الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني مذهب السلف في أسماء الله وصفاته وموقف ابن رجب منه
إن مذهب السلف في أسماء الله وصفاته هو مذهب وسط بين الجافية والغالية، بين المعطلة من الجهمية
(1)
والمعتزلة
(2)
ومن سلك مسلكهم من الخوارج
(3)
،
(1)
هي إحدى الفرق المنحرفة عن المنهج القويم، نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط، وأن الكفر هو الجهل به، وزعم أيضًا أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ونفى أسماء الله تعالى وصفاته.
الملل والنحل (1/ 86) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص 68) والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص 34) والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 211).
(2)
هي إحدى الفرق المنحرفة عن الطريق المستقيم مؤسسها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، سموا معتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، وقيل لاعتزالهم منهج أهل السنه والجماعة، وقيل غير ذلك، من عقائدهم إثبات الأسماء وإنكار جميع الصفات، ومنها أن صاحب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا وفي الآخرة خالد مخلد في النار.
الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 114) والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص 49).
(3)
الخوارج: سموا بهذا الاسم لخروجهم على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونزلوا بأرض يقال لها حروراء فسموا بالحرورية، من عقائدهم تكفير أصحاب الكبائر في الدنيا والآخرة، كما يقولون بالخروج على أئمة الجور، وهم يكفرون عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعًا.
الفصل في الملل والنحل (2/ 113) الملل والنحل للشهرستاني (1/ 114) والمقالات (1/ 56) والفتاوى (3/ 279).
والأشاعرة
(1)
وغيرهم من الذين يلحدون في أسماء الله وصفاته، ويعطلون حقائق ما وصف الله به نفسه عز وجل، حتى شبهوه سبحانه وتعالى بالعدم والموات، وبين الممثلة من الكرامية وغلاة الرافضة
(2)
الذين يضربون لله عز وجل الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، وكلا المذهبين مجانب للصواب والمذهب الصحيح الذي لا معدل عنه لكل من يريد السير على الصراط المستقيم هو مذهب السلف الذين يؤمنون بأسماء الله وبما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الجلال والكمال حقيقة على الوجه الذي يليق بكمال الله تعالى، وجلاله وعزته وعظمته.
وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات لا يجوز ولا يليق أن يوصف بها سبحانه وتعالى.
(1)
الأشاعرة: هم المنتسبون لأبي الحسن الأشعري الذين هم على مذهبه قبل أن يرجع إلى معتقد أهل السنة والجماعة، وهم في الجملة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا لأن العقل دل على إثباتها، ويؤولون بقية الصفات بتأويلات عقلية رغم ورود النصوص فيها من الكتاب والسنة ولو اتبعوا الحق وأنصفوا لرجعوا إلى منهج أهل السنة والجماعة كما رجع إليه من ينتسبون إليه وهو أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى.
الملل والنحل (1/ 138) والفتاوى (6/ 51) ودعوة التوحيد للعلامة محمد خليل هراس رحمه الله (230).
(2)
الرافضة: هم جماعة غلاة الشيعة، سموا بذلك لرفضهم إمامة زيد بن علي حينما توجه إلى قتال هشام بن عبد الملك فقال أصحابه: تبرأ من الشيخين حتى نكون معك فقال: لا بل أتولاهما وأتبرأ ممن تبرأ منهما فقالوا: إذا نرفضك، وهم فرق متعددة، والغلاة منهم هم المجسمة الذين يشبهون الله عز وجل بخلقه وهم الهشامية الذين ينقسمون إلى فرقتين: فرقة تنسب إلى هشام بن الحكم الرافضي، والفرقة الأخرى تنسب إلى هشام بن سالم الجواليقي.
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 64) والمقالات (1/ 89) رسالة في الرد على الرافضة لأبي حامد المقدسي (ص 65 - 68) الفرق بين الفرق (ص 65).
وهم في ذلك يعتمدون على الأدلة الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
(2)
.
وقد سلك ابن رجب رحمه الله تعالى المنهج الحق منهج أهل السنة والجماعة وأوضحه وبيّنه، ومما قاله في تقرير هذا المسلك قوله: وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، قال أبو هلال
(3)
: سأل رجل الحسن
(4)
عن شيء من صفة الله عز وجل فقال: أمروها بلا مثال. وقال وكيع
(5)
: أدركت إسماعيل بن أبي خالد
(6)
(1)
سورة الشورى آية (11).
(2)
سورة الإخلاص آية (4).
(3)
محمد بن سليم أبو هلال الراسبي البصري، مولى بني أسامة بن لؤي. قال أبو داود: أبو هلال ثقة، أخرج له البخاري تعليقًا والأربعة، توفي سنة 167 هـ.
الجرح والتعديل (7/ 273) وتهذيب التهذيب (9/ 195).
(4)
الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد -مولى زيد بن ثابت- كان سيد أهل زمانه علمًا وعملًا، وكان من أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد عرف بالزهد والشجاعة، توفي سنة 110 هـ.
أخبار القضاة (2/ 3) وسير أعلام النبلاء (4/ 563) وتهذيب التهذيب (2/ 263).
(5)
وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي الإمام الحافظ، محدث العراق، قال الإمام أحمد فيه: كان وكيع بن الجراح إمام المسلمين في وقته، توفي سنة 197 هـ.
تاريخ بغداد (13/ 466) وسير أعلام النبلاء (9/ 140) وطبقات المفسرين للداوودي (2/ 357).
(6)
إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي، مولاهم، البجلي، تابعي كوفي ثقة ثبت، قال العجلي: كوفي تابعي، ثقة وكان رجلًا صالحًا، سمع من خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 146 هـ.
الثقات للعجلي (64) وتهذيب الكمال للمزي (3/ 69).
وسفيان
(1)
ومسعر
(2)
يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئًا. وقال الأوزاعي
(3)
: سئل مكحول
(4)
والزهري
(5)
عن تفسير هذه الأحاديث؟ فقالا: أمروها كما جاءت. وقال الوليد بن مسلم
(6)
: سألت الأوزاعي
(1)
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أمير المؤمنين في الحديث، من أئمة المسلمين وأعلام الدين مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد، توفي سنة 161 هـ.
التاريخ الكبير (4/ 92) وتذكرة الحفاظ (1/ 203) وتهذيب التهذيب (4/ 111).
(2)
مسعر بن كدام -بكسر أوله وتخفيف ثانيه- بن ظهير الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، قال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحدًا أثبت من مسعر، توفي سنة 155 هـ.
الثقات للعجلي (426) والجرح والتعديل (8/ 368) ومشاهير علماء الأمصار (169) وسير أعلام النبلاء (7/ 163).
(3)
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي الدمشقي، عالم أهل زمانه، كان صاحب سنة واتباع، وله مذهب مستقل في الفقه عمل به فقهاء الشام والأندلس مدة، وقد عرف بالزهد والخشوع، توفي سنة 157 هـ.
الجرح والتعديل (1/ 184) وتذكرة الحفاظ (1/ 178) وسير أعلام النبلاء (7/ 107).
(4)
مكحول بن عبد الله الدمشقي يكنى أبا عبد الله، من سبي كابل عالم أهل الشام، قال أبو حاتم: ما بالشام أحد أفقه من مكحول، توفي سنة 113 هـ، وقيل غير ذلك.
وفيات الأعيان (5/ 280) وسير أعلام النبلاء (5/ 125).
(5)
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، أبو بكر الإمام العلم الحافظ، كان فقيهًا محدثًا، كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق "عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه"، توفي سنة 124 هـ.
وفيات الأعيان (3/ 317) وسير أعلام النبلاء (5/ 326) وشذرات الذهب (1/ 162).
(6)
الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي مولى بني أمية، الإمام الحافظ، عالم أهل الشام، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث والعلم، توفي سنة 195 هـ.
التاريخ الكبير (8/ 152) وسير أعلام النبلاء (9/ 211) وشذرات الذهب (1/ 344).
ومالكًا وسفيان وليثًا
(1)
عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن؟ فقالوا: أمروها بلا كيف. وقال ابن عيينة
(2)
: ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل، وكلام السلف في مثل هذا كثير جدًا
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وأما السلف وأئمة أهل الحديث فعلى الطريقة الأولى وهي الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أثبته له مع نفي التمثيل والكيفية عنه كما قاله ربيعة
(4)
ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء، وقد روي عن أم سلمة أم المؤمنين
(5)
وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول،
(1)
الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث، الإمام الحافظ، عالم الديار المصرية، كان فقيهًا كثير العلم صحيح الحديث مع الورع والفضل، توفى سنة 175 هـ.
سير أعلام النبلاء (8/ 136) وتهذيب التهذيب (8/ 459).
(2)
سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، أبو محمد الكوفي، المحدث كان من الحفاظ المتقنين، قال الشافعي: ما رأيت أحدًا أحسن تفسيرًا للحديث منه، توفي سنة 198 هـ.
الجرح والتعديل (1/ 32) وسير أعلام النبلاء (8/ 454) وتهذيب التهذيب (4/ 117).
(3)
فتح الباري ورقة (173).
(4)
ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ القرشي، أبو عثمان المشهور بربيعة الرأي، الإمام الفقيه، مفتي المدينة وعالم زمانه، كان ذا فطنة وسنة، قال ابن معين: ثقة كثير الحديث، توفي سنة 136 هـ.
سير أعلام النبلاء (6/ 89) وتهذيب التهذيب (3/ 258) وشذرات الذهب (1/ 194).
(5)
قول أم سلمة في الاستواء الذي أشار إليه ابن رجب أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (3/ 397) وأبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف (ص 81) والذهبي في العلو (ص 65) من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله =
وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق"
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "
…
وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الأمة فهي إقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل
…
ومن قال الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران ظاهر يليق بالمخلوقين ويختص بهم فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام فهو مراد، ونفيه تعطيل، ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية الذين يحسن بهم المتكلمون الظن: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات.
وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يوجد من أدلة العقول ولا يوجد مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أهل العلم والإيمان فيعلمون أن ذلك كله متلقى مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل إلى تلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة ما ظاهره كفر أو تشبيه أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه حق وصدق
= تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} سورة طه آية (5). قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود له كفر. قال الذهبي:"هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي ومالك الإمام وأبي جعفر الترمذي، فأما عن أم سلمة فلا يصح".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر قول الإمام مالك في الاستواء: وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه.
مجموع الفتاوى (5/ 365).
(1)
فتح الباري ورقة (5/ 105 - 106).
يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته وما أشكل فهمه من ذلك فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم إنهم يقولونه عند المتشابهات: آمنا به كل من عند ربنا، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في متشابه الكتاب أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل
(1)
.
هكذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين ومن سلك سبيلهم كانوا متفقين على هذا المنهج، كلمتهم واحدة، لم يقابلوا الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية بالتأويل والتحريف ولم يعارضوها بعقولهم بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإجلال والتعظيم، ولم يتكلم أحد منهم في شيء من أمور الدين إلا تبعًا لما قاله الله عز وجل، ولما نطق به رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول محمد بن الحسن
(2)
رحمه الله تعالى: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا
(3)
.
(1)
فتح الباري (5/ 100).
(2)
محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، فقيه العراق وصاحب أبي حنيفة، صنف الجامع الكبير والجامع الصغير وغيرهما، توفي سنة 189 هـ.
وفيات الأعيان (4/ 184) وسير أعلام النبلاء (9/ 134).
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (432) وإثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 117).
ويقول شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني
(1)
رحمه الله تعالى مبينًا عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله تبارك وصفاته: "أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم، يشهدون لله بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون لله جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز وجل: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
(2)
ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنّ عليهم بالتعريف، والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(3)
.
وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة، والقدرة والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا
(1)
هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني مقدم أهل الحديث في بلاده، كان على منهج أهل السنة ويلقب بشيخ الإسلام، توفي سنة 449 هـ.
سير أعلام النبلاء (18/ 40) وتهذيب تاريخ دمشق (1/ 314)، وطبقات المفسرين للداوودي (1/ 107) وشذرات الذهب (3/ 282).
(2)
سورة ص آية (75).
(3)
سورة الشورى آية (11).
والسخط والحياة واليقظة
(1)
والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى .. "
(2)
.
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر
(3)
رحمه الله تعالى: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة والحمد لله"
(4)
.
(1)
هذه اللفظة لم ترد في نصوص الكتاب والسنة، والسلف دائمًا يتقيدون بما ورد في الكتاب والسنة.
(2)
عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني (ص 75 ، 76) ضمن مجموعة الرسائل الكمالية في التوحيد.
(3)
هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث، يقال له حافظ المغرب، ولد بقرطبة سنة 368 هـ، له مؤلفات عظيمة منها "التمهيد"، والاستيعاب، قال الذهبي: كان في أصول الديانة على مذهب السلف، ولم يدخل في علم الكلام، توفي سنة 463 هـ.
وفيات الأعيان (7/ 66) وسير أعلام النبلاء (18/ 153) وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص 431).
(4)
التمهيد (7/ 145).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأما الأول وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله نفيًا وإثباتًا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
(1)
.
(2)
الآية .. فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيهًا بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(3)
ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل
(4)
.
هذا هو منهج السلف في معرفتهم لربهم عن طريق معرفة أسمائه وصفاته التي اتصف بها كما جاءت به الأدلة في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)
سورة الأعراف آية (180).
(2)
سورة فصلت آية (40).
(3)
سورة الشورى آية (11).
(4)
الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام (ص 4).
وقد بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى أن هذا هو المنهج القويم وهو الصواب الذي يجب على كل مسلم اتباعه والأخذ به، ولا يجوز العدول عنه والأخذ بما سواه.
فقال رحمه الله تعالى: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات، وأحاديثها، كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصًا الإمام أحمد، ولا خوضًا في معانيها، ولا ضرب مثل من الأمثال لها، وإن كان بعض من كان قريبًا من زمن أحمد فيهم من فعل شيئًا من ذلك اتباعًا لطريقة مقاتل
(1)
فلا يقتدى به في ذلك، إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك
(2)
ومالك والثوري والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق
(3)
(1)
مقاتل بن سليمان بن بشر البلخي، اشتهر بالتفسير. قال ابن المبارك "ما أحسن تفسيره لو كان ثقة". وذكر كل من ترجم له أنه اشتهر عنه القول بالتجسيم، وذهب ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أن ما رمي به من التشبيه والتجسيم ليس بصحيح، وإنما هذا قاله أعداؤه من النفاة كالجهمية وغيرهم، فنسب القول إليه بالتشبيه، وهو منه بريء، والله أعلم بالصواب، توفي بالعراق سنة 150 هـ.
تاريخ بغداد (13/ 160) ومنهاج السنة (2/ 618) وسير أعلام النبلاء (7/ 201).
(2)
عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم المروزي، الحافظ شيخ الإسلام، عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته، قال ابن معين: ذاك أمير المؤمنين في الحديث، توفي سنة 181 هـ.
حلية الأولياء (8/ 162) وسير أعلام النبلاء (8/ 378) وتهذيب التهذيب (5/ 382).
(3)
إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي ثم الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه، نزيل نيسابور، سيد الحفاظ وشيخ المشرق في زمانه. قال الإمام أحمد عنه: لا أعرف لإسحاق في الدنيا نظيرا، وقال النسائي فيه: أحد الأئمة، ثقة مأمون، توفي سنة 238 هـ.
سير أعلام النبلاء (11/ 258) والبداية والنهاية (10/ 231).
وأبي عبيد
(1)
ونحوهم
(2)
..
فابن رجب رحمه الله تعالى كما اتضح من قوله هذا يرى أن منهج السلف هو المنهج الذي يجب الأخذ به وعدم العدول عنه لأنه منهج يعتمد على الكتاب والسنة، وهو يتركز على الأسس الآتية:
1 -
الإثبات.
2 -
التنزيه.
3 -
عدم إدراك الكيفية.
الأول: الإثبات:
أما الإثبات فإن السلف يعتقدون ما دل عليه صريح الكتاب وصحيح السنة من أسماء الله تعالى وصفاته، ويثبتونها على ما يليق بجلاله مع اعتقادهم أنها دالة على معان ثابتة كاملة في نفس الأمر، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وقد روي عن كثير من السلف ما يدل على أن مذهبهم هو الإثبات وقد ذكرت جملة من أقوالهم في أول هذا المبحث وهي تدل على أن السلف يؤمنون بكل ما أخبر الله به عن ذاته وأسمائه وصفاته ولا يفرقون بين الذات والصفات كما فعلت الجهمية والمعتزلة، كما أنهم لا يفرقون بينها، فيثبتون البعض، وينكرون الآخر كما فعلت الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
(1)
القاسم بن سلام بن عبد الله أبو عبيد الإمام الحافظ، اشتغل بالحديث والأدب والفقه، وكان ذا دين وسيرة جميلة ومذهب حسن. له تصانيف كثيرة منها غريب الحديث والأمئال والأموال، توفي سنة 224 هـ.
طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/ 259) وسير أعلام النبلاء (10/ 490) والنجوم الزاهرة (2/ 241) وبغية الوعاة (2/ 253).
(2)
فضل علم السلف على علم الخلف (ص 139، 140).
وكلامهم في الإثبات يرتكز على أمرين:
1 -
القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات.
فإن قيل: كيف استوى على عرشه؟
يقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، كما أجاب ربيعة ومالك وغيرهم رحمهم الله تعالى وإن قيل: كيف ينزل ربنا؟
يقال: كيف هو في ذاته؟
فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته.
وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه، ونزوله، واستواءه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابههه فيها سمع المخلوقين، وبصرهم، وكلامهم، واستواؤهم ونزولهم.
وهذا كلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئًا، ونفى شيئًا بالعقل، ألزم إذًا فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته.
ولو طولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقًا.
2 -
القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فإن من أثبت بعض الصفات كالحياة والقدرة، والإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينكر المحبة والرضا والغضب ويجعل ذلك مجازًا.
يقال له: ما الفرق بين ما أثبته وما نفيته؟
بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
فإن قال: إن إرادة الله مثل إرادة الخلق قيل: فكذلك رضاؤه ومحبته وهذا هو التمثيل.
وان قال: إن له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل له: فكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تناسب حاله وكذلك سائر الصفات كالرضا والغضب.
فإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، يقال له والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قال: هذه إرادة المخلوق، قيل: هذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم القول في بقية الصفات، فيجب أن يؤخذ الكل، أو يقال في الكل بما يقال في البعض
(1)
.
وقد جمع بين هذين الأصلين الإمام أحمد رحمه الله تعالى في قوله: إنما التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو إثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار، وليس إلا هذا المسلك، أو مسلك التعطيل المحض، أو التناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي، ولا في الإثبات
(2)
.
(1)
الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام مع تصرف يسير (ص 15 - 21).
(2)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 117).
الثاني: التنزيه:
أما التنزيه فإن السلف يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فمن شبه الله بخلقه، وألحد في أسمائه وصفاته، وجحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهًا أو تمثيلًا كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
كما أنهم ينفون عنه سبحانه -كل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم اعتقادًا بأن المراد من النفي هو إثبات كمال ضده، وليس النفي المحض، لأن النفي المحض لا يقصد به المدح إلا إذا تضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي، فكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا، فإن الله منزه عنه حقيقة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) "
(2)
.
وقال شيخ الإسلام ابن خزيمة
(3)
رحمه الله تعالى عند كلامه على صفة الوجه لله عز وجل: فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة،
(1)
سورة الشورى آية (11).
(2)
طبقات الحنابلة (1/ 283) حيث ساقه المؤلف بإسناده إلى الشافعي وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 407).
(3)
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة السلمي النيسابوري الإمام الحافظ الحجة، كان سلفي العقيدة على طريقة أهل الحديث. له مصنفات مفيدة منها: كتاب التوحيد، كتاب صحيح ابن خزيمة، توفي سنة 311 هـ.
الجرح والتعديل (7/ 196) وسير أعلام النبلاء (14/ 365) وشذرات الذهب (2/
واليمن، والعراق والشام ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين وجل ربنا عن مقالة المعطلين وعز أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون، لأن ما لا صفة له عدم تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وعمدة السلف رحمهم الله تعالى في هذه القاعدة قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
(2)
.
وقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(3)
.
وقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}
(4)
.
وغيرها من الآيات التي أخبر الله فيها بأنه منزه عن الكفء والمثل والند والشبيه، لأنه تبارك وتعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه منزه عن صفات النقص مطلقًا، ومنزه عن أن يماثله عيره في صفات كماله.
الثالث: قطع الأطماع عن إدراك الكيفية والكنه:
لأن إدراك الكيفية مستحيل وليس في إمكان البشر الإحاطة بذاته سبحانه وتعالى لقوله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)}
(5)
.
فمعرفة الكيفية لا سبيل بالوقوف عليه، فلابد من اليأس من
(1)
التوحيد لابن خزيمة (1/ 26).
(2)
سورة مريم آية (65).
(3)
سورة الشورى آية (11).
(4)
سورة النحل آية (74).
(5)
سورة طه آية (110).
إدراكها لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنهم لا يحيطون به علمًا، لأن هذا أمر غيبي والأمور الغيبية لا تدرك كيفياتها بالعقل.
والواجب الذي كلفنا به وأمرنا باعتقاده هو الالتزام بما جاءت به الأدلة الشرعية، ونهينا عن تجاوز ذلك والخوض فيما لا علم لنا به، ولا يمكننا إدراكه والوقوف على حقيقته وكيفيته، وهذا أصل معروف عند السلف رحمهم الله تعالى، فإنهم يقرون بكل ما جاء في كتاب الله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا مثيل.
قال ابن قتيبة
(1)
رحمه الله تعالى: وعدل القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن بالرؤية والتجلي، وأنه يعجب وينزل من السماء، وأنه على العرش استوى، وبالنفس واليدين من غير أن نقول بكيفية أو بحد، أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت
(2)
.
وقال ابن قدامة المقدسي
(3)
رحمه الله تعالى:
…
وعلى هذا درج
(1)
أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ولد في بغداد سنة 213 هـ، كان على مذهب السلف رحمهم الله تعالى، له مؤلفات مفيدة منها: مشكل الحديث، ومنها الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، قال الخطيب: كان ثقة دينًا فاضلًا. وقال الذهبي: كان رأسًا في علم اللسان العربي، والأخبار وأيام الناس، مات سنة 276 هـ.
تاريخ بغداد (10/ 170) وسير أعلام النبلاء (12/ 296) وبغية الوعاة (2/ 63).
(2)
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص 243).
(3)
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ولد سنة 541 هـ كان عالم الشام في زمانه قال ابن النجار: كان إمام الحنابلة بجامع دمشق وكان ثقة حجة نبيلًا، غزير الفضل، نزهًا، ورعًا عابدًا، على قانون السلف، عليه النور والوقار. من مؤلفاته في العقيدة: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، وذم التأويل، مات سنة 620 هـ بدمشق.
التكملة في وفيات النقلة للمنذري (3/ 107) وسير أعلام النبلاء (22/ 165) وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 133) وشذرات الذهب (5/ 88).
السلف وأئمة الخلف، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لتأويله
(1)
.
وقال الخطيب البغدادي
(2)
رحمه الله تعالى: أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن والصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. . . ونقول إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
(3)
وقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
(4)
(5)
فلا طريق للعلم بذاته وصفاته وأسمائه عز وجل إلا بالخبر عنه سبحانه لما بلغنا ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك فإننا لا نعلم عن ذاته وأسمائه وصفاته إلا ما جاء به الخبر، فعلينا أن نقف عند الحد الذي جاء به الخبر من غير سؤال عن كيفية ذلك، ولا بحث عن كنهها لأنه ليس بوسعنا ولا من حقنا أن نتكلم فيما لا نعلم، ولذلك أثر عن كثير من السلف أنهم قالوا عندما سئلوا عن كيفية استواء الله
(1)
لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (ص 10).
(2)
أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي الحافظ المحدث المؤرخ، ولد سنة 392 هـ، قال الذهبي: أحد الأئمة الأعلام وصاحب التواليف المنتشرة في الإسلام. له مصنفات كثيرة من أشهرها: تاريخ بغداد، مات سنة 463 هـ.
العبر للذهبي (2/ 314) ووفيات الأعيان (1/ 92) وشذرات الذهب (3/ 311).
(3)
سورة الشورى آية (11).
(4)
سورة الإخلاص آية (4).
(5)
ذم التأويل لابن قدامة (ص 15) وذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/ 1142).
عز وجل: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة
(1)
.
فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا وأن السؤال عنه بدعة.
ولذلك كان اعتقاد السلف في هذا الباب إثباتا بريئًا من التمثيل وتنزيهًا خاليًا من التعطيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}
(2)
.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
تقدم (ص 197).
(2)
سورة الشورى آية (11).