الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس حكم مرتكب الكبيرة
دلّت نصوص الكتاب والسنّة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهو ما أجمع عليه السلف رحمهم الله تعالى.
فمن الأدلّة التي وردت في الكتاب قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}
(1)
.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}
(2)
.
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: "لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعدّ على اجتنابها التخفيف من الصغائر، دلّ هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللمسة والنظرة باجتناب الكبائر تكفر قطعًا بوعده الصدق، وقوله الحق لا أنه يجب عليه ذلك"
(4)
.
(1)
سورة النجم، آية (32).
(2)
سورة الشورى، آية (37).
(3)
سورة النساء، آية (31).
(4)
تفسير القرطبي (5/ 158).
ومن الأدلَّة في السنّة حديث أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متّكئًا فقال: ألا وقول الزور، قال: فما زال يكرّرها حتى قلنا ليته سكت"
(1)
.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، فقال:"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو قال: شهادة الزور"
(1)
.
وحديث عمير بن قتادة رضي الله عنه: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ فقال: "هن تسع: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلَّا بالحق، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا"
(2)
.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر"
(3)
.
والأحاديث التي ورد فيها لفظ الكبائر كثيرة جدًا.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأدب - باب عقوق الوالدين من الكبائر (7/ 71)، ومسلم: كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (1/ 91).
(2)
أخرجه أبو داود: كتاب الوصايا - باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم (3/ 295)، والحاكم (4/ 259) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 408)، وقال الذهبي في الكبائر (168): سنده صحيح.
(3)
أخرجه مسلم: كتاب الطهارة - باب الصلوات الخمس (1/ 209).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنّة واستعمال سلف الأمّة وخلفها"
(1)
.
وأرى من المناسب قبل الكلام عن حكم صاحب الكبيرة أن أذكر تعريفًا مختصرًا للكبيرة.
1 -
معنى الكبيرة لغة:
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: الكِبْر، الإثم الكبير، وما وعد الله عليه النار، والكِبَرَة كالكبر: التأنيث للمبالغة، وفي التنزيل العزيز:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ .... }
(2)
، وفي الأحاديث ذكر الكبائر في غير موضع واحدتها كبيرة: وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا لتعظيم أمرها
(3)
.
2 -
تعريف الكبيرة شرعًا:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تعريف الكبيرة على أقوال
(4)
كثيرة تزيد على عشرين قولًا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "
…
وأمّا
(1)
شرح مسلم للنووي (2/ 85).
(2)
سورة الشورى، آية (37).
(3)
لسان العرب (6/ 443).
(4)
انظر الأقوال في تعريف الكبير في شرح مسلم للنووي (2/ 85 - 87)، ومجموع الفتاوى (1/ 657)، ومدارج السالكين (1/ 321 - 327)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 417 - 418)، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي (1/ 5 - 10)، وفتح الباري لابن حجر (10/ 410 - 412)، والدر المنثور للسيوطي (2/ 498 - 500).
الكبائر فاختلف السلف فيها اختلافًا لا يرجع إلى تباين وتضاد، وأقوالهم متقاربة
(1)
.
فقيل: هي كل ما وعد الله عليه بالنار.
وقيل: هي كل ما نهى الله عنه.
وقيل: هي ما اتّفقت الشرائع على تحريمه.
إلى غير ذلك من الأقوال التي قيلت في تعريف الكبيرة، وأولى الأقوال وأحسنها وأرجحها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}
(2)
، قال:"الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب"
(3)
.
وهذا القول هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث ذكر أن هذا التعريف هو أحسن التعاريف وأمثلها للوجوه التالية:
منها: أنه المأثور عن السلف بخلاف تلك الضوابط.
ومنها: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب.
ومنها: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأمَّا تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر
(4)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 320).
(2)
سورة النساء، آية (31).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 41).
(4)
انظر مجموع الفتاوى (11/ 654، 655).
كما اختاره ابن حجر رحمه الله تعالى، حيث قال بعد ذكره لبعض الأقوال في تعريف الكبيرة، قال: ومن أحسن التعاريف قول القرطبي
(1)
في المفهم: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنّة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدّة عقاب أو علّق عليه حدّ أو شدّد النكير عليه فهو كبيرة، وعلى هذا فينبغي تتبّع ما ورد فيه الوعيد أو اللّعن أو الفسق من القرآن والأحاديث الصحيحة والحسنة، ويضمّ إلى ما ورد فيه التنصيص في القرآن والأحاديث الصحاح والحسان على أنه كبيرة، فمهما بلغ مجموع ذلك عرف منه تحرير عدّها"
(2)
.
أمَّا حكم مرتكب الكبيرة، فإن عقيدة أهل السنّة والجماعة في ذلك أن من ارتكب كبيرة دون الشرك ولم يستحلّها فإنه لا يكفر بل يسمّى مؤمنًا ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وإذا مات مصرًّا عليها ولم يتب منها فإن أمره إلى الله تعالى إن شاء غفر له ذنبه وأدخله الجنّة ابتداءًا تفضّلًا منه سبحانه، وإن شاء عذّبه بقدر ذنبه عدلًا منه سبحانه، ثم يخرجه من النار ويدخله الجنَّة، لأنه لا يخلد في النار إلَّا المشرك.
قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى مقرَّرًا عقيدة السلف في هذه المسألة: "ويعتقد أهل السنّة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبًا كثيرة صغائر
(1)
أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس الأنصاري القرطبي، فقيه مالكي، من رجال الحديث، قال ابن كثير:"سمع الكثير واختصر الصحيحين، وشرح صحيح مسلم المسمَّى بالمفهم، وفيه أشياء حسنة مفيدة محرّرة رحمه الله تعالى". توفي سنة 656 هـ.
البداية والنهاية (13/ 202)، وحسن المحاضرة (1/ 760)، وشذرات الذهب (5/ 273).
(2)
فتح الباري لابن حجر (12/ 184).
وكبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنّة يوم القيامة سالمًا غانمًا، غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذّبه مدّة بعذاب النار، وإذا عذّبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار"
(1)
.
وقد خالفت في ذلك فرق المعتزلة والخوارج والمرجئة ومن نحا نحوهم وخالفوا نصوص الكتاب والسنّة، حيث أن الخوارج كفّروا مرتكب الكبيرة وأخرجوه من الإيمان وحكموا عليه في الخلود في نار جهنّم، وقد وافقتهم المعتزلة على الخلود في نار جهنم في الآخرة. أما في الدنيا، فقالوا: إنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر وإنما هو في منزلة بين المنزلتين. وأمّا المرجئة فقد فتحوا باب شر عظيم وهونوا أمر المعاصي، حيث قالوا: إنه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع من الكفر طاعة"، وعلى هذا فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان ولا يدخل نار جهنم، وهذا مبنيّ على إخراجهم العمل من مسمّى الإيمان
(2)
.
والحقّ ما قاله أهل السنّة والجماعة وأجمعوا عليه، وقد حكى اتفاق أهل السنّة والجماعة على ذلك الإمام البغوي رحمه الله تعالى، فقال: "اتّفق أهل السنّة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئًا منها فمات قبل التوبة لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله إن شاء عفا عنه
(1)
عقيدة أصحاب الحديث للإمام الصابوني ضمن الرسائل الكمالية (ص 103، 104).
(2)
انظر كتاب الإيمان لأبي عبيد (ص 99 - 102)، والتمهيد لابن عبد البر (4/ 242 - 243)، والإيمان لابن تيمية (ص 202)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 417).
وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنّة برحمته"
(1)
.
وقد تناول ابن رجب رحمه الله تعالى هذه المسألة في عدّة مواضع من مؤلّفاته، فقال رحمه الله تعالى: "من أسباب المغفرة التوحيد وهو السبب الأعظم، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}
(2)
.
فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب ملؤها خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنّة، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلَّها، ومنعه من دخول النار بالكلية"
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "أوَّل اختلاف وقع في هذه الأمَّة هو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحّدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفّار واستحلّوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم: المنزلة بين المنزلتين، ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، وقد صنَّف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعدّدة"
(4)
.
(1)
شرح السنة للبغوي (1/ 103).
(2)
سورة النساء، آية (48).
(3)
جامع العلوم والحكم (3/ 247).
(4)
المصدر السابق (1/ 72).
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر: هل يسمّى مؤمنا ناقص الإيمان أم لا يسمّى مؤمنًا، وإنما يقال هو مسلم، فليس بمؤمن؟ على قولين: وهما روايتان عن أحمد رحمه الله، فأمَّا من ارتكب الصغائر فلا يزول عنه إسم الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص الإيمان، ينقص إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك، والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له: مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبد الله، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم.
والقول بأنه مسلم ليس بمؤمن مرويّ عن أبي جعفر محمد بن علي
(1)
، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنّة"
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وقوله صلى الله عليه وسلم: ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له"
(3)
، صريح في أن الكبائر من لقي الله بها كانت تحت مشيئته، وهذا يدلّ على أن إقامة الفرائض لا تكفّرها ولا تمحوها، فإن عموم المسلمين يحافظون على الفرائض، لاسيّما من بايعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب منها بالنصوص الدالّة من الكتاب والسنّة على أن من تاب إلى الله تاب الله عليه وغفر له، فبقي من لم يتب داخلًا تحت المشيئة
(4)
.
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 289).
(2)
أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، كان إمامًا مجتهدًا تاليًا لكتاب الله، كبير الشأن، عدّه النسائي وغيره من فقهاء التابعين، واتّفق الحفاظ على الاحتجاج به، توفي سنة 114 هـ.
طبقات ابن سعد (5/ 320)، تذكرة الحفاظ (1/ 124)، والبداية والنهاية (9/ 327)، وتهذيب التهذيب (9/ 350).
(3)
تقدم تخريجه (ص 320).
(4)
جامع العلوم والحكم (2/ 46).
وقد استدلّ السلف رحمهم الله تعالى على عدم تكفير مرتكب الكبيرة بأدلّة كثيرة من الكتاب والسنّة.
أمّا من الكتاب، فقد استدلّوا بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ .... }
(1)
.
فهذه الآية نفت أن يغفر الله للمشرك، فدلّ ذلك على أن من مات مصرًّا على كبيرة دون الشرك فهو إلى الله تعالى إن شاء غفر له، وإن شاء عذّبه بقدر ذنبه. أمّا من مات وهو مشرك، فإن الله لا يغفر له بنصّ الآية.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركًا بالله"
(2)
.
وبقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
…
} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
…
}
(3)
.
قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرًا بالقتل، لأن الله تعالى خاطبه بعد القتل بخطاب الإيمان، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}، وفي آخر الآية قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، وأراد به أخوّة الإيمان، فلم يقطع الأخوّة بينهما بالقتل"
(4)
.
وبقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
…
}
(5)
.
(1)
سورة النساء، آية (48).
(2)
تفسير ابن جرير الطبري (5/ 126).
(3)
سورة البقرة، آية (178).
(4)
تفسير البغوي (1/ 146).
(5)
سورة الحجرات، آية (9).
ذكر هذه الآية الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الإيمان
(1)
، مستدلًا بها على أن المؤمن لا يكفر إذا ارتكب معصية دون الشرك.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "استدلّ المؤلف على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن، فقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}
(2)
، ثم قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
…
}
(3)
…
"
(4)
.
إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن أن أهل المعاصي التي دون الشرك من أهل الإيمان.
وأمَّا الأدلة من السنة، فمنها حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: "ما من عبد قال لا إله إلَّا الله ثم مات على ذلك إلَّا دخل الجنَّة"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر"، قال: فخرج أبو ذرّ وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذرّ"
(5)
.
ومنها حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا
(1)
كتاب الإيمان (1/ 13).
(2)
سورة الحجرات، آية (9).
(3)
سورة الحجرات، آية (10).
(4)
فتح الباري لابن حجر (1/ 85).
(5)
تقدم تخريجه (ص 319).
ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه"، فبايعناه
(1)
.
قال النووي رحمه الله تعالى بعد ذكره لحديث أبي ذرّ وحديث عبادة بن الصامت السابقين: "فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
(2)
، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرّين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنَّة أو لا، وإن شاء عذّبهم ثم أدخلهم الجنّة"
(3)
.
فهذه الأدلّة من الكتاب والسنّة وغيرها مما هو بمعناها تدلّ دلالة واضحة على ما ذهب إليه أهل السنّة والجماعة من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرًّا عليها ليس بكافر، ولكنه معرّض نفسه لعقاب الله، وإن عوقب فإنه لا يخلد في النار بل يخرج منها، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل البدع والأهواء، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
تقدم تخريجه (ص 320).
(2)
سورة النساء، آية (48).
(3)
شرح مسلم للنووي (2/ 41، 42).