الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس حكم البدع وأهلها
البدع كلها مضادة للشارع ومراغمة له حيث أن المبتدع نصب نفسه منصب المستدرك على شرع الله عز وجل، ولهذا كانت البدعة مذمومة بكل حال، لأن النصوص الواردة في البدع بينت أن كل بدعة ضلالة وأن عمل المبتدع مردود عليه، وعلى هذا فالإبتداع في الدين حرام سواء كان ذلك في العبادات أو الاعتقادات قال ابن رجب رحمه الله تعالى في بيان هذا فقوله صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة"
(1)
من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"
(2)
فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة
(3)
.
أما المبتدعة الذين يحدثون البدع فهم مفترون على الله عز وجل لأن أحداثهم للبدع يفهم منه أن الله سبحانه وتعالى لم يكمل هذا الدين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ كل ما أوحي إليه حتى جاء هؤلاء المبتدعة
(1)
تقدم تخريجه (ص 419).
(2)
تقدم تخريجه (ص 382).
(3)
جامع العلوم والحكم (3/ 291).
فأكملوا الشرع بما أحدثوه من ضلالات زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله عز وجل، وهذا خطر عظيم واعتراض على رب العالمين سبحانه وتعالى، واتهام للدين بالنقص، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة والكتمان، وهذا كله باطل لا شك فيه، فالله سبحانه وتعالى قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(1)
.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أوحي إليه بلاغًا مبينًا لم يترك طريقًا للخير يقربنا إلى الله عز وجل إلا ودلنا عليه، ولا طريقًا يبعد عن الله عز وجل إلا وحذرنا منه ولذا تقول عائشة رضي الله عنها لمسروق
(2)
رحمه الله تعالى كما في صحيح مسلم
(3)
"ثلاث من تكلم بواحدة منها فقد أعظم على الله الفرية" وذكرت منها: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
(4)
.
فلو كانت البدع التي أحدثها المبتدعة من الدين الذي أتمه الله علينا ورضيه لنا دينًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته إما بقوله أو فعله، فلما لم يبين ذلك دلّ على أن ما أحدثه هؤلاء ليس من الدين في شيء، وقد تكلم
(1)
سورة المائدة آية (3).
(2)
الإمام العلم أبو عائشة مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الوادعي الهمداني، من كبار التابعين.
قال يحيي بن معين: مسروق ثقة، لا يسأل عن مثله، توفي رحمه الله سنة 63 هـ.
الجرح والتعديل (8/ 396) وتذكرة الحفاظ (1/ 49) وتهذيب التهذيب (10/ 109).
(3)
صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1/ 159).
(4)
سورة المائدة آية (67).
ابن رجب رحمه الله تعالى عن هذا كله فقال: "أهل الأهواء والبدع كلهم مفترون على الله، وبدعتهم تتغلظ بحسب كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله، وحلل ما حرمه الله مفتريًا عليه الكذب، فمن قال على الله ما لا يعلم فقد افترى عليه الكذب ومن نسب إلى الله ما لا يجوز نسبته إليه من تمثيل أو تعطيل، أو كذب بأقداره فقد افترى على الله الكذب، وقد قال الله عز وجل:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
" قال سفيان: الفتنة أن يطبع الله على قلوبهم
(2)
.
فلهذا تغلظت عقوبة المبتدع على عقوبة العاصي، لأن المبتدع مفتر على الله، مخالف لأمر رسوله لأجل هواه
(3)
.
فالبدع كلها شر وضلالة، ومحادة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يكون أهل الأهواء والبدع ممن حيل بينهم وبين التوبة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة"
(4)
.
(1)
سورة النور آية (63).
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 232) وعزاه لعبد بن حميد.
(3)
الحكم الجديرة بالإذاعة (ص 43، 44).
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 21) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 449) والطبراني في الأوسط (4360) وابن وضاح في البدع والنهي عنها (55) والهروي في ذم الكلام وأهله (5/ 99/ ب)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 86) رواه الطبراني وإسناده حسن. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 189) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة، وقد تكلم عن هذا الحديث وطرقه العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (1620).
فهذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى حجب التوبة أمام المبتدع، فلا يقبل له توبة، ذلك لأن المبتدع يرى أن عمله دين يتقرب به إلى الله عز وجل فلا يتوب منه ولا يرجع عنه وهذا بخلاف العاصي فإن العاصي يفعل المعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن معني حديث أنس السابق فقال: "لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب مادام يراه حسنًا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فمادام يرى فعله حسنًا وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة واقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)}
(2)
(3)
(4)
.
(1)
غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للسفاريني (2/ 582).
(2)
سورة محمد آية (17).
(3)
سورة النساء آية (66 - 68).
(4)
سورة الحديد آية (28).
وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه مادام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/ 9، 10).
(2)
المصدر السابق (11/ 684، 685).