الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس الصراط
الصراط جسر منصوب على متن جهنم ويمر الناس عليه إلى الجنة على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم، فمن مر على الصراط دخل الجنة.
وقد وردت أحاديث كثيرة فيها ذكر الصراط وصفته وصفة المرور عليه وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى هذه الأحاديث في كتاب التخويف من النار حيث عقد بابًا قال فيه: الباب السادس والعشرون في ضرب الصراط على متن جهنم ومرور الموحدين عليه
(1)
.
ثم شرع في ذكر الأحاديث الواردة في ذكر الصراط وصفته وصفة المرور عليه.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال فيه: "
…
ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون: اللهم سلم سلم" قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: "دحض
(1)
التخويف من النار (ص 228).
مَزِلة"
(1)
فيه خطاطيف وكلاليب وحسك
(2)
تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب
(3)
، فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس
(4)
على وجهه في النار"
(5)
.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه قال: "ويضرب الجسر بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزه ولا يتكلم في ذلك اليوم إلا الرسل، ودعوة الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المُوْبَق
(6)
بعمله، ومنهم المجازي حين يُنَجّى
…
"
(7)
.
(1)
مَزِلة: بفتح الميم وكسر الزاي، والدحض والمزلة بمعنى واحد وهو المكان الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر.
النهاية لابن الأثير (2/ 310) والمصباح المنير (1/ 254).
(2)
حسك: جمع حسكة وهي شوكة صلبة.
النهاية لابن الأثير (1/ 386).
(3)
الأجاويد: جمع أجواد وهو جمع جواد، وهو الجيد الجري من المطي. والركاب: هي الإبل.
النهاية لابن الأثير (1/ 312).
(4)
مكدوس: الكدس الدفع، وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط.
النهاية لابن الأثير (4/ 155).
(5)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد (8/ 181) ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (1/ 167).
(6)
الموبق: المهلك، يقال: وَبَق يَبِق، ووَبِق يَوْبَق فهو وَبِق إذا هلك.
النهاية لابن الأثير (5/ 146).
(7)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم (7/ 205) ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الرؤية (1/ 164).
ومنها حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه قال: "
…
فيأتون محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فيقوم ويؤذن له وترسل معه الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم" ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول: "رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زخفًا" قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب مُعَلَّقَةٌ مأمورة بأخذ من أُمِرت بأخذه، فمخدوش ناج ومكدوس في النار"
(1)
.
ومنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثًا طويلًا وفيه قال: "والصراط كحد السيف دحض مَزِلة، قال: فيقولون: انجو على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأشد الرجال، ويرمل رملًا، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدميه تخرّ يد وتتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل فتصيب جوانبه النار"
(2)
.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في ذكر الصراط وصفته وصفة المرور عليه، وما ذكرته من الأحاديث هو طرف من الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى.
وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة فهم عندما يعرضون للكلام عن
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 187).
(2)
أخرجه الحاكم (2/ 376) وقال: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.
الصراط يذكرون هذه الأحاديث التي فيها ذكر الصراط وصفته وكيفية المرور عليه ويؤمنون بها.
وصفة الصراط والمرور عليه لم يخالف فيها إلا أهل البدع والأهواء الذين فسروا هذه الأحاديث بتفسيرات باطلة تخالف دلالات هذه النصوص وما قرره علماء أهل السنة والجماعة.
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى أن المشركين يتبعون آلهتهم التي عبدوها من دون الله فتسير بهم تلك الآلهة حتى تهوى بهم في نار جهنم، ولا يمر على الصراط إلا المؤمنون وفيهم المنافقون وعصاة المؤمنين.
قال رحمه الله تعالى: "واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط، ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع الشمس من يعبدها، ويتبع القمر من يعبد القمر، ويتبع الطواغيت من يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقون" فذكر الحديث إلى أن قال:"ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزه"
(1)
.
وفيهما أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى
(1)
تقدم تخريجه (ص 198).
اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار ثم يدعي النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر آتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا -مرتين أو ثلاثًا- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفون بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم
…
"
(1)
.
فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح والعزير من أهل الكتاب فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط إلا أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك
(1)
تقدم تخريجه (ص 198).
من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولًا، وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى في شأن فرعون:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)}
(1)
وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء ثم يردون النار بعد ذلك.
وقد ورد في حديث آخر: أن من كان يعبد المسيح يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه، وكذلك من كان يعبد العزير، وفي حديث الصور أنه يمثل لهم ملك على صورة المسيح وملك على صورة العزير، ولا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر سواء كان صادقًا أو منافقًا من هذه الأمة وغيرها، ثم يتميز المنافقون عن المؤمنين بامتناعهم من السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم للمؤمنين"
(2)
.
كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى أن من استقام على الطريق المستقيم سلم من النار واستقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم قال رحمه الله: "إن الإيمان والعمل الصالح في الدنيا هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا ظاهرًا وباطنًا استقام مشيه على ذلك الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا بل انحرف عنه إما إلى فتنة الشبهات أو إلى فتنة الشهوات كان اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن هذا
(1)
سورة هود آية (98).
(2)
التخويف من النار (ص 186) وما بعدها.
الصراط المستقيم كما في حديث أبي هريرة: "إنها تخطف الناس بأعمالهم"
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وإذا طهر المؤمن من ذنوبه، لم يجد حر النار إذا مر عليها يوم القيامة لأن وجدان الناس لحرها عند المرور عليها بحسب ذنوبهم، فمن طهر من الذنوب ونقى منها في الدنيا جاز على الصراط كالبرق الخاطف والريح لم يجد شيئًا من حر النار ولم يحس بها
…
"
(2)
.
(1)
التخويف من النار (ص 74).
(2)
لطائف المعارف (ص 340).