المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه - ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف

[عبد الله بن سليمان الغفيلي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌تقريظ فضيلة الشيخ: حماد بن محمد الأنصاري

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول حياة ابن رجب وآثاره العلمية

- ‌الفصل الأول العصر الذي عاش فيه ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الناحية السياسية

- ‌المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

- ‌المبحث الثالث الحالة العلمية

- ‌الفصل الثاني حياة ابن رجب الشخصية

- ‌المبحث الأول اسمه ونسبه

- ‌المبحث الثاني كنيته ولقبه

- ‌المبحث الثالث مولده

- ‌المبحث الرابع شهرته

- ‌المبحث الخامس أسرته

- ‌المبحث السادس أخلاقه وصفاته

- ‌المبحث السابع ابن رجب والتصوف

- ‌المبحث الثامن وفاته

- ‌الفصل الثالث حياته العلمية

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم

- ‌المبحث الثاني رحلاته في طلب العلم

- ‌المبحث الثالث شيوخه

- ‌ ترجمة لأشهر شيوخ ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌1 - ابن القيم:

- ‌2 - ابن الخباز:

- ‌3 - أبو سعيد العلائي:

- ‌المبحث الرابع تدريسه

- ‌المبحث الخامس تلاميذه

- ‌ تراجم لثلاثة من المشاهير منهم

- ‌1 - ابن الرسام:

- ‌2).2 -ابن اللحام:

- ‌3 - ابن سعيد الحنبلي:

- ‌المبحث السادس ثقافته ومؤلفاته

- ‌المبحث السابع عقيدته ومذهبه

- ‌1 - عقيدته:

- ‌2 - مذهبه:

- ‌المبحث الثامن مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌الباب الثاني أثر ابن رجب في توضيح عقيدة السلف في التوحيد وأنواعه ونواقضه

- ‌الفصل الأول تعريف التوحيد وبيان أنواعه والعلاقة بينها

- ‌المبحث الأول تعريف التوحيد لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف التوحيد شرعًا

- ‌المبحث الثالث أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع العلاقة بين أنواع التوحيد

- ‌الفصل الثاني توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الربوبية لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف توحيد الربوبية شرعًا

- ‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثالث توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني مذهب السلف في أسماء الله وصفاته وموقف ابن رجب منه

- ‌المبحث الثالث أدلة توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع بيانه أن السلف أعلم وأن مذهبهم أسلم وأحكم

- ‌المبحث الخامس بيانه أن سورة الإخلاص فيها صفة الرحمن

- ‌المبحث السادس بيانه أن الاشتراك في الاسم لا يقتضي الاشتراك في المسمى

- ‌المبحث السابع ذكر جملة من الصفات التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌المبحث الثامن شبهة والرد عليها

- ‌المبحث التاسع رده على المخالفين لمذهب السلف من المعطلة والمشبهة

- ‌المبحث العاشر تنزيه الله سبحانه وتعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث الحادي عشر علم الكلام وكلام ابن رجب عليه

- ‌الفصل الرابع توحيد الألوهية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني بيان معنى لا إله إلا الله وفضلها وشروطها

- ‌المطلب الأول بيان معنى كلمة إله

- ‌المطلب الثاني معنى لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثالث فضل لا إله إلا الله

- ‌المطلب الرابع الجمع بين أحاديث تدل على أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وأخرى تدل على أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله

- ‌المطلب الخامس شروط الانتفاع بـ (لا إله إلا الله)

- ‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

- ‌المبحث الرابع بيانه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين

- ‌الفصل الخامس نواقض التوحيد

- ‌المبحث الأول الشرك وكلام ابن رجب عليه

- ‌المطلب الأول تعريف الشرك لغة

- ‌المطلب الثاني الشرك في الشرع وبيان أقسامه

- ‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

- ‌المبحث الثالث البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الأول معنى البدعة في اللغة والشرع

- ‌المطلب الثاني أنواع البدع

- ‌المطلب الثالث الرد على محسني البدع وكلام ابن رجب في ذلك

- ‌المطلب الرابع نماذج من البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الخامس حكم البدع وأهلها

- ‌المبحث الرابع الغلو وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليه

- ‌المبحث الخامس مسائل متفرقة متعلقة بهذا الفصل

- ‌1 - التنجيم

- ‌2 - التطيّر والتشاؤم

- ‌3 - الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" وقوله: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله: "لا يورد ممرض على مصح

- ‌4 - معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث

- ‌5 - النهي عن البناء على القبور واتخاذها مساجد

- ‌6 - النهي عن سبّ الدهر

- ‌الباب الثالث أثره في توضيح عقيدة السلف في مباحث الإيمان وما يتعلق بها من مسائل

- ‌الفصل الأول معنى الإيمان وبيان أهميّته وما يتعلق به من مسائل

- ‌المبحث الأول تعريف الإيمان لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف الإيمان شرعًا

- ‌المبحث الثالث أهمية الإيمان

- ‌المبحث الرابع زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الخامس العلاقة بين مسمّى الإيمان والإسلام

- ‌المبحث السادس حكم مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث السابع مسألة تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة

- ‌الفصل الثاني الإيمان بالملائكة والكتب والرسل

- ‌المبحث الأول الإيمان بالملائكة والكتب

- ‌المطلب الأول الإيمان بالملائكة

- ‌المطلب الثاني الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الثاني تعريف النبيّ والرسول لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثالث معنى الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الرابع الغرض من بعثة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الخامس التفاضل بين الأنبياء

- ‌المبحث السادس بعض خصائص الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث السابع الإيمان بنبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن كلامه في دعوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث التاسع بيانه فضل إرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر النجاة والسعادة في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه

- ‌الفصل الثالث الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الأول تعريف القضاء والقدر

- ‌المبحث الثاني معنى الإيمان بالقضاء والقدر والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الثالث مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الرابع النهي عن الخوض في القدر

- ‌المبحث الخامس الرضا بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السادس حكم تمنّي الموت وعلاقته بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السابع القضاء والقدر وفعل الأسباب

- ‌المبحث الثامن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وبيان معنى حديث "فحج آدم موسى

- ‌الفصل الرابع الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الثاني الإيمان بأشراط الساعة

- ‌المبحث الثالث الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته

- ‌المبحث الرابع الأعمال التي يعذب أو ينعم بها العبد في القبر

- ‌المبحث الخامس مستقر الأرواح

- ‌المبحث السادس الصراط

- ‌المبحث السابع بيان المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

- ‌المبحث الثامن الشفاعة

- ‌المبحث التاسع الجنة ونعيمها

- ‌المبحث العاشر رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة

- ‌المبحث الحادي عشر النار وعذابها

- ‌المبحث الثاني عشر خلق الجنة والنار

- ‌المبحث الثالث عشر الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

1 -

تعريف النفاق:

النفاق مشتق من نافقاء اليربوع، لأن اليربوع له جحران: أحدهما يقال له النَافِقاء، والثاني القَاصِعاء.

فالنافقاء موضع يرققه بحيث إذا ضرب رأسه عليه ينشق، وهو يكتمه ويظهر غيره فإذا جاءه من قبل القاصعاء الظاهرة ضرب النافقاء برأسه ثم خرج، فهو يظهر القاصعاء ويخفي النافقاء

(1)

.

وقيل النفاق مأخوذ من النفق وهو السرب في الأرض.

يقول الجوهري: النَّفَق: سرب في الأرض له مَخْلَص إلى مكان، والنَافِقاء: إحدى جُحَرة اليربوع، يكتمها ويظهر غيرها، وهو موضع يرققه، فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي خرج، والنُفقَة أيضًا مثال الهُمزَة: النافقاء. تقول منه نفق اليربوع تَنْفيقًا نافق أي أخذ في نافقائه، ومنه اشتقاق المنافق في الدين

(2)

.

وقال ابن الأثير: قد تكرر في الحديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسمًا وفعلًا، وهو اسم إسلامي، لم تعرفه العرب بالمعنى

(1)

انظر: لسان العرب (10/ 359).

(2)

الصحاح (4/ 1560).

ص: 405

المخصوص به وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا، يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقًا، وهو مأخوذ من النَافِقاء: أحد جُحَرة اليربوع، إذا طلب من واحد هرب إلى الآخر، وخرج منه. وقيل: هو من النفق: وهو السرب الذي يستتر فيه، لستره كفره

(1)

.

وقال الراغب الأصفهاني: النفق: الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ}

(2)

ومنه نافقاء اليربوع، وقد نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق وهو الدخول في الشرع من باب، والخروج عنه من باب، وعلى ذلك نبه بقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

(3)

أي الخارجون من الشرع، وجعل الله المنافقين شرًا من الكافرين فقال:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}

(4)

(5)

.

فكلمة النفاق تدل على إظهار الإنسان خلاف ما يبطن في شتى الأمور وهو بذلك يتضمن الدخول في الإسلام ظاهرًا وهو لا يؤمن به باطنًا كما يتضمن غير ذلك مما يكون فيه الظاهر مخالفًا للباطن ولذلك يقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى: "سمي المنافق منافقًا لأنه يستر كفره، ويغيبه، فشُبِه بالذي يدخل النفق، وهو السرب فيستتر به

"

(6)

.

(1)

النهاية في غريب الحديث (5/ 98).

(2)

سورة الأنعام آية (35).

(3)

سورة التوبة آية (67).

(4)

سورة النساء آية (145).

(5)

المفردات في غريب القرآن (ص 502).

(6)

شرح السنة (1/ 71، 72).

ص: 406

والخلاصة أن النفاق في اللغة هو إظهار شيء وإبطان خلافه وفي الشرع: هو إبطان الكفر وإظهار الإيمان.

وقد تكلم ابن رجب رحمه الله تعالى عن النفاق وبيّن أقسامه فقال رحمه الله تعالى في تعريفه وبيان أقسامه: النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: النفاق الأكبر: وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.

والثاني: النفاق الأصغر: وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك، وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في الأحاديث وهي خمس:

أحدها: أن يحدث بحديث لم يصدق به، وهو كاذب له.

والثاني: إذا واعد أخلف، وهو على نوعين:

أحدهما: أن يعد، ومن نيته أن لا يوفي بوعده، وهذا شر الخلق، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل، كان كاذبًا وخلفًا.

الثاني: أن يعد، ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف.

والثالث: إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلًا، والباطل حقًا، وهذا مما يدعو إليه الكذب كما

ص: 407

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار"

(1)

.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"

(4)

.

فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة -سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا- على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، وأخبث خصال النفاق، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (7/ 95) ومسلم: كتاب البر والصلة، باب قبح الكذب، وحسن الصدق وفضله (4/ 2012).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (3/ 101) ومسلم: كتاب العلم، باب في الألد الخصم (4/ 2054).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (8/ 112) ومسلم؛ كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3/ 1337).

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب إن من البيان لسحرًا (7/ 30).

(5)

أخرجه أحمد وقال أحمد شاكر: إسناد صحيح. المسند تحقيق أحمد شاكر (7/ 205) وأبو داود: كتاب الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها (4/ 23) والحاكم (2/ 27) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 198) رواه أبو داود والطبراني بإسناد جيد.

ص: 408

الرابع: إذا عاهد غدر، ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد فقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}

(1)

.

وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}

(2)

.

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}

(3)

.

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به"

(4)

. والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره ولو كان المعاهد كافرًا، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفسًا معاهدة بغير حقها، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" خرّجه البخاري

(5)

.

وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين، إذا أقاموا على عهودهم، ولم ينقضوا منها شيئًا.

وأما عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثمًا، ويحرم الغدر في جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها، من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب

(1)

سورة الإسراء آية (34).

(2)

سورة النحل آية (91).

(3)

سورة آل عمران آية (77).

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الحيل، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت (8/ 62) ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (3/ 1361).

(5)

صحيح البخاري: كتاب الديات، باب من قتل ذميًا بغير جرم (8/ 47).

ص: 409

الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل، مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر التبرر ونحوه.

الخامس: الخيانة في الأمانة، فإذا أؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن يردها كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(1)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك"

(2)

.

قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}

(3)

.

فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.

وخاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن

والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، وكما يخشى على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشى على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقًا خالصًا

ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملًا، ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيء فيتم له

(1)

سورة النساء آية (58).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 414) وأبو داود: كتاب البيوع والإجارات، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3/ 805) والترمذي: كتاب البيوع (3/ 564) وقال: هذا حديث حسن غريب. والدارمي: كتاب البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (2/ 178) والحاكم (2/ 46) وقال: حديث صحيح ووافقه الذهبي.

(3)

سورة الأنفال آية (27).

ص: 410

ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وحمد الناس له على ما أظهره، ويتوصل به إلى غرضه السيء الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكى عن المنافقين أنهم {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}

(1)

.

وأنزل في اليهود {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}

(2)

.

وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، وما سئلوا عنه قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرج في الصحيحين

(3)

.

وفيهما أيضًا عن أبي سعيد: أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلافه، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو، اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا

(4)

.

وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشنا فليس منا،

(1)

سورة التوبة آية (107).

(2)

سورة آل عمران آية (188).

(3)

صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} (5/ 174) صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/ 1343).

(4)

أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} (5/ 174) ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/ 2142).

ص: 411

والمكر والخديعة في النار"

(1)

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وقد ورد في القرآن تشبيه المنافقين بالخشب المسندة في نظرهم فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}

(3)

فوصفهم بحسن الأجسام وتمامها، وحسن المقام والفصاحة حتى أنهم يعجب منظرهم لمن يراهم، ويسمع قولهم من سمعه سماع إصغاء وإعجاب به، ومع هذا فبواطنهم خراب ومعائبهم مهلكة فلهذا مثلهم بالخشب المسندة التي لا دفع لها ولا إحساس وقلوبهم مع هذا ضعيفة في غاية الضعف {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}

(4)

لأنهم لما أضمروا خلاف ما أظهروا خافوا من الاطلاع عليهم، فكلما سمعوا صيحة ظنوا أنها عليهم وهكذا كل مريب يظهر خلاف ما يضمر يخاف من أدنى شيء ويتحسر عليه

(5)

.

فالنفاق داء عضال، ومرض خطير، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة يخافون منه خوفًا شديدًا لعلمهم بدقة وجله، وما يترتب عليه من الآثار السيئة وقد أشار ابن رجب

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 169) وفي الصغير (1/ 261) وابن حبان في صحيحه (1/ 473) والقضاعي في مسنده (1/ 175) وأبو نعيم في الحلية (4/ 189) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 572) رواه الطبراني في الكبير والصغير بإسناد جيد، وابن حبان في صحيحه. وقال الحافظ في الفتح (4/ 356) وأخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن مسعود، والحاكم في المستدرك من حديث أنس، وإسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناد كل منهما مقال: لكن مجموعها يدل على أن للمتن أصلًا.

(2)

جامع العلوم والحكم (3/ 330 - 342).

(3)

سورة المنافقون آية (4).

(4)

سورة المنافقون آية (4).

(5)

غاية النفع (ص 24).

ص: 412

رحمه الله تعالى إلى ذلك وبين أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يخافون من النفاق أشد الخوف.

فقال: "ومن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد جزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، لأن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا، فقال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها كيف شاء"

(1)

. خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقًا كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي أنه مر به أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي فقال: مالك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، فإذا رجعنا عافسنا

(3)

الأزواج والصبية فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله أنا لكذلك،

(1)

أخرجه أحمد (3/ 112) والترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/ 448) وقال: هذا حديث حسن.

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 139).

(3)

عافسنا: المعافسة هي الملاعبة والممارسة، والمعنى اشتغلنا بمعايشنا وأزواجنا وأولادنا.

النهاية لابن الأثير (3/ 263).

ص: 413

فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو تدومون على الحال التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"

(1)

(2)

وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى أثارًا كثيرة عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم تدل على خوفهم من النفاق فقال: "ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه"

(3)

.

وسئل أبو رجاء العطاردي

(4)

: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ فقال: نعم، إني أدركت منهم بحمد الله صدرًا حسنًا، نعم شديدًا، نعم شديدًا"

(5)

.

وقال البخاري في صحيحه: وقال ابن أبي مليكة

(6)

: "أدركت

(1)

أخرجه مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة (4/ 2107).

(2)

جامع العلوم والحكم (3/ 343).

(3)

أخرجه وكيع في الزهد (3/ 791) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (1/ 27/ ب).

(4)

هو الإمام الكبير عمران بن ملحان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خيرًا تلاءً لكتاب الله، وكان ثقة نبيلًا عالمًا عاملًا، توفي سنة 105 هـ.

أسد الغابة (4/ 136) وسير أعلام النبلاء (4/ 253) وتهذيب التهذيب (8/ 140).

(5)

أخرجه الفريابي في صفة المنافق (ص 71) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 634) وأبو نعيم في الحلية (2/ 307).

(6)

هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله القرشي التيمي أبو محمد الإمام الحافظ الحجة، كان عالمًا مفتيًا صاحب حديث وإتقان، وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهما، توفي سنة 117 هـ رحمه الله تعالى.

الجرح والتعديل (5/ 99) وسير أعلام النبلاء (5/ 88) وتهذيب التهذيب (5/ 306).

ص: 414

ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه

(1)

.

ويذكر عن الحسن أنه قال: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق"

(2)

.

وروي عن الحسن: "أنه حلف ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق غير آمن، وما مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن"

(3)

.

وكان يقول: "من لم يخف النفاق فهو منافق"

(4)

.

وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته، فلما سلم قال له: ما شأنك وشأن النفاق؟ فقال: "اللهم اغفر لي ثلاثًا، لا تأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه"

(5)

.

والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدًا

(6)

.

وهذا كله يدل على عظم النفاق، وشدة خطره، فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والذين رباهم

(1)

صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله (1/ 17) وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 634) وأبو نعيم في الحلية (2/ 307).

(2)

ذكره البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله (1/ 17).

(3)

أخرجه الفريابي في صفة المنافق (73) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 634).

(4)

أخرجه الفريابي فى صفة المنافق (73).

(5)

أخرجه الفريابي في صفة المنافق (69) والذهبي في السير (6/ 382) وقال: إسناده صحيح.

(6)

جامع العلوم والحكم (3/ 339، 340).

ص: 415

الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون من النفاق، فما الحال في زمننا هذا الذي قل فيه الإخلاص، والإيمان بالله عز وجل، مما لا شك فيه أن خلقًا كثيرًا قد وقعوا في النفاق سواءًا شعروا بذلك أم لم يشعروا، نسأل الله السلامة منه ومن كل ما يحبط الأعمال ويفسدها، ونسأله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب.

ص: 416