الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع رده على المخالفين لمذهب السلف من المعطلة والمشبهة
بينت فيما سبق مذهب السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو ما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون من بعدهم إلا أن هناك طوائف وفرقًا نبتت ونشأت على خلاف هذا المنهج القويم والطريق السليم وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهذه الفرق منها من أفرط في النفي حتى شبهوه سبحانه وتعالى بالعدم وهم المعطلة، والبعض الآخر منها بالغوا في الإثبات حتى شبهوه عز وجل بالمخلوقات وهم المشبهة.
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطل ومقاتل مشبه"
(1)
.
وهذان المذهبان -أعني مذهب المعطلة والمشبهة- كل مذهب منهما يضم فرقًا وطوائف.
فأما المعطلة فإنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
فمنهم من جحد الأسماء وأنكر الصفات وهم الجهمية.
ومنهم من أثبت الأسماء وأنكر الصفات، وهم المعتزلة.
ومنهم من أثبت الأسماء، وفرق بين الصفات، فأثبت البعض، وأنكر الآخر، وهم الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
(1)
تاريخ بغداد (13/ 164).
وكل واحد من هؤلاء يعطلون حقائق مانعت الله به نفسه، ويشتركون في تأويل نصوص الكتاب والسنة، ويجعلون قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(1)
. مستندًا لهم في رد الأحاديث الصحيحة الثابتة، فكلما جاءتهم آية أو حديث تخالف قواعدهم وآراءهم، وما وضعته عقولهم وأفكارهم، فإن كانت هذه النصوص قابلة للتأويل والتحريف أولوها وحرفوها، وإن لم تكن قابلة ردوها وأنكروها ورموها وراء ظهورهم، وهم ما بين مقل ومكثر في التأويل والتعطيل وهم مع ذلك يستدلون على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(2)
تلبيسًا منهم وتشكيكًا لمن هو أعمى قلبًا منهم، وتحريفًا لمعنى نصوص الكتاب والسنة عن مواضعه.
وقد بنوا مذهبهم على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم فقالوا: إن إثباتها يقتضي التشبيه والتمثيل بالمخلوقين، ولذلك أولوها وحرفوا معانيها زاعمين أن ذلك لأجل التنزيه فوقعوا في شر مما فروا منه وهو تشبيه المولى تبارك وتعالى بالمعدومات والجمادات فشبهوا الله سبحانه وتعالى في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فهم شبهوا أولًا وعطلوا ثانيًا.
وأما المشبهة فهم الذين أثبتوا أسماء الله تعالى وصفاته وغلوا في الإثبات إلى حد أن شبهوه بالمخلوقات وجعلوا صفاته سبحانه وتعالى من جنس صفاتهم لأنهم يظنون أن لا حقيقة لها إلا هذا.
والشبهة التي أدت بالمشبهة إلى التشبيه والتمثيل هي أنهم يقولون
(1)
سورة الشورى آية (11).
(2)
سورة الشورى آية (11).
كما ذكر ذلك ابن القيم الجوزية رحمه الله عنه: "محال أن يخاطبنا الله بما لا نعقله، ثم يقول:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
(1)
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
(2)
{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}
(3)
(4)
.
ويقولون أيضًا أنه لا يوجد شيء معقول في الموجودات سوى الجسم والعرض ويستحيل أن يكون الله سبحانه وتعالى عرضًا فيجب أن يكون جسمًا.
واحتجوا على قولهم هذا بآيات من كتاب الله تعالى فيها ذكر العين والوجه واليد وغيرها
(5)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: المشبهة الذين يقولون بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي
(6)
.
ومن هؤلاء المشبهة الكرامية
(7)
ومن سار على منهجهم من طوائف الرافضة وغيرهم
(8)
.
(1)
سورة البقرة آية (73).
(2)
سورة البقرة آية (219).
(3)
سورة ص آية (29).
(4)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2/ 425).
(5)
الفصل في الملل والنحل (2/ 277).
(6)
رسالة الفرقان بين الحق والباطل لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 177).
(7)
الكرامية: هي إحدى فرق المرجئة وسموا بذلك نسبة إلى محمد بن كرام من أهل سجستان، وهم يثبتون صفات الله تعالى إلا أنهم ينتهون فيها إلى التجسيم والتشبيه، ولهم في الإيمان قول منكر حيث زعموا أن الإيمان هو الإقرار والتصديق دون القلب، والمنافقون عندهم مؤمنون.
انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 67) والفرق بين الفرق (202) ورسالة في الرد على الرافضة لابن حامد المقدسي (163) مجموع الفتاوى (3/ 103).
(8)
مقالات الإسلاميين (1/ 283) ومجموع الفتاوى (6/ 51) والملل والنحل للشهرستاني (1/ 105) والفرق بين الفرق (215).
وأصحاب هذا المنهج لا شك أنهم منحرفون عن المنهج السليم، وضالون عن الصراط المستقيم، لأنهم جمعوا في قولهم بين التشبيه والتعطيل أما تشبيههم فظاهر وهو تشبيه الخالق بالمخلوق، وأما التعطيل فمن وجوه ثلاثة:
1 -
أنه عطل نفس النص الذي أثبت الصفة حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله لا على مشابهة الله لخلقه.
2 -
أنه إذا شبه الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب حيث شبه الرب الكامل من جميع الوجوه بالمخلوق الناقص.
3 -
أنه إذا شبه الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهة الله لخلقه مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
(2)
(3)
…
وقد أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى هذين المذهبين وبين أنهما من البدع التي اتفق السلف على تضليل قائليها فقال: "ومن ذلك أعني محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة، ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول
…
وانقسم هؤلاء إلى قسمين:
أحدهما: من نفى كثيرًا مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة: لو رؤي لكان جسمًا، لأنه لا يرى إلا في جهة.
(1)
سورة الشورى آية (11).
(2)
سورة الإخلاص آية (4).
(3)
انظر: التحفة المهدية لابن مهدي (ص 185) وفتح رب البرية بتلخيص الحموية لابن عثيمين (ص 97).
وقولهم: لو كان له كلام يسمع لكان جسمًا، ووافقهم من نفي الاستواء فنفوه لهذه الشبهة، وهذا طريق المعتزلة والجهمية.
وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر ورد على أولئك كما هي طريقة مقاتل بن سليمان، ومن تبعه كنوح بن أبي مريم
(1)
وتابعهم طائفة من المحدثين قديمًا وحديثًا، وهو مسلك الكرامية فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظًا وإما معنى، ومنهم من أثبت لله صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى في معرض كلامه عن الخوارج وتكفيرهم للأمة واستباحة دمائهم وأموالهم:
"وأصعب من ذلك ما حدث من الكلام في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان:
1 -
فقوم نفوا كثيرًا مما أورد في الكتاب والسنة من ذلك، وزعموا أنهم فعلوا تنزيهًا لله عما تقتضيه العقول بتنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك لمستحيل على الله عز وجل.
2 -
وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة
(1)
نوح بن أبي مريم أبو عصمة المروزي، يعرف بالجامع لجمعه العلوم، ولكن كُذب في الحديث، قال ابن المبارك: كان يضع، توفي سنة 173 هـ.
ميزان الاعتدال (4/ 280) وتقريب التهذيب (ص 360).
(2)
فضل علم السلف على علم الخلف (ص 138، 139).
إلى المخلوقين، وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا درج صدر الأمة على السكوت عنها"
(1)
.
والسلف رحمهم الله تعالى منزهون في اعتقادهم عن التشبيه والتمثيل وقولهم في أسماء الله تعالى وصفاته هو الصحيح من الأقوال لأنه إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، عمدتهم في ذلك قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(2)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته
(3)
.
ويقول ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: وهدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى، فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنها مماثلة المخلوقات، وكان مذهبهم مذهبًا بين مذهبين، وهدى بين ضلالين خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين
(4)
والمجهلين والمشبهين .... وقالوا
(1)
جامع العلوم والحكم (2/ 296).
(2)
سورة الشورى آية (11).
(3)
الفتوى الحموية (ص 17).
(4)
أهل التخييل: هم الفلاسفة والباطنية ومن سلك سبيلهم من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم، وحقيقة مذهبهم: أن ما جاءت به الأنبياء مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر إنما هو تخييل وتمثيل لا حقيقة لها وليس هو حقًا ولا هدىً، وإنما المراد منها تخويف العامة وجمهور الناس وانتفاعهم بها ليستقيموا على الصراط المستقيم. وهم ينقسمون إلى قسمين: غلاة وغير غلاة. =
نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات
(1)
.
= ومن أهل التخييل من يجعل الأعمال من صلاة وزكاة وصوم وغيرها تخييلات ورموز يأمر بها العامة دون الخاصة.
وقولهم فساد يدل على فساده الشرع والعقل والحس.
الفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية (ص 20) والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 418).
(1)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 252).