الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته
من أصول أهل السنة والجماعة التي يجب الإيمان بها الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، فمن نجا من عذاب القبر فما بعده أيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشر منه لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشر منه"
(1)
.
أعاذنا الله من فتنة القبر وعذابه.
وقد دلت الآيات في كتاب الله سبحانه وتعالى والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثبات عذاب القبر ونعيمه، وسيأتي ذكر هذه الأدلة في معرض كلام ابن رجب رحمه الله تعالى حيث أنه قد ذكر هذه المسألة وما يدلّ على ثبوتها من أدلة الكتاب والسنة.
فقد جعل رحمه الله تعالى: الباب الأول من كتابه أهوال القبور في ذكر حال الميت عند نزوله القبر وسؤال الملائكة له، وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه، وما يرى من منزله في الجنة أو النار.
والباب الخامس في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيًا.
(1)
أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (4/ 553) وقال: هذا حديث حسن غريب وابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (2/ 1426) والحاكم (4/ 330) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وأما الباب السادس فقد جعل عنوانه نصًا في المسألة فقال: الباب السادس في ذكر عذاب القبر ونعيمه.
حيث قال رحمه الله تعالى: "وقد دلّ القرآن على عذاب القبر في مواضع كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}
(1)
.
ثم ساق رحمه الله تعالى بعد ذلك بعض تفسيرات الصحابة رضي الله عنهم للآيات التي تدل على عذاب القبر منها قوله: "وروى البراء في قوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ}
(2)
قال: عذاب القبر"
(3)
.
وكذا روي عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
(4)
.
وكذا قال قتادة والربيع بن أنس
(5)
في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}
(6)
أحدهما في الدنيا والأخرى هي عذاب القبر"
(7)
…
(8)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وأما نعيم القبر فقد دلّ عليه قوله تعالى:
(1)
سورة الأنعام آية (93).
(2)
سورة الطور آية (47).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (27/ 36) والآجري في الشريعة (ص 358).
(4)
سورة السجدة آية (21).
(5)
الربيع بن أنس بن زياد البكري الخراساني، كان عالم مرو في زمانه، توفي سنة 139 هـ.
سير أعلام النبلاء (6/ 169) وتهذيب التهذيب (3/ 238).
(6)
سورة التوبة آية (101).
(7)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 11).
(8)
أهوال القبور (ص 43).
{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}
(1)
…
"
(2)
.
كما أنه أورد رحمه الله تعالى تحت بقية الأبواب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي تدل على ثبوت عذاب القبر ونعيمه وفتنته، فمن الآيات التي أوردها قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
(3)
.
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى عقب هذه الآية تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم للآية فقال: "وخرجا في الصحيحين
(4)
من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} نزلت في عذاب القبر
…
زاد مسلم: "يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبي محمد"، فذلك قوله سبحانه وتعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} .
وفي رواية البخاري قال: "إذا أقعد العبد المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
…
"
(5)
.
ومنها قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}
(6)
.
(1)
سورة الواقعة رقم (89).
(2)
أهوال القبور (ص 58).
(3)
سورة إبراهيم آية (27).
(4)
صحيح البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 101) وصحيح مسلم: كتاب صفة الجنة، باب عرض مقعد الميت (4/ 2201).
(5)
انظر: أهوال القبور (ص 6) وما بعدها.
(6)
سورة غافر آية (46).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "قال قتادة في هذه الآية يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخًا وصغارًا ونقيصة"
(1)
.
وقال ابن سيرين
(2)
: كان أبو هريرة يأتينا بعد صلاة العصر فيقول: عرجت الملائكة، وهبطت الملائكة، وعرض آل فرعون على النار فلا يسمعه أحد إلا يتعوذ بالله من النار"
(3)
…
(4)
.
وأما الأحاديث الدالة على عذاب القبر ونعيمه فهي كثيرة جدًا بلغت حد التواتر.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وقد تواترت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر والتعوذ منه"
(5)
.
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى كثيرًا من الأحاديث الدالة على عذاب القبر ونعيمه.
منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى أصحابه أنه يسمع قرع نعالهم آتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ - محمد صلى الله عليه وسلم - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقال له: انظر إلى
(1)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 291) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
أبو بكر محمد بن سيرين، أبوه مولى أنس بن مالك، كان من سبي عين التمر فاشتراه أنس وكاتبه، قال هشام بن حسان:"هو أصدق من أدركت من البشر" وقال ابن سعد: "وكان ثقة مأمونًا عاليًا رفيعًا فقهيًا إمامًا كثير العلم ورعًا"، توفي رحمه الله تعالى سنة 110 هـ.
طبقات ابن سعد (7/ 193) والبداية والنهاية (9/ 267).
(3)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 291).
(4)
أهوال القبور (ص 39).
(5)
المصدر السابق (ص 43).
مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال: فيراهما جميعًا، وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"
(1)
.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة"
(2)
.
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ قال: "نعم عذاب القبر حق" قالت عائشة: "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر"
(3)
.
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 102) ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه (4/ 2200).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي (2/ 103) ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت عليه (4/ 2199).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (2/ 102).
(4)
أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 413).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال"
(1)
.
ومنها حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم في حائط بني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به، فكادت تلقيه، واذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال:"من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل أنا: قال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: "وإن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه" ثم أقبل علينا بوجهه فقال:"تعوذوا بالله من عذاب النار" قالوا: نعوذ بالله من النار قال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر" قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال:"تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال:"تعوذوا بالله من فتنة الدجال" قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال
(2)
.
ومنها حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال: "يهود تعذب في قبورها"
(3)
.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على أن إثبات عذاب القبر ونعيمه وفتنته كما هو قول أهل السنة والجماعة وخلافًا للخوارج
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر (2/ 103) ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/ 412).
(2)
أخرجه مسلم: كتاب صفة الجنة، باب عرض مقعد الميت عليه (4/ 299).
(3)
أخرجه مسلم: كتاب صفة الجنة، باب عرض مقعد الميت عليه (4/ 2200).
ومعظم المعتزلة وبعض المرجئة الذين نفوا ذلك وخالفوا بذلك دلائل الكتاب والسنة التي تظافرت على إثباته
(1)
.
وقد بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه وهو قول أهل السنة والجماعة فقال: "ومما يدلّ على وقوع العذاب على الأجساد الأحاديث الكثيرة في تضييق القبر حتى تختلف أضلاعه، ولأنه لو كان العذاب على الروح خاصة لم يختص العذاب بالقبر ولم ينسب إليه"
(2)
.
كما رد رحمه الله تعالى على الذين يقولون إن العذاب على الروح فقط فقال وهو يتكلم عن إعادة الروح للجسد "وأنكر ذلك طائفة منهم ابن حزم وغيره، وذكر أن السؤال للروح خاصة، وكذلك سماع الخطاب وأنكر ألا تعاد الروح إلى الجسد في القبر للعذاب وغيره، وقالوا: لو كان ذلك حقًا للزم الإنسان أن يموت ثلاث مرات ويحيى ثلاث مرات، والقرآن دلّ على أنهما موتتان وحياتان، وهذا ضعيف جدًا، فإن حياة الروح ليست حياة تامة مستقلة كحياة الدنيا وكحياة الآخرة بعد البعث، وإنما فيها نوع اتصال الروح في البدن بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما، وليس هو حياة تامة حتى يكون إنفصال الروح به موتًا تامًا وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه فإن ذلك يسمى موتًا وحياة كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور"
(3)
(1)
انظر: شرح مسلم للنووي (17/ 201) ولوامع الأنوار البهية (2/ 24، 25).
(2)
أهوال القبور (ص 81).
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب ماذا يقول إذا نام (7/ 147) ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب ماذا يقول عند النوم وأخذ المضجع (4/ 2082).
وسماه الله تعالى وفاة لقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى}
(1)
الآية. ومع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حيًا، وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا توجب أن يصير حيًا حياة مطلقة"
(2)
.
فما قاله ابن رجب رحمه الله تعالى في هذه المسألة هو ما عليه أهل السنة والجماعة وهو الحق والصواب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:"مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا فيحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا من قبورهم لرب العالمين"
(3)
.
وقد أشار ابن رجب رحمه الله إلى أنواع عذاب القبر التي يعذب بها الميت في قبره فقال: "وقد ورد في عذاب القبر أنواع منها الضرب بمطراق من حديد وغيره
…
".
ومنها تسليط الحيات والعقارب
…
ومنها تضييق القبر على الميت حتى تختلف أضلاعه
…
(4)
.
(1)
سورة الزمر آية (42).
(2)
أهوال القبور (ص 79، 80).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 284).
(4)
أهوال القبور (ص 50، 51، 54).