الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر النار وعذابها
النار دار أعدها الله سبحانه وتعالى لأعدائه ولمن عصاه وخالف أمره، وهي دار العقوبة في الآخرة، ودار الذل والهوان والعذاب، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، شرابهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ومأكلهم الزقوم كالمهل يغلي في البطون.
والآيات والأحاديث الواردة في النار ووصفها ووصف عذابها وصفات أهلها أكثر من أن تحصى، أعاذنا الله من النار ومن عذابها.
(1)
.
(2)
.
(3)
.
(1)
سورة التحريم آية (6).
(2)
سورة الحجر آية (43، 44).
(3)
سورة النبأ، الآيات (21 - 26).
(1)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءًا من حر جهنم قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلها مثل حرها"
(3)
.
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين"
(4)
.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث"
(5)
.
(1)
سورة الصافات الآيات (62 - 67).
(2)
أخرجه مسلم: كتاب صفة النار، باب ذكر أزمة النار (4/ 2184).
(3)
أخرجه مسلم: كتاب صفة النار، باب في بعد قعر جهنم (4/ 2184).
(4)
أخرجه أحمد (2/ 336) والترمذي: كتاب صفة جهنم (4/ 702) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(5)
أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون
…
(4/ 2189).
وقد تكلم ابن رجب رحمه الله تعالى كلامًا كثيرًا عن النار وأهلها ووصف عذابها في كتاب التخويف من النار، وساق في هذا الكتاب أبوابًا عديدة يذكر في كل باب كثيرًا من الآيات والأحاديث المتعلقة بها.
قال في مقدمته: "وقد استخرت الله تعالى في جمع كتاب أذكر فيه صفة النار، وما أعد الله فيها لأعدائه من الخزي والنكال والبوار، ليكون بمشيئة الله قامعًا للنفوس عن غيها وفسادها، وباعثًا لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها
…
"
(1)
.
وقال في الباب السادس عشر في ذكر حجارة النار: ومن جملة أنواع عذاب أهل النار فيها تلاعنهم وتباغضهم، وتبرأ بعضهم من بعض، ودعاء بعضهم على بعض بمضاعفة العذاب كما قال الله تعالى:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}
(2)
.
وقال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. . .}
(3)
الآية.
وقال الله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}
(4)
، وحينئذ فلا يبعد أن يقرن كل كافر بشيطانه الذي أضله وبصورة من عبده من دون الله من الحجارة
(5)
.
وفي الباب الثامن عشر في ذكر طعام أهل النار وشرابهم فيها قال:
(1)
التخويف من النار (ص 9).
(2)
سورة الأعراف آية (38).
(3)
سورة غافر آية (47).
(4)
سورة ص آية (59 - 64).
(5)
التخويف من النار (ص 135).
"قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)}
(1)
…
ثم قال: وقد دل القرآن على أنهم يأكلون منها حتى تمتلئ منها بطونهم فتغلي في بطونهم كما يغلي الحميم وهو الماء الذي قد انتهى حره ثم بعد أكلهم منها يشربون عليه من الحميم شرب الهيم"
(2)
.
وفي الباب الحادي والعشرين في ذكر أنواع عذاب أهل النار وتفاوتهم في العذاب بحسب أعمالهم قال: "واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي دخلوا بها النار كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}
(3)
.
وقال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)}
(4)
قال ابن عباس: "وافق أعمالهم"
(5)
.
فليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}
(6)
.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}
(7)
.
(1)
سورة الدخان آية (43 - 46).
(2)
التخويف من النار (ص 142، 144).
(3)
سورة الأنعام آية (132).
(4)
سورة النبأ آية (26).
(5)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (30/ 15).
(6)
سورة النحل آية (88).
(7)
سورة غافر آية (46).
وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم العذاب بحسنات أخر له أو بما شاء الله من الأسباب. . . "
(1)
.
وقال في هذا الباب أيضًا عن أنواع عذابهم: "ومن أنواع عذابهم الصهر قال الله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)}
…
(2)
.
ومن أنواع عذابهم سحبهم في النار على وجوههم قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} . . .
(3)
.
ومنهم من يعذب بالصعود إلى أعلى النار ثم يهوي فيها كذلك أبدًا، ومنهم من يكلف صعود جبل في النار والتردي منه. . .
ومنهم من يدور في النار ويجر أمعاءه معه، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن لحي يجر قُصْبَه
(4)
في النار. . .
(5)
.
(1)
التخويف من النار (ص 181، 182).
(2)
سورة الحج آية (19 - 21).
(3)
سورة القمر آية (47، 48).
(4)
قُصْبَه: بضم القاف الأمعاء، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء. النهاية لابن الأثير (4/ 67).
(5)
أخرجه البخاري (4/ 160) ومسلم (4/ 2192) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر لحيي الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب" والسوائب جمع سائبة وهي الناقة التي تترك فلا تحلب ولا تركب، ولا تمنع من ماء ولا مرعى، إما للآلهة وإما لأجل نذر أو شفاء من مرض. لسان العرب (1/ 478).
ومنهم من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة الضيقة قال الله عز وجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)}
(1)
.
وربما يبتلى أهل النار بأنواع من الأمراض الحادثة عليهم
…
ومن أهل النار من يتأذى أهل النار بعذابه إما من نتن ريحه أو غيره
…
(2)
.
كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى أن أعظم عذاب أهل النار هو حجابهم عن الله عز وجل وعدم تمكنهم من رؤيته تبارك وتعالى فقال: "وأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل وإبعادهم عنه وإعراضه عنهم وسخطه عليهم كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة" قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}
(3)
.
فذكر الله تعالى لهم ثلاثة أنواع من العذاب: حجابهم عنه، ثم صليهم الجحيم، ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدنيا، ووصفهم بالران على قلوبهم، وهو صدأ الذنوب الذي سوّد قلوبهم، فلم يصل إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ولا من إجلاله ومهابته وخشيته ومحبته، فكما حجبت قلوبهم في الدنيا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته"
(4)
.
كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى بعض أهل النار الذين يدخلونها
(1)
سورة الفرقان آية (13).
(2)
التخويف من النار (ص 184) وما بعدها.
(3)
سورة المطففين آية (14 - 17).
(4)
التخويف من النار (ص 195 - 196).
فقال: "وفي صحيح مسلم
(1)
عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "
…
وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له
(2)
الذين هم فيكم تبعًا لا يبغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخل أو الكذب والشِّنْظِير
(3)
: الفحاش
…
أهل النار
…
قسمهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى خمسة أصناف:
الصنف الأول: الضعيف الذي لا زبر له، ويعني بالزبر القوة والحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى والعمل الصالح ولما حدث مطرف بن عبد الله
(4)
بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ قوله: "الضعيف الذي لا زبر له" فقيل له: أوَ يكون هذا؟ قال: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها.
وهذا القسم شر أقسام الناس ونفوسهم ساقطة لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا ولا الآخرة، وإنما همة أحدهم شهوة بطنه وفرجه كيف
(1)
صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا وأهل الجنة وأهل النار (4/ 2198).
(2)
قال في النهاية: لا زَبْر له: أي لا عقل له يزبره وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي. النهاية لابن الأثير (2/ 293).
(3)
الشِّنْظِير: فسره بالحديث بأنه الفحاش وهو السيئ الخلق. النهاية لابن الأثير (2/ 505).
(4)
مطرف بن عبد الله الشخير العامري أبو عبد الله البصري الإمام الحافظ من كبار التابعين. قال ابن سعد: كان ثقة له فضل وورع وعقل وأدب، توفي سنة 86 هـ، وقيل بعد ذلك.
طبقات ابن سعد (7/ 141) وسير أعلام النبلاء (4/ 187) وتهذيب التهذيب (10/ 173).
اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم.
والصنف الثاني: الخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه أي يعني لا يقدر على خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها واغتنمها، ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان، وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع وأموال اليتامى وغير ذلك، وهو خصلة من خصال النفاق وربما يدخل الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سرًا مع إظهار اجتنابها.
الصنف الثالث: المخادع الذي دأبه صباحًا ومساءً مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم، والخداع من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله تعالى بذلك، والخداع معناه إظهار الخير وإضمار الشر لقصد التوصل إلى أموال الناس وأهاليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة.
الصنف الرابع: الكذب والبخل
…
والكذب والبخل كلاهما ينشأ عن الشح كما جاء ذلك في الأحاديث، والشح هو شدة حرص الإنسان على ما ليس له من الوجوه المحرمة، وينشأ عنه البخل، وهو إمساك الإنسان ما في يده والامتناع من إخراجه في وجوهه التي أمر بها، فالمخادع الذي سبق ذكره هو الصحيح، وهذا الصنف هو البخيل، فالشحيح أخذ المال بغير حقه، والبخيل منعه من حقه.
وينشأ عن الشح أيضًا الكذب والمخادعة والتحيل على ما لا يستحقه الإنسان بالطرق الباطلة المحرمة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار"
(1)
.
(1)
هذا جزء من حديث أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (7/ 200) ومسلم: كتاب البر والصلة، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (4/ 2012).
الصنف الخامس: الشنظير وقد فسر بالسيىء الخلق، والفحاش هو الفاحش المتفحش، وفي الصحيحين
(1)
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه".
وفي الترمذي
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبغض الفاحش البذيء" والبذيء الذي يجري لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام
…
والفاحش هو الذي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره
(3)
.
كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى بعض الأعمال التي تنجي العبد من نار جهنم أعاذنا الله منها فقال: "قد تكاثرت النصوص في أن البكاء من خشية الله يقتضي النجاة منها، والبكاء خوفًا من نار جهنم هو البكاء من خشية الله لأنه بكاء من خشية عقاب الله وسخطه والبعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته"
(4)
.
(1)
صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب (7/ 86) وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب مدارة من يتقي فحشه (4/ 2002).
(2)
سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق (4/ 362) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
التخويف من النار (ص 277) وما بعدها.
(4)
المصدر السابق (ص 55).