الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس حكم تمنّي الموت وعلاقته بالقضاء والقدر
تكلّم ابن رجب رحمه الله تعالى عن حكم تمنّي الموت في عدة مواضع من كتبه، وبين أن تمنّي الموت خشية الفتنة جائز، وقد دعا به الصحابة رضي الله عنهم والصالحون من بعدهم.
يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم"
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: ". . .وأمّا تمنّي الموت خوف فتنة، فإنه يجوز بلا خلاف"
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا في معرض ذكر وجوه تمنّي الموت: "ومنها تمنّيه خوف الفتنة في الدين فيجوز حينئذ، وقد تمنّاه ودعا به خشية فتنة الدين خلق من الصحابة وأئمّة الإسلام"
(3)
.
فقد بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى في كلامه السابق أن تمنّي الموت خشية الفتنة جائز، وما قرّره ابن رجب رحمه الله تعالى في هذه المسألة قد ورد ما يدلّ عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه عن مريم أنها تمنّت
(1)
اختيار الأَوْلى (ص 107).
(2)
شرح حديث زيد: "لبيك اللهمّ لبّيك" ورقة (7).
(3)
لطائف المعارف (ص 308).
الموت؛ كما قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: "فيه دليل على جواز تمنّي الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدّقونها في خبرها وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، أي قبل هذا الحال {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}، أي لم أخلق ولم أك شيئًا"
(2)
.
وقال أيضًا رحمه الله في موضع آخر: "وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت؛ كما قال الله تعالى أخبارًا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهدّدهم بالقتل، قالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}
(3)
، وقالت مريم لما جاءها المخاض وهو الطلق إلى جذع النخلة:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}
(4)
، لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة، لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت"
(5)
.
وقال القرطبي في التذكرة -باب جواز تمنّي الموت والدعاء به خوف ذهاب الدين- قال الله عز وجل مخبرًا عن يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
(6)
، وعن مريم عليها السلام في قولها:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (4).
(1)
سورة مريم، آية (23).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 116، 117).
(3)
سورة الأعراف، آية (126).
(4)
سورة مريم، آية (23).
(5)
تفسير ابن كثير (2/ 492).
(6)
سورة يوسف، آية (101).
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه"
(1)
.
قلت: لا تعارض بين هذه الترجمة والتي قبلها لما نبيّنه. أمّا يوسف عليه السلام، فقال قتادة: لم يتمنّ الموت أحد نبيّ ولا غيره إلّا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربّه عز وجل، فقال:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي}
(2)
، فاشتاق إلى لقاء ربّه عز وجل، وقيل: إن يوسف عليه السلام لم يتمنّ الموت وإنّما تمنّى الموافاة على الإسلام، أي إذا جاء أجلي توفّني مسلمًا، وهذا القول هو المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل، والله أعلم.
وأمّا مريم عليها السلام، فإنما تمنّت الموت لوجهين:
أحدهما: أنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها وتعيّر، فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلّا يقع قوم بسببها في البهتان والزور والنسبة إلى الزّنا، وذلك مهلك لهم. . . فعلى هذا الحد الذي ذكرناه. . . يكون تمنّي الموت في حقها جائزًا، والله أعلم.
وأمّا الحديث، فإنما هو خبر أن ذلك سيكون لشدّة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين، وضعفه وخوف ذهابه، لا لضرّ ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك من ذهاب ماله مما يحطّ به عنه خطاياه
(3)
.
كما دلّ على جواز تمنّي الموت خشية الفتنة في الدين أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الفتن (8/ 100)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة (4/ 2231).
(2)
سورة يوسف، آية (101).
(3)
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 12، 13).
منها: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا أردت فتنة في قوم فتوفّني غير مفتون"
(1)
.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرًا لي. . ."
(2)
.
بهذا يتبيّن أن تمنّي الموت خشية الفتنة في الدين جائز.
وعلاقة هذه المسألة بمبحث القضاء والقدر أن تمنّي الموت خشية الفتنة في الدين ليس فيه تسخط وتضجّر مما قضاه الله سبحانه وتعالى وقدّره، وإنما هو طلب خير الأمرين. وأمّا تمنّي الموت خوف الضرر ونزول المكروه، فهذا فيه تسخط وتضجّر من قضاء الله وقدره الذي سبق به الكتاب، ولأجل هذا جاء النهي عن ذلك.
يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "ووجه كراهيته في هذه الحال -أي تمنّي الموت- أن المتمنّي للموت لضرّ نزل به إنما يتمنّاه تعجيلًا للإستراحة من ضرّه، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعلّه يصير إلى أعظم من ضرّه، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إنما يستريح من غفر له"
(3)
، فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلّا أن يشترط أن يكون خيرًا له عند الله عز وجل، فكذلك كل ما لا يعلم العبد فيه الخيرة له، كالغنى والفقر وغيرهما كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه الخيرة فيه، وإنما يسأل الله عز وجل الجزم والقطع مما يعلم أنه خير محض"
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 190).
(2)
تقدم تخريجه (ص 344).
(3)
أخرجه أحمد (6/ 69)، والبزار كما في كشف الأستار (2/ 374)، وقال الهيثمي في المجمع (2/ 330)، رواه البزار ورجاله ثقات.
(4)
لطائف المعارف (ص 308).