الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني عشر خلق الجنة والنار
الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن فالجنة معدة للمتقين والنار معدة للكافرين كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه أهل السنة والجماعة:
فمن الأدلة في القرآن على خلقهما ووجودهما:
قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
(1)
.
وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}
(2)
.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}
(3)
.
وقال تعالى عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
(4)
.
وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)}
(5)
.
(1)
سورة آل عمران آية (133).
(2)
سورة الحديد آية (21).
(3)
سورة النجم آية (13 - 15).
(4)
سورة البقرة آية (24) وسورة آل عمران آية (131).
(5)
سورة الفرقان آية (11).
وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)}
(1)
.
وقال تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
(2)
.
ومن الأدلة التي وردت في السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فقال: اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال: ولما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها
(3)
.
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا وبكيتم كثيرًا" قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنة والنار"
(4)
.
(1)
سورة النبأ آية (21، 22).
(2)
سورة الفتح آية (6).
(3)
أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار (4744) والترمذي: كتاب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي: كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله تعالى (7/ 3) والحاكم (1/ 27) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإمام بالركوع أو سجود ونحوهما (1/ 320).
ومنها حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"
(1)
.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة"
(2)
.
فهذه النصوص وغيرها من الآيات والأحاديث تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.
وقد تكلم ابن رجب رحمه الله تعالى عن مسألة وجود الجنة والنار وأنهما موجودتان الآن معدتان وقرر ذلك بما يوافق معتقد أهل السنة والجماعة فقال رحمه الله تعالى: "إن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء في الدارين مع غير موت، وخلق دارًا معجلة للأعمال وجعل فيها موتًا وحياة وابتلى عباده فيها بما أمرهم به ونهاهم عنه وكلفهم فيها بالإيمان بالغيب ومنه الإيمان بالجزاء، والداران المخلوقتان له وأنزل بذلك الكتب وأرسل به الرسل وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به وأقام علامات وأمارات تدل على وجود داري الجزاء فإن إحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (7/ 179) ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (4/ 2096).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (2/ 124) ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه (8/ 160).
يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة، وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها من النعيم يذكر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكر بألم النار، وجعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية فمنها ما يذكر بالجنة من زمان ومكان، أما الأماكن فخلق الله بعض البلدان كالشام وغيرها فيها من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة، وأما الأزمان فكزمن الربيع فإنه يذكر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، وكأوقات الأسحار فإن بردها يذكر ببرد الجنة
…
ومنها ما يذكر بالنار فإن الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكر بالنار المعدة لمن عصاه وما فيها من الآلام والعقوبات من أماكن وأزمان وأجسام وغير ذلك، أما الأماكن فكثير من البلدان مفرطة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم وسمومها
…
وأما الأزمان فشدة الحر والبرد يذكر بما في جهنم من الحر والزمهرير
…
وأما الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكرة بالنار فكثيرة منها الشمس عند اشتداد حرها
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "
…
وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما"
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "اعلم أن الله خلق الجنة والنار ثم خلق بني آدم وجعل لكل واحدة من الدارين أهلًا منهم
…
وأشهد عباده في هذه الدار آثارًا من الجنة وآثارًا من النار"
(3)
.
(1)
لطائف المعارف (ص 333، 334).
(2)
أهوال القبور (19).
(3)
البشارة العظمى ورقة (3).
وقال رحمه الله تعالى وهو يذكر فوائد حديث الكسوف الذي رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار قال:
"ومنها أنه يدل على وجود الجنة والنار كما هو مذهب أهل السنة والجماعة"
(1)
.
فخلق الجنة والنار وأنهما موجودتان الآن من عقيدة أهل السنة والجماعة وهي من المسائل التي أجمعوا عليها، وقد حكى الإجماع غير واحد منهم، ومن ذلك قول الآجري رحمه الله تعالى في الشريعة:"اعلموا رحمنا الله وإياكم أن القرآن شاهد أن الله خلق الجنة والنار قبل أن يخلق آدم عليه السلام، وخلق للجنة أهلًا وللنار أهلًا قبل أن يخرجهم إلى الدنيا لا يختلف في هذا من شمله الإسلام وذاق حلاوة طعم الإيمان، دل على ذلك القرآن والسنة فنعوذ بالله ممن كذب بهذا"
(2)
.
فأهل السنة والجماعة اتفقوا على القول بخلق الجنة والنار، وقالوا: إنهما موجودتان الآن، خلاف ما قالته المبتدعة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ممن خالفوا الأدلة الواردة في ذلك، وحادوا عن طريق الصواب وقالوا: إن الجنة والنار غير موجودتين الآن بل ينشئهما الله يوم القيامة وقالوا: إنهما لو كانتا مخلوقتين الآن لوجب أن تفنيا يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت لعموم قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
…
}
(3)
.
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى: "وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ولا
(1)
فتح الباري ورقة (136/ أ).
(2)
الشريعة للآجري (ص 225).
(3)
سورة القصص آية (88).
ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث، لأنها تصير معطلة مددًا متطاولة فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم
(1)
.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}
(1)
فلا حجة لهم فيه.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ". . . فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}
(1)
وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شيء مما كتب الله عز وجل عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقهما الله للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما في الآخرة لا من الدنيا"
(2)
.
وقال ابن أبي العز رحمه الله تعالى: ". . . . وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}
(3)
فأتيتم من سوء فهمكم بمعنى الآية واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم أن المراد {كُلُّ شَيْءٍ} مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء
(4)
.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 476).
(2)
طبقات الحنابلة (1/ 28).
(3)
سورة القصص آية (88).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية (ص 479 - 480).