الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس بعض خصائص الرسل عليهم الصّلاة والسّلام
خصّ الله تبارك وتعالى الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام بأمور انفردوا بها دون بقية البشر، وسأقتصر على ذكر الأمور التي تكلّم فيها ابن رجب رحمه الله تعالى، ومنها:
1 -
أنهم يخيّرون عند الموت بين الدنيا والآخرة، يدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إلّا خيّر بين الدنيا والآخرة، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحة
(1)
شديدة، فسمعته يقول:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
(2)
، فعلمت أنه خيّر"
(3)
.
يقول ابن رجب رحمه الله تعالى في هذا: "وأمّا الأنبياء فلا يقبضون حتى يخيّروا"
(4)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "لما كان الموت مكروهًا بالطبع لما فيه من الشدّة والمشقّة العظيمة لم يمت نبيّ من الأنبياء حتي يخيّر"
(5)
.
(1)
البُحَّة: بالضم غلظة في الصوت، يقال بَحَّ يَبَحَّ بُحُوحًا، وإن كان من داء فهو البُحاح. النهاية لابن الأثير (1/ 99).
(2)
سورة النساء، آية (69).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب التفسير - باب "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين"(5/ 181).
(4)
جامع العلوم والحكم (3/ 179).
(5)
لطائف المعارف (ص 103).
2 -
أنهم لا يورثون، ودلّ على ثبوت ذلك جملة من الأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: إن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، فيسألنه ميراثهن من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا صدقة"
(1)
.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركت بعد مؤنة عاملي ونفقة نسائي صدقة"
(2)
.
ومنها حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"
(3)
.
فهذه الأحاديث تدلّ على أن الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لا يورثون.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة - باب ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين (8/ 146)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير - باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة"(3/ 1379).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 463).
(3)
أخرجه أحمد (5/ 196)، وأبو داود: كتاب العلم - باب الحثّ على العلم (4/ 58)، والترمذي: كتاب العلم - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (5/ 48)، وابن ماجه: المقدمة - باب فضل العلماء والحثّ على طلب العلم (1/ 81)، والحاكم (1/ 79) من حديث أبي هريرة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 160): أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم مصححًا من حديث أبي الدرداء وحسّنه حمزة الكناني وضعف عندهم مسنده، لكن له شواهد يتقوّى بها.
وقد أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة عند شرحه لحديث أبي ذرّ السابق، فقال:"فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر".
المراد بهذا أن العلماء ورثوا الأنبياء فيما خلفوه، وأن الذي خلف الأنبياء هو العلم النافع فمن أخذ العلم وحصل له فقد حصّل الحظ العظيم الوافر الذي يغبط به صاحبه، ورأى ابن مسعود قومًا في المسجد يتعلّمون، فقال رجل: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال: على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه.
وخرج أبو هريرة إلى السوق، فقال لأهله:"تركتم ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسم في المسجد وأنتم هاهنا؟ "
(1)
.
فتركته صلى الله عليه وسلم وميراثه هو هذا الكتاب الذي جاء به مع السنّة المفسّرة له المبيّنة لمعانيه، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه سئل: أترك النبيّ صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: "ما ترك إلّا ما بين الدفتين"
(2)
، يعني المصحف"
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى: "فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم"، يريد أنهم لم يورث عنهم سوى العلم. وهذا يبيّن المراد بقوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}
(4)
، وقوله عن زكريا:
(1)
قال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 103): رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وكذا قال الهيثمي أيضًا في المجمع (1/ 123).
(2)
صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن - باب من قال لم يترك النبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا ما بين الدفتين (6/ 156).
(3)
شرح حديث أبي الدرداء (ص 135 - 136).
(4)
سورة النمل، آية (16).
{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ}
(1)
، إنما أريد به ميراث العلم والنبوّة لا المال، فإن الأنبياء لا يجمعون مالًا يتركونه.
قال عليه السلام: "ما تركت بعد مؤنة عاملي ونفقة عيالي، فهو صدقة"
(2)
. وما ترك إلّا درعه وسلاحه وبغلته البيضاء وأرضًا جعلها صدقة
(3)
. فلم يخلف سوى آله بعده، والأرض التي كان يقتات منها هو وعياله ردّها صدقة على المسلمين.
وكل هذا إشارة إلى أن الرسل لم تبعث بجمع الدنيا وتوريثها لأهليهم، وإنما بعثوا بالدّعوة إلى الله والجهاد في سبيله والعلم النافع وتوريثه لأممهم، وفي مراسيل أبي مسلم الخولاني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن سبّح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، خرّجه أبو نعيم
(4)
.
وفي الترمذي وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما لي وللدنيا إنما مثلي
(1)
سورة مريم، آية (5، 6).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس - باب نفقة نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته (4/ 44)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"(3/ 1382).
(3)
يدلّ على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه (4/ 45) من حديث عمرو بن الحارث، قال:"ما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا سلاحه وبغلته البيضاء وأرضًا تركها صدقة".
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 131) من طريق جبير بن نفير عن أبي مسلم مرسلًا، والبغوي في تفسيره (3/ 60)، وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/ 105)، وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر، والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمى.
ومثل الدنيا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها"
(1)
، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إن العلماء ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم"، إشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن العالم الذي هو وارث الرسول حقيقة، كما أنه ورث علمه ينبغي أن يورث العلم كما ورّث الرسول العلم، وتوريث العالم العلم هو أن يخلفه بعده بتعليم أو تصنيف، ونحو ذلك مما ينتفع به بعده، والعالم إذا علّم من يقوم به بعده فقد خلّف علمًا نافعًا وصدقة جارية، لأن تعليم العلم صدقة، والذين علّمهم بمنزلة أولاده الصالحين يدعون له، فيجتمع له بتخليف علمه الخصال الثلاثة.
وأمّا الأمر الثاني: فهو أن من كمال ميراث العالم للرسول أن لا يخلف الدنيا كما لم يخلفها الرّسول، وهذا من جملة الاقتداء بالرسول وبسنّته في زهده في الدنيا، وتقلّله منها واجتزائه منها باليسير
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (4/ 588) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الزهد - باب مثل الدنيا (2/ 1376)، وأحمد (1/ 391)، والحاكم (4/ 310)، وقال: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.
(2)
شرح حديث أبي الدرداء (ص 137 - 141).