المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة - ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف

[عبد الله بن سليمان الغفيلي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌تقريظ فضيلة الشيخ: حماد بن محمد الأنصاري

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول حياة ابن رجب وآثاره العلمية

- ‌الفصل الأول العصر الذي عاش فيه ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الناحية السياسية

- ‌المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

- ‌المبحث الثالث الحالة العلمية

- ‌الفصل الثاني حياة ابن رجب الشخصية

- ‌المبحث الأول اسمه ونسبه

- ‌المبحث الثاني كنيته ولقبه

- ‌المبحث الثالث مولده

- ‌المبحث الرابع شهرته

- ‌المبحث الخامس أسرته

- ‌المبحث السادس أخلاقه وصفاته

- ‌المبحث السابع ابن رجب والتصوف

- ‌المبحث الثامن وفاته

- ‌الفصل الثالث حياته العلمية

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم

- ‌المبحث الثاني رحلاته في طلب العلم

- ‌المبحث الثالث شيوخه

- ‌ ترجمة لأشهر شيوخ ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌1 - ابن القيم:

- ‌2 - ابن الخباز:

- ‌3 - أبو سعيد العلائي:

- ‌المبحث الرابع تدريسه

- ‌المبحث الخامس تلاميذه

- ‌ تراجم لثلاثة من المشاهير منهم

- ‌1 - ابن الرسام:

- ‌2).2 -ابن اللحام:

- ‌3 - ابن سعيد الحنبلي:

- ‌المبحث السادس ثقافته ومؤلفاته

- ‌المبحث السابع عقيدته ومذهبه

- ‌1 - عقيدته:

- ‌2 - مذهبه:

- ‌المبحث الثامن مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌الباب الثاني أثر ابن رجب في توضيح عقيدة السلف في التوحيد وأنواعه ونواقضه

- ‌الفصل الأول تعريف التوحيد وبيان أنواعه والعلاقة بينها

- ‌المبحث الأول تعريف التوحيد لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف التوحيد شرعًا

- ‌المبحث الثالث أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع العلاقة بين أنواع التوحيد

- ‌الفصل الثاني توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الربوبية لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف توحيد الربوبية شرعًا

- ‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثالث توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني مذهب السلف في أسماء الله وصفاته وموقف ابن رجب منه

- ‌المبحث الثالث أدلة توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع بيانه أن السلف أعلم وأن مذهبهم أسلم وأحكم

- ‌المبحث الخامس بيانه أن سورة الإخلاص فيها صفة الرحمن

- ‌المبحث السادس بيانه أن الاشتراك في الاسم لا يقتضي الاشتراك في المسمى

- ‌المبحث السابع ذكر جملة من الصفات التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌المبحث الثامن شبهة والرد عليها

- ‌المبحث التاسع رده على المخالفين لمذهب السلف من المعطلة والمشبهة

- ‌المبحث العاشر تنزيه الله سبحانه وتعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث الحادي عشر علم الكلام وكلام ابن رجب عليه

- ‌الفصل الرابع توحيد الألوهية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني بيان معنى لا إله إلا الله وفضلها وشروطها

- ‌المطلب الأول بيان معنى كلمة إله

- ‌المطلب الثاني معنى لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثالث فضل لا إله إلا الله

- ‌المطلب الرابع الجمع بين أحاديث تدل على أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وأخرى تدل على أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله

- ‌المطلب الخامس شروط الانتفاع بـ (لا إله إلا الله)

- ‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

- ‌المبحث الرابع بيانه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين

- ‌الفصل الخامس نواقض التوحيد

- ‌المبحث الأول الشرك وكلام ابن رجب عليه

- ‌المطلب الأول تعريف الشرك لغة

- ‌المطلب الثاني الشرك في الشرع وبيان أقسامه

- ‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

- ‌المبحث الثالث البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الأول معنى البدعة في اللغة والشرع

- ‌المطلب الثاني أنواع البدع

- ‌المطلب الثالث الرد على محسني البدع وكلام ابن رجب في ذلك

- ‌المطلب الرابع نماذج من البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الخامس حكم البدع وأهلها

- ‌المبحث الرابع الغلو وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليه

- ‌المبحث الخامس مسائل متفرقة متعلقة بهذا الفصل

- ‌1 - التنجيم

- ‌2 - التطيّر والتشاؤم

- ‌3 - الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" وقوله: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله: "لا يورد ممرض على مصح

- ‌4 - معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث

- ‌5 - النهي عن البناء على القبور واتخاذها مساجد

- ‌6 - النهي عن سبّ الدهر

- ‌الباب الثالث أثره في توضيح عقيدة السلف في مباحث الإيمان وما يتعلق بها من مسائل

- ‌الفصل الأول معنى الإيمان وبيان أهميّته وما يتعلق به من مسائل

- ‌المبحث الأول تعريف الإيمان لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف الإيمان شرعًا

- ‌المبحث الثالث أهمية الإيمان

- ‌المبحث الرابع زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الخامس العلاقة بين مسمّى الإيمان والإسلام

- ‌المبحث السادس حكم مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث السابع مسألة تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة

- ‌الفصل الثاني الإيمان بالملائكة والكتب والرسل

- ‌المبحث الأول الإيمان بالملائكة والكتب

- ‌المطلب الأول الإيمان بالملائكة

- ‌المطلب الثاني الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الثاني تعريف النبيّ والرسول لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثالث معنى الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الرابع الغرض من بعثة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الخامس التفاضل بين الأنبياء

- ‌المبحث السادس بعض خصائص الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث السابع الإيمان بنبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن كلامه في دعوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث التاسع بيانه فضل إرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر النجاة والسعادة في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه

- ‌الفصل الثالث الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الأول تعريف القضاء والقدر

- ‌المبحث الثاني معنى الإيمان بالقضاء والقدر والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الثالث مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الرابع النهي عن الخوض في القدر

- ‌المبحث الخامس الرضا بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السادس حكم تمنّي الموت وعلاقته بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السابع القضاء والقدر وفعل الأسباب

- ‌المبحث الثامن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وبيان معنى حديث "فحج آدم موسى

- ‌الفصل الرابع الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الثاني الإيمان بأشراط الساعة

- ‌المبحث الثالث الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته

- ‌المبحث الرابع الأعمال التي يعذب أو ينعم بها العبد في القبر

- ‌المبحث الخامس مستقر الأرواح

- ‌المبحث السادس الصراط

- ‌المبحث السابع بيان المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

- ‌المبحث الثامن الشفاعة

- ‌المبحث التاسع الجنة ونعيمها

- ‌المبحث العاشر رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة

- ‌المبحث الحادي عشر النار وعذابها

- ‌المبحث الثاني عشر خلق الجنة والنار

- ‌المبحث الثالث عشر الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

تنوعت عبارات السلف رحمهم الله تعالى في تعريف العبادة ولكن أشمل تعريف لها هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال: "العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادات لله"

(1)

.

ومن هذا التعريف الجامع لمعنى العبادة التي هي حق الله على عباده يتبين لنا أن جميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها داخلة في مسمى العبادة، وفي هذا رد على الفهم الخاطىء الذي يتصوره بعض الناس من أن العبادة محصورة في أركان الإسلام الخمسة مما جعلهم يذكرون الله تعالى، ويعرفونه في الصلوات

(1)

العبودية (ص 4).

ص: 334

الخمس وبقية أركان الإسلام، وينسونه فيما عدا ذلك من شؤون حياتهم الأمر الذي جعلهم يصرفون كثيرا من أنواع العبادة لغيره، ويتهاونون بأمره ونهيه.

ولا شك أن هذا فهم خاطىء مخالف لما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن كل أمر يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو داخل تحت مسمى العبادة التي يجب إخلاصها لله وحده دون سواه كما هو واضح في تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية السابق رحمه الله تعالى.

ولكثرة أنواع العبادة فإني سأقتصر على ذكر جملة من أنواع العبادة.

وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليها. وسأبدأ بذكر الدعاء لأن الدعاء هو العبادة

(1)

كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1 -

من أنواع العبادة: الدعاء:

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخضوع لله عز وجل الدعاء قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}

(2)

.

وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا

(1)

أخرجه أحمد (4/ 271) وأبو داود: كتاب الصلاة، باب الدعاء (2/ 161) والترمذي: كتاب الدعوات، باب الدعاء مخ العبادة (5/ 456) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء (2/ 1258) والحاكم (1/ 490) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(2)

سورة الأعراف آية (55).

ص: 335

وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

(1)

(2)

.

فالدعاء نوع من أنواع العبادة بل هو أعظمها ولبها ومخها.

وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تحث على الدعاء وتأمر به وترغب فيه: منها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}

(3)

.

ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}

(4)

.

ومنها قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]

(5)

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أهمية الدعاء وتجعله من أعظم أنواع العبادات.

وقد حذر الله تبارك وتعالى من دعاء غيره فقال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}

(6)

.

وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}

(7)

.

وأما الأحاديث التي تحث على الدعاء وترغب فيه فمنها حديث أبي

(1)

سورة الأنبياء آية (90).

(2)

الخشوع في الصلاة (ص 30).

(3)

سورة غافر آية (60).

(4)

سورة البقرة آية (186).

(5)

سورة الأعراف آية (56).

(6)

سورة الأحقاف آية (5، 6).

(7)

سورة فاطر آية (13، 14).

ص: 336

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له

" الحديث

(1)

.

ومنها حديثه الآخر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء"

(2)

.

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تحث على الدعاء وتأمر به وترغب فيه.

والدعاء الذي أمر الله به عباده في كتابه الكريم نوعان، وكل أمر في القرآن والسنة بالدعاء لا يخرج عن هذين النوعين وهما:

1 -

دعاء العبادة: وهو التقرب إلى الله تعالى بأنواع العبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونذر وذبح وغيرها من أنواع العبادات وذلك طمعًا في رحمته وخوفًا من عقابه عز وجل.

2 -

دعاء المسألة: وهو طلب الداعي من الله عز وجل حصول ما ينفعه ودفع ما يضره، ومن يملك الضر والنفع هو المعبود حقًا وهو الله سبحانه وتعالى لأنه بيده الضر والنفع وهو على كل شيء قدير ولذلك يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 216).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 362) والترمذي: كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء (5/ 455) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء (2/ 1258) والطبراني في الصغير (2/ 47) والحاكم (1/ 490) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(3)

سورة يونس آية (106).

ص: 337

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}

(1)

هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان: فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لابد أن يكون مالكًا للنفع والضر.

ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}

(2)

وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}

(3)

فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي، فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لابد أن يكون مالكًا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاء دعاء العبادة، فاعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.

وعلى هذا فقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

(4)

يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية قيل: أعطيه إذا سألني.

وقيل: أثيبه إذا عبدني.

(1)

سورة الأعراف آية (55، 56).

(2)

سورة يونس آية (106).

(3)

سورة يونس آية (18).

(4)

سورة البقرة آية (186)

ص: 338

والقولان متلازمان، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعًا، فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع، وقل من يفطن له، وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدًا، فهي من هذا القبيل"

(1)

.

فالدعاء هو روح العبادة ومخها كما ورد بذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"

(2)

.

وهو أعظم أنواع العبادة وأجلها ولذلك كان أقوى وسائل القرب إلى الله تعالى، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه.

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى مبينا ذلك: "واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين، لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة"

(3)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضا: "وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا سألت فاسأل الله"

(4)

أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال ونهى عن سؤال غيره من الخلق، وقد أمر الله تعالى بسؤاله فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (15/ 10، 11).

(2)

تقدم تخريجه (ص 335).

(3)

جامع العلوم والحكم (181).

(4)

جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (4/ 288) والترمذي: أبواب صفة القيامة (5/ 319) وقال: حديث صحيح.

(5)

سورة النساء آية (32).

ص: 339

واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلًا وشرعًا، وذلك من وجوه متعددة:

منها: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة

وهذا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده، وهذا هو حقيقة العبادة التي يختص بها الإله الحق

ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في الصحيحين

(1)

لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي فيصير عظمًا بغير لحم، ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهه.

ومنها: أن في سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره، وسؤاله إقامة له مقام من يقدر، وليس هو بقادر ويشهد بهذا المعنى الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص من ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر .. .)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثرًا (2/ 130) ومسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس (2/ 720) ولفظه عندهما: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".

(2)

تقدم تخريجه (ص 174).

ص: 340

فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر؟ إن هذا لأعجب العجب.

ومنها أن الله يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، والمخلوق غالبًا يكره أن يسأل لفقره وعجزه

ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟

(1)

وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} .

(2)

فأي وقت دعاه العبد وجده سميعًا قريبًا مجيبًا ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات

(3)

فقد بين ابن رجب رحمه الله تعالى في كلامه السابق أن الالتجاء إلى الله تبارك وتعالى وسؤاله وحده لا شريك له هو المتعين على كل إنسان لأنه هو الضار النافع الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.

أما المخلوق الضعيف فإنه محتاج إلى من يسأله ويعينه فكيف يسأل ويطلب مما يدل دلالة واضحة على أن الدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}

(4)

.

(1)

كما جاء ذلك في حديث النزول، وقد سبق تخريجه (ص 216).

(2)

سورة البقرة آية (186).

(3)

نور الاقتباس (ص 60) وما بعدها.

(4)

سورة غافر آية (60).

ص: 341

فالله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة وهو أن يدعوه وحده دون سواه ووعدهم بأن يستجيب لهم كما توعد من استكبر عن دعائه وسؤاله بأن يكون من أهل العذاب الذين سيدخلون جهنم لهم ذليلون حقيرون.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني، يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك" استجب لكم، يقول: أجب دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يقول: إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة وإفراد الألوهية لي (سيدخلون جهنم داخرين) بمعنى: صاغرين

(1)

.

فالله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يدعوه ويتقوه ويطيعوه وقد فتح بابه للطالبين، وحث على دعائه في كتابه المبين كما في الآية السابقة وكما في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}

(2)

لأن دعاء العبد لربه سبحانه وتعالى من مقتضيات العبودية لما في الدعاء من الذل والافتقار الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى.

وقد بين ابن رجب رحمه الله تعالى أن ما يطلبه العبد من ربه عز وجل من الحاجات على نوعين:

فقال رحمه الله تعالى: "اعلم أن الحاجات التي يطلبها العبد من الله نوعان:

(1)

تفسير ابن جرير الطبري (24/ 78، 79).

(2)

سورة الأعراف آية (180).

ص: 342

أحدهما: ما علم أنه خير محض كسؤاله خشيته من الله عز وجل وطاعته وتقواه وسؤاله الخير والاستعاذة به من النار فهذا يطلب من الله تعالى بغير تردد، ولا تعليق بالعلم والمصلحة لأنه خير محض، ومصلحة حاصلة فلا وجه لتعليقه بشرط وهو معلوم الحصول، وكذلك لا يعلق بمشيئة الله عز وجل لأن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له ولا فائدة لتعليقه بمشيئته ولكن يجزم المسألة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له" أخرجاه

(1)

من حديث أنس وأبي هريرة بمعناه.

وفي رواية مسلم "ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء"

(2)

.

وفي رواية للبخاري: "إن الله لا يتعاظمه شيء ويفعل ما يشاء ولا مكره له"

(3)

.

النوع الثاني: ما لا يعلم أنه خيرة للعبد أم لا كالموت والحياة والغنى والفقر والولد والأجل وكسائر حوائج الدنيا التي تجهل عواقبها فهذه لا ينبغي أن يسأل الله منها إلا ما يعلم منه الخيرة للعبد، فإن العبد جاهل بعواقب الأمور وهو مع هذا عاجز عن تحصيل مصالحه ودفع مضاره، فينبغي له أن يسأل حوائجه ممن هو عالم قادر، ولهذا شرعت الاستخارة في الأمور الدنيوية كلها وشرع أن يقول الداعي في استخارته: "اللهم أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له (7/ 153) ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت (4/ 2063).

(2)

صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت (4/ 2063).

(3)

صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة (8/ 193).

ص: 343

فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ثم يقول: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه خير لي في ديني ودنياي

"

(1)

.

وكذلك في هذا الدعاء يسأل الله بعلمه الغيب وقدرته على الخلق ومما يعلم الخيرة من موت أو حياة.

وقد تضمن الدعاء الذي في هذا الحديث

(2)

النوعين معًا فإنه لما سأل الموت والحياة قيد ذلك بما يعلم الله أن فيه الخيرة لعبده، ولما سأل الخشية وما بعدها مما هو خير صرف جزم به ولم يقيده بشيء

(3)

.

وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى أن للدعاء آدابًا يجب على العبد أن يتحلى به لأنها سبب في استجابة الدعاء فقال: "وقوله" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك"

(4)

قال:

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى (2/ 51).

(2)

يقصد به حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحييني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين".

أخرجه أحمد (4/ 264) والنسائي (3/ 55) والحاكم (1/ 524).

(3)

شرح حديث عمار بن ياسر (ص 13 - 15).

(4)

هذا جزء من حديث أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/ 703).

ص: 344

"هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي الإجابة وما يمنع الإجابة

(1)

وقد ذكر أسباب إجابة الدعاء ومنها:

1 -

حضور القلب وإخلاصه لله عز وجل يقول ابن رجب رحمه الله تعالى في بيان ذلك: "ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وإن الله تعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهي"

(2)

(3)

.

2 -

رفع اليدين إلى السماء قال رحمه الله تعالى في بيان ذلك قوله: "يمد يديه إلى السماء" وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته. وفي حديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين" خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه

(4)

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 252).

(2)

أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات (5/ 516) وقال: حديث غريب، والحاكم (1/ 493) وقال: هذا حديث مستقيم الإسناد، ورواه أحمد (2/ 177) من حديث عبد الله بن عمرو قال المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 492) رواه أحمد وإسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 148) رواه أحمد وإسناده حسن.

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 232).

(4)

أخرجه أحمد (5/ 438) وأبو داود: كتاب الصلاة، باب الدعاء (1/ 342) والترمذي: كتاب الدعوات (5/ 556) وقال: حسن غريب، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء (2/ 1271) والحاكم (1/ 497) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 143): وسنده جيد.

ص: 345

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه

(1)

ورفع يديه يوم بدر يستنصر الله على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه

(2)

(3)

3 -

الإلحاح في الدعاء يقول ابن رجب رحمه الله تعالى في بيان ذلك: "الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء

(4)

.

كما ذكر رحمه الله تعالى موانع إجابة الدعاء فقال: "أما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه التوسع في الحرام أكلًا وشربًا ولبسًا وتغذية وقد سبق حديث ابن عباس

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"

(5)

فأكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء.

(1)

يدل عليه حديث أنس رضي الله عنه قال: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه" أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب رفع الأيدي في الدعاء (7/ 154).

(2)

يشير إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلائمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض "فما زال يهتف بربه، مادًا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه

" الحديث. أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (3/ 1384).

(3)

جامع العلوم والحكم (1/ 253، 254).

(4)

المصدر السابق (1/ 253) وما بعدها.

(5)

أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 131) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 291) وفيه من لم أعرفهم.

ص: 346

وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا وكذلك ترك الواجبات

(1)

.

وكذلك من الموانع ترك الدعاء استبطاء للإجابة لأنه مخالف للرجاء وحسن الظن بالله لما في ذلك من قطع الرجاء في الله واليأس من إجابته للدعاء، وهذا خلاف المأمور به من حسن الظن بالله وبسعة رحمته وجوده وقد دل على هذا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن ينصب وجهه لله، يسأله مسألة إلا أعطاه إياها إما عجلها له في الدنيا، وإما ادخرها له في الآخرة، ما لم يعجل بقول قد دعوت، ودعوت فلا يستجاب لي"

(2)

.

يقول ابن رجب رحمه الله في بيان هذا: ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له، ونهى أن يستعجل، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة الدعاء -ولو طالت المدة- فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء

(3)

.

وهناك آداب وموانع أخرى سبب في إجابة الدعاء ولكني اقتصرت على ما ذكره ابن رجب رحمه الله تعالى خشية الإطالة ولذلك يجب على الداعي أن يستكمل آداب الدعاء ويبتعد عن موانعه فإنه أحرى أن يستجاب له.

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: والدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه.

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 258).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل (7/ 153) ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب بيانه أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل (4/ 2095).

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 232).

ص: 347

وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه

(1)

.

والدعاء له فوائد عظيمة على العبد منها أنه يدفع البلاء كما ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة.

قال ابن رجب: فالصدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه، وكذلك الدعاء، وفي الحديث "إن البلاء والدعاء يلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان إلى يوم القيامة" خرّجه البزار والحاكم

(2)

.

وخرج الترمذي من حديث سلمان مرفوعًا: "لا يرد القضاء إلا الدعاء"

(3)

.

وقال ابن عباس: "لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر".

وعنه قال: الدعاء يدفع القدر وهو إذا دفع القدر فهو من القدر، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الأدوية والرقى هل ترد من قدر الله شيئًا قال:"هي من قدر الله تعالى"

(4)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (3/ 232).

(2)

أخرجه البزار: كتاب الأدعية، باب إن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان كما في كشف الأستار (4/ 37) والحاكم: كتاب الدعاء (1/ 492) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(3)

أخرجه الترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/ 448) وقال: هذا حديث حسن غريب.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 421) والترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء لا ترد الرقى ولا الدواء من قدر الله شيئًا (4/ 400) وابن ماجه: كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء (2/ 1137) والحاكم (4/ 199) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ص: 348

وكذلك قال عمر رضي الله عنه لما رجع من الطاعون فقال له أبو عبيدة أفرارًا من قدر الله فقال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى"

(1)

.

فإن الله تعالى قدر المقادير ويقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه، وكذلك الأذكار المشروعة تدفع البلاء.

وفي حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح ويمسي بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يصبه بلاء"

(2)

(3)

فدعاء العبد المؤمن إن كان وفق الآداب السابقة لا يرد إن شاء الله تعالى، وقد يحصل للداعي تأخيرًا للإجابة، وقد يعوض بما هو خير.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجة من الدنيا، فيصرفها عنه يعوضه خيرًا منها، إما أن يصرف عنه بذلك سوءًا أو يدخرها له في الآخرة، أو يغفر له بها ذنبًا كما في المسند والترمذي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب ما ذكر في الطاعون (7/ 21) ومسلم: كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (4/ 1740).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 62) وأبو داود: كتاب الأدب، باب ماذا يقول إذا أصبح (5/ 324) والترمذي: كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى (5/ 465) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى (2/ 1272) والحاكم (1/ 514) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(3)

لطائف المعارف (ص 76).

(4)

أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة (5/ 462) وقال الألباني: حديث حسن. صحيح الجامع (2/ 991) ولم أجده في المسند من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 349

وفي المسند وصحيح الحاكم

(1)

عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها، قالوا إذًا نكثر، قال: الله أكثر"

(2)

.

فالعبد إذا دعا الله سبحانه وتعالى ولم يكن في دعوته اعتداء حصل له المطلوب أو مثله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فالدعوة التي ليس فيها اعتداء، يحصل بها المطلوب أو مثله، وهذا غاية الإجابة، فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعًا، أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل لا يعلم ما فيه من المفسدة عليه والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئًا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد أعطاه نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له، فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى"

(3)

.

والذي نخلص إليه مما سبق أن دعاء الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه من أعظم أنواع العبادة، فلا يجوز أن يصرف لغيره عز وجل لأنه حق من حقوق الله تبارك وتعالى على عباده، لأنه بالدعاء يظهر ذل العبودية ويعرف العبد به ربه، وهذا هو المقصود من جميع العبادات، وذلك أن العبد حينما يدعو ربه عز وجل فإنه يدعوه وهو يعلم من نفسه

(1)

أخرجه أحمد (3/ 18) والترمذي: كتاب الدعوات، باب في انتظار الفرج وغير ذلك (5/ 566) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والحاكم (1/ 493) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، ومالك في الموطأ: كتاب القرآن، باب ما جاء في الدعاء (1/ 217).

(2)

يعني المستدرك.

(3)

الحسنة والسيئة (ص 119).

ص: 350

أنه محتاج إلى ما يطلبه من ربه عز وجل، ويعلم من نفسه أنه لا يحصل على مراده إلا بعون الله تبارك وتعالى له على ذلك، لأن الله عز وجل يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو القادر تبارك وتعالى على تحقيق حاجته فهو الرب الرحيم الذي طلب من عباده أن يدعوه ووعدهم بالإجابة، ومن هنا كان المقصود من جميع التكاليف الشرعية معرفة ذل العبودية وعزة الربوبية والدعاء يتحقق فيه الأمران. ولهذا لا يجوز أن يدعى غيره من المخلوقين أيا من أنواع الدعاء، ومن فعل ذلك فهو مشرك بالله العظيم.

2 -

الخوف

الخوف عبادة لا يستحقها إلا الله تبارك وتعالى لأنه وحده القادر على جلب النفع للعبد، ودفع الضر عنه، وقد تعبد الله به جميع عباده من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر عباده المؤمنين كما ورد ذلك في القرآن الكريم قال تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}

(1)

.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}

(2)

.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}

(3)

.

فالخوف عبادة من أجل العبادات لا يجوز صرفها إلا لله تبارك

(1)

سورة النحل آية (50).

(2)

سورة الأحزاب آية (39).

(3)

سورة المؤمنون آية (57 - 61).

ص: 351

وتعالى وقد أمر الله تبارك وتعالى بإخلاصه له في آيات كثيرة قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}

(1)

.

وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}

(2)

.

وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}

(3)

.

وكما دل القرآن على أن الخوف عبادة يجب إخلاصها لله تعالى كذلك دلت السنة على أن الخوف لا يكون إلا من الله، ولا يصرف لأحد سواه، فلا خوف ولا خشية إلا منه جل وعلا ومن تلك الأحاديث حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية

(4)

.

وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله أني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أَتَّقي"

(5)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلًا

(1)

سورة آل عمران آية (175).

(2)

سورة المائدة آية (44).

(3)

سورة الأعراف آية (56).

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع (8/ 145) ومسلم: كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم (4/ 1829).

(5)

أخرجه مسلم: كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب (2/ 781).

ص: 352

فيمن سلف، أو قبلكم آتاه الله مالًا وولدًا -يعني أعطاه- قال: فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال: فإنه لم يبتئر

(1)

عند الله خيرًا -فسرها قتادة لم يدخر- وإن يقدم على الله يعذبه فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحمًا فاسحقوني، أو قال: فاسهكوني، ثم إذا كان ريح عاصف فأذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك وربى ففعلوا فقال الله عز وجل كن فإذا رجل قائم، ثم قال أي عبدي ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك أو فرق

(2)

منك، فما تلافاه أن رحمه الله

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}

(4)

أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق، قال: لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه

(5)

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الخوف عبادة جليلة لا يستحقها إلا الله عز وجل.

وقد تناول ابن رجب رحمه الله تعالى هذا النوع من العبادة وأشار إلى بعض جوانبه فقال رحمه الله تعالى في بيان القدر المطلوب من

(1)

يبتئر من بأرت الشيء وابتأرته إذا خبأته وادخرته ومعنى لم يبتئر خيرًا: أي لم يقدم لنفسه خبيئة خير ولم يدخر.

النهاية لابن الأثير (1/ 89).

(2)

الفرق: الخوف والفزع، يقال: فرق يفرق فرقًا أي خاف يخاف خوفًا. النهاية لابن الأثير (3/ 438).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب الخوف من الله (7/ 185).

(4)

سورة المؤمنون آية (60).

(5)

أخرجه أحمد (6/ 205) والترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة المؤمنون (5/ 327) وابن ماجه: كتاب الزهد، باب التوقي في العمل (2/ 1404) والحاكم (1/ 393) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ص: 353

الخوف بحيث يكون باعثًا على الالتزام بالأوامر والانتهاء عن النواهي مقترنًا بالرجاء وحسن الظن بالله تعالى: القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو هما لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محمودًا، ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السليمي

(1)

من شدة خوفه الذي أنساه القرآن، وصار صاحب فراش وهذا لأن الخوف ليس مقصودًا لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه.

ولهذا المعنى عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن.

وقال سفيان بن عيينة: "خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا" أخرجه أبو نعيم

(2)

.

والمقصود الأصلي هو طاعة الله عز وجل وفعل مراضيه ومحبوباته، وترك مناهيه ومكروهاته.

(1)

عطاء السليمي بفتح السين وكسر اللام وسكون الياء، البصري الزاهد العابد، قال الذهبي: من صغار التابعين، أدرك أنس بن مالك، وكان قد أرعبه الخوف من الله، مات بعد الأربعين ومئة.

اللباب في تهذيب الأنساب (2/ 133، 134) وسير أعلام النبلاء (6/ 86) وتبصير المنتبه (2/ 746).

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 275).

ص: 354

ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه فقد انعكس المقصود منه، ولكن إذا حصل ذلك عن رغبة كان صاحبه معذورًا"

(1)

.

وقال رحمه الله تعالى مبينًا أسباب قوة خوف الله تعالى وخشيته: "والموجب لخشية الله أمور:

1 -

منها قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي.

2 -

ومنها النظر في شدة بطشه وانتقامه وسطوته وقهره وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته كما قال الحسن: ابن آدم هل لك طاقة بمحاربة الله، فإن من عصاه فقد حاربه

(2)

وقال بعضهم: عجبت من ضعيف يعصي قويًا.

3 -

ومنها قوة المراقبة له والعلم بأنه شاهد رقيب على قلوب عباده وأعمالهم وأنه مع عباده حيث كانوا كما دل القرآن على ذلك كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}

(3)

وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}

(4)

(5)

وينبغي للمؤمن أن يكون خائفًا راجيًا، ويكون خوفه ورجاؤه سواء

(1)

التخويف من النار (ص 21).

(2)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 134) وعلقمة بن مرثد في زهد الثمانية (ص 62).

(3)

سورة الحديد آية (4).

(4)

سورة يونس آية (61).

(5)

شرح حديث عمار بن ياسر (ص 26).

ص: 355

فإنه إذا رجح الخوف حمله على القنوط من رحمة الله، وإذا رجح الرجاء حمله على الأمن من مكر الله، وكلاهما مخالف للصواب.

يقول ابن رجب رحمه الله تعالى ذلك: "فأما الخوف والرجاء فأكثر السلف على أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما على الآخر"

(1)

.

ويقول أيضًا: كان بعض السلف يقول: "من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد مؤمن".

وسبب هذا أنه يجب على المؤمن أن يعبد الله بهذه الوجوه الثلاثة المحبة والخوف والرجاء، ولابد له من جميعها، ومن أخل ببعضها فقد أخل ببعض واجبات الإيمان

(2)

.

فالخوف من الله عز وجل يجب أن لا يصل إلى حد القنوط لأن القنوط يجعل العبد يقنط من رحمة الله عز وجل ومن عفوه ومغفرته بل لابد من الخوف من الله عز وجل مع رجاء ثوابه والطمع فيما عنده وقد جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في غير ما آية وجعل ذلك من صفات المؤمنين فقال عز وجل: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

(3)

.

وقال جل وعلا: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

(4)

فالخوف والرجاء لابد أن يكونا في قلب المؤمن فهما متفقان لا ينفك

(1)

التخويف من النار (ص 25).

(2)

المصدر السابق (ص 25).

(3)

سورة الأعراف آية (56).

(4)

سورة الأنبياء آية (90).

ص: 356

أحدهما عن الآخر، لأن انفراد الخوف يخاف منه القنوط واليأس، وانفراد الرجاء قد يؤدي إلى الجرأة على اقتراف المعاصي وترك الفرائض ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو يعلم المؤمن بما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد"

(1)

.

والواجب على المسلم الذي يريد النجاة وسلوك الطريق المستقيم أن يكون بين الخوف والرجاء، لأن خوفه من الله عز وجل يمنعه من معصيته ورجائه من الله يورث الطمأنينة في قلبه، فهو يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه، ولا يفرط في الرجاء فيكون حاله مثل حال المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، ولا يغلو في الخوف فيقنط من رحمة الله ومغفرته وعفوه حاله مثل حال الخوارج والمعتزلة الذين يقولون أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في نار جهنم إذا مات ولم يتب، وخير الأمور الوسط وهو ما دلت عليه النصوص الكثيرة على حد قوله تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}

(2)

.

3 -

التوكل

التوكل على الله تبارك وتعالى عبادة عظيمة تعبد الله به عباده وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه، لأنه من أفضل العبادات ومن أجل مقامات الدين، ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنين وقد فرضه الله عز وجل على عباده حيث أمر به في مواضع كثيرة من كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب الرجاء والخوف (11/ 301) ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (4/ 2109).

(2)

سورة الإسراء آية (57).

(3)

سورة آل عمران آية (122).

ص: 357

وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(1)

.

وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}

(2)

.

وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}

(3)

.

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}

(4)

.

كما دلت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم على فضل التوكل وأنه من العبادات التي يجب إخلاصها لله وحده لا شريك له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بلا حساب ولا عذاب فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"

(5)

.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا"

(6)

.

فهذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على فضل التوكل على الله ووجوب إخلاصه له وحده لا شريك له.

(1)

سورة المائدة آية (23).

(2)

سورة النمل آية (79).

(3)

سورة الفرقان آية (58).

(4)

سورة هود آية (123).

(5)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير (7/ 198) ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/ 197).

(6)

أخرجه أحمد (1/ 30) والترمذي: كتاب الزهد، باب في التوكل على الله (4/ 573) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/ 1394) والحاكم (4/ 318) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

ص: 358

وقد اهتم ابن رجب رحمه الله تعالى في بيان هذه العبادة العظيمة فقال رحمه الله تعالى في بيان حقيقة التوكل: وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ووكلت الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه

(1)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

(2)

(3)

وقال رحمه الله تعالى أيضًا:

فمن حقق التوكل على الله لم يكله إلى غيره، وتولاه بنفسه وحقيقة التوكل: مكيلة الأمور كلها إلى من هي بيده، فمن توكل على الله في هدايته وحراسته وتوفيقه وتأييده ونصره ورزقه وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولى الله مصالحه كلها، فإن الله تعالى هو ولي الذين آمنوا، وهذا هو حقيقة الوثوق برحمة الله فمن وثق برحمة ربه ولم يثق بغير رحمته فقد حقق التوكل على ربه في توفيقه، وتسديده، فهو جدير أن يتكفل الله بحفظه ولا يكله إلى نفسه

(4)

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "

وإنما المتوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده برزقه، وكفايته، فيصدق الله فيما ضمنه وثيق بقلبه ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق، من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به والرزق مقسوم لكل أحد، من بر

(1)

جامع العلوم والحكم (3/ 346).

(2)

سورة الطلاق آية (3).

(3)

نور الاقتباس (ص 110).

(4)

شرح حديث زيد "لبيك اللهم لبيك" ورقة (24).

ص: 359

وفاجر، ومؤمن وكافر كما قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}

(1)

هذا مع ضعف كثير من الدواب، وعجزها عن السعي في طلب الرزق قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}

(2)

فمادام العبد حيًا، فرزقه على الله وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب فمن توكل على الله لطلب الرزق، فقد جعل التوكل سببًا وكسبًا، ومن توكل عليه لثقته بضمانه فقد توكل عليه ثقة به وتصديقًا بوعده"

(3)

.

وقال رحمه الله تعالى في بيان ثمرة التوكل على الله عز وجل "واعلم أن ثمرة التوكل: الرضا بالقضاء، فمن وكل أموره إلى الله، ورضي بما يقضيه له ويختاره، فقد حقق التوكل"

(4)

.

كما بين رحمه الله تعالى أن مباشرة الأسباب والأخذ بها لا تنافي التوكل بل لا يصح التوكل إلا مع القيام بها وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد يقول رحمه الله في بيان هذا: "واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}

(5)

.

وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}

(6)

.

(1)

سورة هود آية (6).

(2)

سورة العنكبوت آية (60).

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 360).

(4)

المصدر السابق (3/ 361).

(5)

سورة النساء آية (71).

(6)

سورة الأنفال آية (60).

ص: 360

وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(1)

.

وقال سهل التستري:

(2)

من طعن في الحركة "يعني في السعي والكسب"، فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكسب سنته، من عمل على حاله فلا يتركن سنته.

ثم إن الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:

أحدهما: الطاعات التي أمر الله عباده بها، وجعلها سببًا للنجاة من النار ودخول الجنة، فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه، والاستعانة به عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك، استحق العقوبة في الدنيا والآخرة، شرعًا وقدرًا"

(3)

.

وقال أيضًا رحمه الله تعالى: "

وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقًا له، ولم يكن راضيًا بفوات حقه، فإن هذا عاجز مفرط، وفي مثل هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان

"

(4)

.

(1)

سورة الجمعة آية (10).

(2)

سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التستري الزاهد، قال الذهبي: له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، توفي سنة 283 هـ.

سير أعلام النبلاء (13/ 330) وشذرات الذهب (2/ 182).

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 347).

(4)

أخرجه مسلم: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4/ 2052).

ص: 361

وخرج الترمذي من حديث أنس قال: قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل"

(1)

.

وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعهما أفضل"

(2)

.

فقد بين ابن رجب رحمه الله تعالى في كلامه السابق أن التوكل على الله عز وجل لا يقتضي ترك الأخذ بالأسباب لأن التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها جلب المنافع، ودفع المضار، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وتعلق القلوب بها، والاعتماد عليها، لأن ذلك نقص في التوحيد يفضي بالعبد إلى الشرك، كما أن ترك الأسباب وعدم الأخذ بها وتعطيلها نقص في التوحيد وضعف في التوكل كما يدعيه الجهلة من المتصوفة وغيرهم من أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل، وأن حقيقة التوكل هي القعود وترك العمل.

هذا في الحقيقة عجز وتواكل لا توكل لأنه ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه.

فمن ترك العمل وقعد عن البحث عن مصادر الرزق التي أحلها الله عز وجل بحجة التوكل فقد جهل معنى التوكل بل جهل جانبًا من مفهوم

(1)

أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة (4/ 668) وابن حبان كما في موارد الظمآن (633) من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه.

قال العراقي: رواه ابن خزيمة في التوكل، والطبراني من حديث عمرو بن أمية الضمري بإسناد جيد. تخريج الإحياء (4/ 279) وقال المناوي في فيض القدير (2/ 8) إسناده صحيح. وقال الألباني: حديث حسن.

صحيح الجامع (2/ 241).

(2)

جامع العلوم والحكم (3/ 358، 359).

ص: 362

هذا الدين العظيم، فالعجز والتواكل والتكاسل له آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، ومن بعض هذه الآثار تفشي الفقر والبطالة في المجتمعات الإسلامية، وهذا يناقض أهداف الإسلام.

فترك العمل سبيل للتخلف والضعف والهوان، والإسلام دين العزة والمنعة.

4 -

الاستعانة

الاستعانة: طلب العون على قضاء الحاجات، ودفع المكروهات، وهي نوع من أنواع العبادة التي لا تصح إلا لله سبحانه وتعالى.

وقد تعبد الله سبحانه وتعالى بها عباده، وأرشدهم إلى الاستعانة به وحده دون سواه كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذه الآية: "هذه الكلمة تجمع سر الكتب المنزلة من السماء كلها لأن الخلق إنما خلقوا ليؤمروا بالعبادة

وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حق الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده لأن العبادة حق الله على عبده والإعانة من الله فضل من الله على عبده

(2)

.

وأوصى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بها في قوله في الحديث "

وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله

"

(3)

.

(1)

سورة الفاتحة آية (5).

(2)

فتح الباري ورقة (4/ 449 - 500).

(3)

هذا جزء من حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس تقدم تخريجه (ص 161).

ص: 363

وهذه العبادة من العبادات التي تناولها ابن رجب رحمه الله تعالى وبين معناها وأدلتها.

فقال رحمه الله تعالى: "وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول:(لا حول ولا قوة إلا بالله) فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البررخ يوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"

(1)

ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى ما استعان به، فصار مخذولًا

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات، وفي الصبر على المقدورات كما قال يعقوب عليه السلام لنبيه:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}

(3)

ولهذا قالت عائشة هذه الكلمة لما قال أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوه.

(1)

تقدم تخريجه (ص 361).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 100، 101).

(3)

سورة يوسف آية (18).

ص: 364

وقال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}

(1)

.

وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}

(2)

.

ولما بشر عثمان بالجنة على بلوى تصيبه قال: "الله المستعان"

(3)

فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في مصالح دينه، وفي مصالح دنياه

(4)

وقال رحمه الله تعالى أيضًا في بيان أهمية الاستعانة بالله: "وفي الاستعانة بالله وحده فائدتان:

إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات.

والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"

(5)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا: "الحمد لله نستعينه ونستهديه"

(6)

.

وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: "اللهم

(1)

سورة الأعراف آية (128).

(2)

سورة الأنبياء آية (112).

(3)

أخرجه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان رضي الله عنه (4/ 1867).

(4)

نور الاقتباس (ص 73، 74).

(5)

سبق تخريجه (ص 361).

(6)

هذا جزء من الحديث المسمى بخطبة الحاجة وقد تقدم تخريجه (ص 8).

ص: 365

أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"

(1)

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم "يا رب أعني ولا تعن علي

(2)

(3)

".

5 -

الخشوع

الخشوع لله سبحانه وتعالى هو التذلل والخضوع له عز وجل.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى في تعريف الخشوع: "أصل الخشوع هو لين القلب ورقته أو سكونه وخضوعه وانكساره، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"

(4)

.

فإذا خشع القلب، خشع السمع والبصر والرأس، والوجه وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة:"خشع لك سمعي وبصري ومخطي وعظمي"

(5)

وفي

(1)

أخرجه أحمد (5/ 244) وأبو داود: كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (2/ 181) والنسائي: كتاب الذكر بعد الدعاء (3/ 53) والطبراني في الكبير (20/ 60) والحاكم (1/ 273) وقال: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 227) والبخاري في الأدب المفرد (ص 226) وأبو داود: كتاب الصلاة، باب ماذا يقول الرجل إذا سلم (2/ 175) وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/ 1259) والترمذي: كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 554) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم (1/ 520) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(3)

نور الاقتباس (ص 72، 73).

(4)

هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/ 19) ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1220).

(5)

أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/ 535).

ص: 366

رواية "وما استقل به قدمي"

(1)

.

وقد وصف الله تعالى في كتابه الأرض بالخشوع فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}

(2)

فاهتزازها وربوها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدل على أن الخشوع الذي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها فكذلك القلب إذا، فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة التي تنشأ من إتباع الهوى وينكسر وينخضع لله، فيزول بذلك ما كان فيه من التعاظم والترفع والتكبر ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}

(3)

فخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها.

وكذلك وصف وجوه الكفار وأبصارهم يوم القيامة بالخشوع فدل ذلك على دخول الخشوع في هذه الأعضاء كلها

(4)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وأصل الخشوع الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله. وكماله، فمن كان بالله أعرف فهو له أخشع"

(5)

.

كما بين رحمه الله تعالى أن الخشوع لله عز وجل من صفات المؤمنين وأن الله سبحانه وتعالى تعبدهم به فقال: "إن الله سبحانه وتعالى

(1)

بهذه الزيادة أخرجه أحمد، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، المسند تحقيق أحمد شاكر (2/ 199).

(2)

سورة فصلت آية (39).

(3)

سورة طه آية (108).

(4)

الخشوع في الصلاة (ص 11 - 13).

(5)

المصدر السابق (ص 14).

ص: 367

مدح في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته، الخاضعين والخاشعين له، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}

(1)

.

وقال: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

(2)

.

ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي عليها يحافظون فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}

(3)

.

ووصف الذين أوتوا العلم بالخشوع حيث يكون كلامه مسموعًا، فقال:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}

(4)

ووصف الله سبحانه في كتابه العلماء بالخشية كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(5)

وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}

(6)

ووصف العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}

(7)

وقوله تعالى في وصف هؤلاء

(1)

سورة الأنبياء آية (90).

(2)

سورة الأحزاب آية (35).

(3)

سورة المؤمنون آية (1، 2).

(4)

سورة الإسراء آية (107 - 109).

(5)

سورة فاطر آية (28).

(6)

سورة الزمر آية (9).

(7)

سورة الإسراء آية (107 - 109).

ص: 368

الذين أوتوا العلم ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}

(1)

.

وليس القلوب هو زوال قساوتها لحديث الخشوع، وقد قبح الله من لا يخشع قلبه لسماع كتاب الله وتدبره، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا}

(2)

الآية.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين" خرجه مسلم

(3)

وخرجه النسائي

(4)

وزاد فيه: "فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا"

وخرج ابن ماجه

(5)

من حديث الزبير رضي الله عنه قال: "لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين

"

(6)

.

كما أشار رحمه الله تعالى إلى أن الإنسان إذا تصنع الخشوع وتكلفه فإن ذلك خشوع نفاق وليس خشوعًا لله تبارك وتعالى، يقول في بيان ذلك:"ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه كان ذلك خشوع نفاق، وهو الذي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق،

(1)

سورة الزمر آية (22، 23).

(2)

سورة الحديد آية (16).

(3)

أخرجه مسلم: كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (4/ 2319).

(4)

السنن الكبرى: كتاب التفسير كما في تحفة الأشراف للمزي (7/ 70).

(5)

السنن: كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء (4192).

(6)

الخشوع في الصلاة (ص 11، 18).

ص: 369

قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع

"

(1)

فمن أظهر خشوعًا غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق"

(2)

.

فابن رجب رحمه الله تعالى في كلامه السابق يبين أن خشوع المؤمن خشوع صادر عن قلب مؤمن مخلص ملتزم بأوامر الله مجتنب نواهيه، قلب ملئ بنور الإيمان والتعظيم لله سبحانه وتعالى، والحياء والخوف منه عز وجل، قلب خاضع متذلل بين يدي الله تبارك وتعالى يرجوه عفوه ويخاف عقابه، بأنه قلب حي بذكر الله وتسبيحه وتحميده، أما خشوع المنافق فهو خشوع صادر عن قلب مظلم لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، قلب يظهر على جوارح صاحبه التصنع والتكلف حتى يستر سواد قلبه، لأنه قلب لم يستضئ بنور الإيمان، ولم يذق حلاوته وطعمه.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الفرق بين خشوع الإيمان

(1)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (46) وابن أبي شيبة في المصنف (14/ 95) وأحمد في الزهد (176) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 364) كلهم ذكروه من قول أبي الدرداء رضي الله عنه.

وذكره البغوي في شرح السنة (14/ 327) من قول أبي هريرة رضي الله عنه، كما ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه بلفظ:"تعوذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: يا رسول الله وما خشوع النفاق؟ قال: خشوع البدن ونفاق القلب" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 364) قال العراقي في تخريج الإحياء (4/ 331) وفيه الحارث بن عبيد الأيادي ضعفه أحمد وابن معين.

وأخرجه أيضًا ابن عدي في الكامل (3/ 1293) في ترجمة سوار بن مصعب الهمذاني، وقال: ولسوار غير ما ذكرت من الحديث وعامة ما يرويه ليست محفوظة وهو ضعيف كما ذكروه.

(2)

الخشوع في الصلاة (ص 13، 14).

ص: 370

وخشوع النفاق أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله

أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعًا وتكلفًا والقلب غير خاشع، فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوة النفس للخوف والوقار الذي خشي به، وخمدت الجوارح وتوقر القلب وأطمئن إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتًا له، وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعًا ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات فهو يتخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة"

(1)

.

6 -

المحبة

دلت الأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة على وجوب محبة الله سبحانه وتعالى وتقديم محبته سبحانه وتعالى على سائر المحاب.

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}

(2)

.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}

(3)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث

(1)

الروح لابن القيم (2/ 694، 695).

(2)

سورة آل عمران آية (31).

(3)

سورة التوبة آية (24).

ص: 371

من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين"

(2)

.

وفيهما أيضًا عنه رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم "متى الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"

(3)

.

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على أن المحبة نوع من أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله وحده دون سواه وقد تكلم ابن رجب رحمه الله تعالى عن هذا النوع من العبادة وبين أهميته وما يتعلق به من المسائل.

فقال رحمه الله تعالى في أهمية هذا النوع من العبادة: "فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام، لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله تعالى وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض

(1)

تقدم تخريجه (ص 332).

(2)

تقدم تخريجه (ص 332).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله (7/ 113) ومسلم: كتاب البر والصلة، باب المرء مع من يحب (4/ 2032).

ص: 372

الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هم إلا في الله، وفيما يرضيه به"

(1)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة"

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "فإذا كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد، نشأت عنه حركات الجوارح، فكانت تحب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحب ما يحبه الله عز وجل من الأعمال والأقوال كلها

(3)

.

كما بين رحمه الله تعالى درجات محبة الله عز وجل فقال: "ومحبة الله تعالى على درجتين:

إحداهما: فرض لازم وهي أن يحب الله سبحانه محبة توجب له محبة ما فرضه الله عليه وبغض ما حرمه عليه، ومحبة لرسوله المبلغ عنه أمره ونهيه وتقديم محبته على النفوس والأهلين

والرضا بما بلغه

(1)

جامع العلوم والحكم (3/ 168، 169).

(2)

المصدر السابق (3/ 223 - 225).

(3)

اختيار الأولى (ص 124).

ص: 373

عن الله من الدين، وتلقي ذلك بالرضا والتسليم، ومحبة الأنبياء والرسل والمتبعين لهم بإحسان جملة وعمومًا لله عز وجل، وبغض الكفار والفجار جملة وعمومًا لله عز وجل، وهذا القدر لابد منه في تمام الإيمان الواجب، ومن أخل بشيء منه فقد نقص من إيمانه الواجب بحسب ذلك، قال الله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

(1)

.

وكذلك ينقص من محبته الواجبة بحسب ما أخل به من ذلك، فإن المحبة الواجبة تقتضي فعل الواجبات وترك المحرمات

الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين وهي أن ترتقي المحبة إلى محبة ما يحبه الله من نوافل الطاعات، وكراهة ما يكرهه من دقائق المكروهات وإلى الرضا بما يقدره ويقتضيه مما يؤلم النفوس من المصائب، وهذا فضل

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته

(2)

(3)

(1)

سورة النساء آية (65).

(2)

تقدم تخريجه (ص 168).

(3)

استنشاق نسيم الأنس (ص 4) وما بعدها، وانظر: اختيار الأولى (ص 115 - 118).

ص: 374

كما أوضح رحمه الله تعالى أن من لوازم محبة الله تعالى محبة أوليائه، ، ومحبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال، فقال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء "وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك

"

(1)

.

قال: "ولما كانت محبة الله عز وجل لها لوازم، وهي محبة ما يحبه الله عز وجل من الأشخاص والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، سأل النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى مع محبته محبة شيئين آخرين:

إحداهما: محبة من يحب ما يحب الله تعالى، فإن من أحب الله أحب أحباءه فيه، ووالاهم، وأبغض أعداءه وعاداهم، وأعظم من تجب محبته في الله تعالى أنبياؤه ورسله، وأعظمهم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي افترض الله على الخلق كلهم متابعته، وجعل متابعته علامة لصحة محبته كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}

(2)

.

وتوعد من قدم محبة شيء من المخلوقين على محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الجهاد في سبيله في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ}

(3)

الآية.

ووصف المحبين له باللين للمؤمنين والرأفة والرحمة والمحبة لهم، والشدة على الكافرين والبغض لهم، والجهاد في سبيله فقال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ}

(4)

الآية.

(1)

تقدم تخريجه (ص 190) وهو حديث اختصام الملأ الأعلى.

(2)

سورة آل عمران آية (31).

(3)

سورة التوبة آية (24).

(4)

سورة المائدة آية (54).

ص: 375

والثاني: محبة ما يحبه الله تعالى من الأعمال، وبها تبلغ إلى حبه، وفي هذا إشارة إلى أن درجة المحبة لله تعالى إنما تنال بطاعة الله وبفعل ما يحبه، فإذا امتثل العبد أوامر مولاه وفعل ما يحبه أحبه الله تعالى ورقاه إلى درجة محبته كما في الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري

(1)

: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه

"

(2)

.

كما أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى لعبده فقال: "أفضل ما تستجلب به محبة الله عز وجل فعل الواجبات وترك المحرمات، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات وجدان حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار

ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات وترك دقائق المكروهات والمشتبهات

ومن أعظم ما يحصل به محبة الله تعالى من النوافل تلاوة القرآن خصوصًا مع التدبر

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لمن قال: إني أحب سورة (قل هو الله أحد) لأنها صفة الرحمن، فقال: "أخبروه أن الله يحبه

"

(3)

.

ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى -وهي أعظم علامات المحبين كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان

ومن علامات المحبين لله وهو ما يحصل به المحبة أيضًا حب الخلوة بمناجات الله تعالى وخصوصًا في ظلمة الليل

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 168).

(2)

اختيار الأولى (ص 119) وما بعدها.

(3)

تقدم تخريجه (ص 226).

(4)

اختيار الأولى (ص 121) وما بعدها، وانظر: جامع العلوم والحكم (3/ 162، 163).

ص: 376

كما أوضح الله تعالى أن المحبة وحدها لا تكفي بل لابد معها من الخوف والرجاء وهذه هي أصول العبادة التي تبنى عليها قال رحمه الله تعالى في بيان ذلك: "إن العبادة إنما تبنى على ثلاثة أصول: الخوف والرجاء والمحبة، وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب، فلهذا كان السلف يذمون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرين، فإن بدع الخوارج، ومن أشبههم إنما حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء، وبدع المرجئة

(1)

نشأت من التعلق بالرجاء وحده، والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول ممن ينسبون إلى التعبد نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء

(2)

.

كما رد رحمه الله تعالى على من انحرف بالمحبة عن معناها الصحيح إلى معان أخرى بعيدة عن دلالات الكتاب والسنة فقال: "وقد كثر في المتأخرين المنتسبين إلى السلوك تجريد الكلام في المحبة وتوسيع القول فيها بما لا يساوي على الحقيقة مثقال حبة إذ هو عار عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وخال من ذكر كلام من سلف من سلف الأمة وأعيان الأئمة وإنما هو مجرد دعاوي قد تشرف بأصحابها على مهاوي، وربما أستشهد وبأشعار عشاق الصور، وفي ذلك ما فيه من عظيم

(1)

الإرجاء له معنيان أحدهما: بمعنى التأخير، وسمي المرجئة بهذا المعنى لأنهم يؤخرون الأعمال عن النية والعقد في الإيمان، والمعنى الثاني: الإرجاء بمعنى إعطاء الرجاء وسموا مرجئة بهذا المعنى لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. والمرجئة أصناف وفرق كثيرة منهم الغلاة كالجهمية، ومنهم دون ذلك ويجمعهم القول بأن الأعمال ليست من الإيمان.

مقالات الإسلاميين (2/ 213) والفصل في الملل والنحل (5/ 73)

الملل والنحل (1/ 139).

(2)

لطائف المعارف (ص 4).

ص: 377

الخطر، وقد يحكمون حكايات العشاق ويشيرون إلى التأدب بما سلكوه من الآداب والأخلاق، وكل هذا ضرر عظيم، وخطره جسيم وقد يكثر ذكر المحبة ويعيدها ويبديها من هو بعيد عن التلبس بمقدماتها ومبادئها

(1)

.

ويقول رحمه الله تعالى: ومن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه، والزلفى لديه، والحظ عنده كما قال الله تعالى:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(2)

.

ففي هذه الآية إشارة إلى أن من أعرض عن حبنا، وتولى عن قربنا ولم يبال، استبدلنا به عن هو أولى بهذه المنحة منه وأحق فمن أعرض عن الله فما له عن الله بدل، ولله منه أبدال

ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والغلظة لهم، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وبغضوا أعداءه الذين يعادونه، فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}

(3)

.

فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب

(4)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "حذر طوائف من العلماء ممن يكثر

(1)

لطائف المعارف (ص 4).

(2)

سورة المائدة آية (54).

(3)

سورة الفتح آية (29).

(4)

جامع العلوم والحكم (3/ 157 - 159).

ص: 378

دعوى الشوق والمحبة لما ظهر منهم من الشطح والدعاوي، بل والإباحة والحلول وغير ذلك من المفاسد

وكان بعض هؤلاء يقول: إذا لم أجن بك يا حبيبي فبمن؟ ومن هؤلاء من كان يسمى مجنونًا

ويسمون عقلاء المجانين، وكانت أقوالهم وأفعالهم محفوظة غالبًا، ويصدر منهم من الكلام الحسن شيء كثير، وقد غلط طوائف من المتأخرين في أمرهم فظنوا أن حالهم هو غاية الكمال

وهذا خطأ قبيح جدًا، ثم أدخلوا في طبقتهم من ليس منهم من المجانين الذين لا حكمة لديهم، ولا ظهر شيء من الأحوال الصحيحة عليهم وإنما يظهر منهم مخالفة الشريعة بالأَعمال والأقوال الشنيعة، ولكن أحسنوا الظن بهم لما يظهر من بعضهم من الأخبار بالمغيبات في بعض الأحيان مما قد أكثر منه من الرهبان والكهان، ونشأ بهذا السبب اعتقاد أن الأولياء لهم طريقة غير طريقة الأنبياء، وأنهم واقفون مع الحقيقة ولا يتقيدون بالشريعة، إلى غير ذلك من أنواع الضلال والبدع الفظيعة

(1)

.

كما بين رحمه الله تعالى أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله عز وجل لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بمحبته وطاعته وأنه لا تتم محبة الله سبحانه وتعالى إلا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه وطاعته فقال: إن محبة الرسول إنما هي تابعة لمحبة الله جل وعلا، فإن الرسول إنما يحب موافقة لمحبة الله له، ولأمر الله بمحبته وطاعته واتباعه

"

(2)

.

وقال: "وقد قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}

(3)

وكذلك ورد في السنة في أحاديث كثيرة جدًا

والمراد

(1)

استنشاق نسيم الأنس (ص 97) وما بعدها.

(2)

المصدر السابق (ص 8).

(3)

سورة التوبة آية (24).

ص: 379

أن الله تعالى لا يوصل إليها إلا عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم باتباعه وطاعته

ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين:

إحداهما: فرض وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الإتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لابد منه ولا يتم الإيمان بدون.

والدرجة الثانية: فضل وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه، وكثرة الصلاة عليه وتعظيمه وتوقيره ومحبة استماع كلامه وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين، ومن أعظم ذلك الاقتداء به في زهده في الدنيا والاجتزاء باليسير منها ورغبته في الآخرة"

(1)

.

(1)

استنشاق نسيم الأنس (ص 34، 35) وانظر فتح الباري (1/ 48).

ص: 380