الكمال. أو على أني ضامن وكل واحد منهم ضامن) .. فعليه ضمان الجميع، وكذا يلزمه الجميع على الأصح إذا قال: أنا ضامن وركاب السفينة، أو على أن أضمنه أنا والركاب، أو قال: وأنا ضامن وهم ضامنون.
4845 -
قولهما: (ولو عاد حجر منجنيق فقتل أحد رماته .. هُدِرَ قسطه، وعلى عاقلة الباقين الباقي)(4) استثنى منه شيخنا الإمام البلقيني: ما إذا حصل ذلك بأمر صنعه رفقاؤه، وقصدوا الرفيق المذكور بسقوطه عليه، وغلبت إصابته .. فهو عمد لا تحمله العاقلة، بل في أموالهم، ولا قصاص عليهم؛ لأنهم شركاء مخطئ، قال: ولم ينبه عليه أحد، وكأنهم تركوه؛ لأنه لا يتصور عندهم، ونحن صورناه، فلا خلاف بيننا وبينهم.
4846 -
قول "المنهاج"[ص 491]: (أو غيرهم ولم يقصدوه .. فخطأٌ، أو قصدوه .. فعمدٌ في الأصح إن غلبت الإصابة) أحسن من قول "الحاوي"[ص 579]: (وإن أصاب واحداً وقصدوه قادرين .. فعمدٌ، وعلى مبهمٍ شبهُهُ، وإلا .. فخطأ) لأنه يتناول واحداً من الرماة، ولم يصور الأصحاب فيه العمد كما تقدم، فما أراد إلا واحداً من غيرهم، فأفصح "المنهاج" بذلك، وأيضاً فلا يختص الحكم بإصابة واحد؛ فقول "المنهاج":(غيرهم) أعم، وقوله:(قادرين) هو كقول "المنهاج": (إن غلبت الإصابة)، وقوله:(وعلى مبهم شبهه) أي: شبه عمد، هي الصورة الخارجة بمفهوم قول "المنهاج":(إن غلبت الإصابة) وقول "الحاوي": (قادرين) فإن مراده بها: ما إذا قصدوا واحداً والغالب أنه لا يصيبه وهم قادرون على إصابة غير معين، فلم يقصدوا مبهماً، ولكن لا يقع رميهم إلا على مبهم، ففي تعبيره عن ذلك قلق.
(1) الوسيط (6/ 365).
(2)
فتح العزيز (10/ 455)، الروضة (9/ 341).
(3)
الروضة (9/ 341).
(4)
انظر "الحاوي"(ص 579)، و "المنهاج"(ص 491).
ونازع شيخنا الإمام البلقيني في اعتبار غلبة الإصابة، وقال: ذكره جماعة، وهو غير معتبر على أصل الشافعي؛ لأن الغلبة إنما تعتبر في الآلة أن تهلك غالباً لا في إصابتها، فمتى أمكنت الإصابة وحصلت .. وجب القود كما لو رمى شخصاً بسهم قد يصيبه وقد لا يصيبه، فأصابه فقتله، أو ألقى حجراً من سطح على مار قد يصيبه وقد لايصيبه فأصابه فقتله .. فيجب القود فيهما، وقول "المنهاج":(في الأصح) تبع فيه "المحرر" و"الشرح الصغير"(1)، والذي في "الشرح الكبير": إنه الذي قطع به الصيدلاني والإمام والغزالي والمتولي، ورجحه البغوي والروياني، وقطع العراقيون بمقابله، وهو أنه شبه عمد، قال الرافعي: ويشبه أن يقال: الخلاف راجع إلى أنه هل يتصور تحقيق هذا القصد في المنجنيق؟ (2).
وقال شيخنا الإمام البلقيني: لم يثبت أحد من المصنفين في الطريقين هذا الخلاف، وإنما بعض العراقيين يقول: لا يتصور قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وإنما يتفق وقوعه ممن وقع، وخالفهم آخرون فقالوا: إن ذلك يتصور.
4847 -
قول "التنبيه"[ص 222]: (وإن وقع رجل في بئر فجذب ثانياً والثاني ثالثاً والثالث رابعاً وماتوا - أي: بوقوع بعضهم على بعض - .. وجب للأول ثلث الدية على الثاني، والثلث على الثالث ويهدر الثلث) محله: فيما إذا كان الوقوع في البئر غير مهلك، فإن كان مهلكاً، فالأول هلك بصدمة البئر أيضًا .. فديته أرباع، ربع على عاقلة الحافر إن كان الحفر عدوانا، فإن لم يكن عدواناً .. هدر أيضاً، والأرباع الباقية على ما ذكر في الأثلاث، ولا أثر للصدمة في حق الباقين، فديتهم على ما هي عليه، أما إذا كانت البئر واسعة فلم يقع بعضهم فوق بعض .. فدية كل مجذوب على عاقلة جاذبه، ودية الأول على عاقلة الحافر إن كان متعدياً.
4848 -
قول "الحاوي"[ص 579]: (وإن تزلق وجذب ثانياً، وهو ثالثاً .. هدر ثلث الأول، وثلثاه على الحافر والثاني) لا يخفى أن محله: إذا كان الحافر متعدياً، وإلا .. هدر ثلث آخر، والله أعلم.
4849 -
قول "التنبيه"[ص 222]: (وإن تجارح رجلان فماتا .. وجب على كل واحد منهما دية الآخر) محله فيما إذا كان ذلك خطأ أو شبه عمد، فإن كان عمداً .. فدم كل منهما هدر، قاله القاضي حسين فيما حكاه عنه في "الكفاية".
* * *
(1) المحرر (ص 412).
(2)
فتح العزيز (10/ 458)، وانظر "نهاية المطلب"(16/ 479)، و"الوجيز"(2/ 152).