المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر - ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف

[عبد الله بن سليمان الغفيلي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌تقريظ فضيلة الشيخ: حماد بن محمد الأنصاري

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول حياة ابن رجب وآثاره العلمية

- ‌الفصل الأول العصر الذي عاش فيه ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الناحية السياسية

- ‌المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

- ‌المبحث الثالث الحالة العلمية

- ‌الفصل الثاني حياة ابن رجب الشخصية

- ‌المبحث الأول اسمه ونسبه

- ‌المبحث الثاني كنيته ولقبه

- ‌المبحث الثالث مولده

- ‌المبحث الرابع شهرته

- ‌المبحث الخامس أسرته

- ‌المبحث السادس أخلاقه وصفاته

- ‌المبحث السابع ابن رجب والتصوف

- ‌المبحث الثامن وفاته

- ‌الفصل الثالث حياته العلمية

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم

- ‌المبحث الثاني رحلاته في طلب العلم

- ‌المبحث الثالث شيوخه

- ‌ ترجمة لأشهر شيوخ ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌1 - ابن القيم:

- ‌2 - ابن الخباز:

- ‌3 - أبو سعيد العلائي:

- ‌المبحث الرابع تدريسه

- ‌المبحث الخامس تلاميذه

- ‌ تراجم لثلاثة من المشاهير منهم

- ‌1 - ابن الرسام:

- ‌2).2 -ابن اللحام:

- ‌3 - ابن سعيد الحنبلي:

- ‌المبحث السادس ثقافته ومؤلفاته

- ‌المبحث السابع عقيدته ومذهبه

- ‌1 - عقيدته:

- ‌2 - مذهبه:

- ‌المبحث الثامن مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌الباب الثاني أثر ابن رجب في توضيح عقيدة السلف في التوحيد وأنواعه ونواقضه

- ‌الفصل الأول تعريف التوحيد وبيان أنواعه والعلاقة بينها

- ‌المبحث الأول تعريف التوحيد لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف التوحيد شرعًا

- ‌المبحث الثالث أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع العلاقة بين أنواع التوحيد

- ‌الفصل الثاني توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الربوبية لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف توحيد الربوبية شرعًا

- ‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثالث توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني مذهب السلف في أسماء الله وصفاته وموقف ابن رجب منه

- ‌المبحث الثالث أدلة توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع بيانه أن السلف أعلم وأن مذهبهم أسلم وأحكم

- ‌المبحث الخامس بيانه أن سورة الإخلاص فيها صفة الرحمن

- ‌المبحث السادس بيانه أن الاشتراك في الاسم لا يقتضي الاشتراك في المسمى

- ‌المبحث السابع ذكر جملة من الصفات التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌المبحث الثامن شبهة والرد عليها

- ‌المبحث التاسع رده على المخالفين لمذهب السلف من المعطلة والمشبهة

- ‌المبحث العاشر تنزيه الله سبحانه وتعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث الحادي عشر علم الكلام وكلام ابن رجب عليه

- ‌الفصل الرابع توحيد الألوهية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني بيان معنى لا إله إلا الله وفضلها وشروطها

- ‌المطلب الأول بيان معنى كلمة إله

- ‌المطلب الثاني معنى لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثالث فضل لا إله إلا الله

- ‌المطلب الرابع الجمع بين أحاديث تدل على أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وأخرى تدل على أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله

- ‌المطلب الخامس شروط الانتفاع بـ (لا إله إلا الله)

- ‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

- ‌المبحث الرابع بيانه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين

- ‌الفصل الخامس نواقض التوحيد

- ‌المبحث الأول الشرك وكلام ابن رجب عليه

- ‌المطلب الأول تعريف الشرك لغة

- ‌المطلب الثاني الشرك في الشرع وبيان أقسامه

- ‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

- ‌المبحث الثالث البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الأول معنى البدعة في اللغة والشرع

- ‌المطلب الثاني أنواع البدع

- ‌المطلب الثالث الرد على محسني البدع وكلام ابن رجب في ذلك

- ‌المطلب الرابع نماذج من البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الخامس حكم البدع وأهلها

- ‌المبحث الرابع الغلو وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليه

- ‌المبحث الخامس مسائل متفرقة متعلقة بهذا الفصل

- ‌1 - التنجيم

- ‌2 - التطيّر والتشاؤم

- ‌3 - الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" وقوله: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله: "لا يورد ممرض على مصح

- ‌4 - معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث

- ‌5 - النهي عن البناء على القبور واتخاذها مساجد

- ‌6 - النهي عن سبّ الدهر

- ‌الباب الثالث أثره في توضيح عقيدة السلف في مباحث الإيمان وما يتعلق بها من مسائل

- ‌الفصل الأول معنى الإيمان وبيان أهميّته وما يتعلق به من مسائل

- ‌المبحث الأول تعريف الإيمان لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف الإيمان شرعًا

- ‌المبحث الثالث أهمية الإيمان

- ‌المبحث الرابع زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الخامس العلاقة بين مسمّى الإيمان والإسلام

- ‌المبحث السادس حكم مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث السابع مسألة تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة

- ‌الفصل الثاني الإيمان بالملائكة والكتب والرسل

- ‌المبحث الأول الإيمان بالملائكة والكتب

- ‌المطلب الأول الإيمان بالملائكة

- ‌المطلب الثاني الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الثاني تعريف النبيّ والرسول لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثالث معنى الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الرابع الغرض من بعثة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الخامس التفاضل بين الأنبياء

- ‌المبحث السادس بعض خصائص الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث السابع الإيمان بنبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن كلامه في دعوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث التاسع بيانه فضل إرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر النجاة والسعادة في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه

- ‌الفصل الثالث الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الأول تعريف القضاء والقدر

- ‌المبحث الثاني معنى الإيمان بالقضاء والقدر والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الثالث مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الرابع النهي عن الخوض في القدر

- ‌المبحث الخامس الرضا بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السادس حكم تمنّي الموت وعلاقته بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السابع القضاء والقدر وفعل الأسباب

- ‌المبحث الثامن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وبيان معنى حديث "فحج آدم موسى

- ‌الفصل الرابع الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الثاني الإيمان بأشراط الساعة

- ‌المبحث الثالث الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته

- ‌المبحث الرابع الأعمال التي يعذب أو ينعم بها العبد في القبر

- ‌المبحث الخامس مستقر الأرواح

- ‌المبحث السادس الصراط

- ‌المبحث السابع بيان المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

- ‌المبحث الثامن الشفاعة

- ‌المبحث التاسع الجنة ونعيمها

- ‌المبحث العاشر رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة

- ‌المبحث الحادي عشر النار وعذابها

- ‌المبحث الثاني عشر خلق الجنة والنار

- ‌المبحث الثالث عشر الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان الستة، وعقيدة من عقائد الإسلام الأساسية، وأصل عظيم من أصول الإيمان، إذ لا يصح إيمان أحد إلا بالإيمان به.

ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها التي تكون قبلها، وبالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبالنفخ في الصور، وخروج الخلق من قبورهم، وما في موقف القيامة من الأهوال والأفزاع، وتفاصيل الحشر ونشر الصحف، ووضع الموازين، وبالصراط والحوض، والشفاعة لمن أذن الله له، وبالجنة ونعيمها، وبالنار وعذابها وغيرها من الأمور التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، والصحيح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد دل على وجوب الإيمان باليوم الآخر كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه العقل والفطرة السليمة، وقد أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكره في كتابه، وأقام عليه الأدلة، ورد شبه المنكرين للبعث في كثير من المواضع، كما فصل أمور ذلك اليوم وحوادثه تفصيلًا كثيرًا، مع أن كل رسول أرسله الله بشر قومه وأنذرهم بهذا اليوم العظيم، وكفر كل من ينكره أو يشك فيه.

والإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب الذي لا يدركه العقل ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنص عن طريق الوحي.

ص: 647

وقد مدح الله المؤمنين بالغيب وأثنى عليهم ونوه بذكرهم، وذكر تعالى ما لهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل والنعيم المقيم.

فيجب على المسلم التصديق الجازم بجميع ما جاء عن اليوم الآخر في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن هذا اليوم قد دل على وقوعه النقل والعقل والفطرة كما صرحت به جميع الكتب السماوية ونادى به جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم.

فمن الآيات الدالة على وجوب الإيمان باليوم الآخر قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ. . .}

(1)

الآية.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}

(2)

.

وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(3)

.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}

(4)

.

ومن الأحاديث الدالة على وجوب الإيمان باليوم الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره شره"

(5)

.

(1)

سورة البقرة آية (177).

(2)

سورة البقرة آية (62).

(3)

سورة الطلاق آية (2).

(4)

سورة النساء آية (136).

(5)

تقدم تخريجه (ص 528).

ص: 648

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره"

(1)

.

فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الإيمان باليوم الآخر وتبين أهميته.

وقد اهتم الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بهذا الركن من أركان الإيمان اهتمامًا كبيرًا وتعرض له في كثير من مؤلفاته بل إنه أفرد بعض جوانبه بمؤلفات خاصة، فقد تكلم في كتابه أهوال القبور عن عذاب القبر ونعيمه وما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث كما تكلم أيضًا في كتاب التخويف من النار عن النار وعذابها وصفات أهلها، كما أنه أشار في ثنايا كتبه الأخرى عن جوانب كثيرة مما يكون بعد الموت من البعث والنشور وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار، وما يكون قبل ذلك كله من علامات وأشراط مما هو دليل على ذلك اليوم العظيم.

وقد أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى وجوب الإيمان بالغيب والتسليم بذلك بدون تكلف البحث عن الكيفيات التي ترد في الكتاب والسنة، لأن البحث في ذلك يؤدي إلى الحيرة والشك فقال رحمه الله تعالى مبينًا ذلك:"ومما يدخل النهي عن التعمق والبحث عنه أمور الغيب الخبرية التي أمرنا بالإيمان بها ولم يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يغني، وهو مما ينهى عنه، وقد يوجب الحيرة والشك ويرتقي إلى التكذيب"

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 602).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 342).

ص: 649

كما بيّن رحمه الله تعالى أن كل ما في الدنيا دليل على الآخرة ومذكر بها فقال: "كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة ودليل عليها، فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد محولها ويبسها في الشتاء وإيناع الأشجار واخضرارها بعد كونها خشبًا يابسًا يدل على بعث الموتى من الأرض وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة قال الله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}

(1)

".

وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}

(2)

.

وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}

(3)

.

قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "هل مررت بواد أهلك محلًا ثم مررت به يهتز خضرًا؟ " قال: نعم، قال:"كذلك يخرج الله الموتى وذلك آيته في خلقه" خرّجه الإمام أحمد

(4)

.

(1)

سورة الحج آية (5 - 7).

(2)

سورة ق آية (9 - 11).

(3)

سورة الأعراف آية (57).

(4)

أخرجه أحمد (4/ 11)، ورجاله ثقات إلا وكيع بن حرس وقيل عُرُس، قال ابن حجر في تقريب التهذيب (ص 369) مقبول.

ص: 650

وقصر مدة الزرع والثمار وعود الأرض بعد ذلك إلى يبسها والشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيًا إلى التراب الذي خلق منه، وفصول السنة تذكر بالآخرة، فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم، وهو من سمومها، وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم وهو من زمهريرها ..... وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة وطيب عيشها، وينبغي أن يحث المؤمن على الاستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصالحة

(1)

.

كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى وجوب الاستعداد لما بعد الموت بالأعمال الصالحة فقال: "فالواجب على العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إلى ذلك، فإنه لا يدري المرء متى تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار.

وذكر الأعمال الصالحة عند الموت مما يحسن ظن المؤمن بربه، ويهون عليه شدة الموت ويقوي رجاءه

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}

(3)

.

فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه واستعد حينئذ للقاء الله

(1)

لطائف المعارف (ص 329).

(2)

نور الاقتباس (ص 58).

(3)

سورة الحشر آية (18، 19).

ص: 651

عز وجل بالموت وما بعده ذكره الله عند هذه الشدائد فكان معه فيها، ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو عنه راض.

ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد حينئذ للقائه نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه أعرض عنه فأهمله، فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له أحسن الظن بربه، وجاءته البشرى من الله، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، والفاجر بعكس ذلك.

وحينئذ يفرح المؤمن ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه، ويندم المفرط ويقول:{يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}

(1)

)

(2)

.

كما بيّن ابن رجب رحمه الله تعالى أقسام الناس باليوم الآخر فمنهم المكذب والمنكر الذي لا يرجو لقاءه، ومنهم المصدق والمقر به وهؤلاء على درجات متفاوتة فقال: "انقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين:

أحدهما: من أنكر أن يكون للعباد دار بعد الدنيا للثواب والعقاب وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}

(3)

.

وهؤلاء همهم التمتع في الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}

(4)

.

القسم الثاني: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.

(1)

سورة الزمر آية (56).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 94، 95).

(3)

سورة يونس آية (7، 8).

(4)

سورة محمد آية (12).

ص: 652

والظالم لنفسه هم الأكثرون منهم، وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها، فأخذها من غير وجهها، واستعملها في غير وجهها، وصارت الدنيا أكبر همه، بها يرضى وبها يغضب، ولها يوالي وعليها يعادي، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا، ولا أنها منزلة سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة، وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانًا مجملًا فهو لا يعرفه مفصلا، ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا، مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة.

والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها وأمسك لنفسه الزائد على الواجب، يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا، وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهاد في الدنيا

ولا عقاب عليهم في ذلك إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا.

قال ابن عمر: "لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريمًا"

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد، وروي مرفوعًا من حديث عائشة بإسناد فيه نظر، ويشهد لهذا أن الله حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليها، وادخرها لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً

(1)

أخرجه موقوفًا ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا (ص 111) وابن أبي شيبة في المصنف (13/ 323) وأبو نعيم في الحلية (1/ 306).

وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (2/ 592) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 163): رواه ابن أبي الدنيا، وإسناده جيد، وروي عن عائشة مرفوعًا، والموقوف أصح.

ص: 653

لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}

(1)

".

وصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة"

(2)

.

وقال: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة"

(3)

.

وأما السابق بالخيرات بإذن الله فهم الذين فهموا المراد من الدنيا، وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن إلله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملًا كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

(4)

.

وقال بعض السلف أيهم أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، وجعل ما في الدنيا من البهجة والنضرة محنة، لينظر من يقف منهم معه ويركن إليه، ومن ليس كذلك كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا

(1)

سورة الزخرف آية (33 - 35).

(2)

أخرجه الحاكم (4/ 141) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. والشطر الأول منه أخرجه البخاري: كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه (7/ 44).

والشطر الثاني: أخرجه مسلم: كتاب الأشربة (4/ 1588).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض (6/ 207) ومسلم: كتاب اللباس والزينة (4/ 1638).

(4)

سورة هود آية (7).

ص: 654

لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}

(1)

ثم بيّن انقطاعه وإنفاده فقال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}

(2)

.

فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا جعلوا همهم التزود منها للآخرة التي هي دار القرار، فاكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح عنها وتركها"

(3)

وأهل هذه الدرجة على قسمين:

منهم من يقتصر من الدنيا على قدر ما يسد الرمق فقط، وهو حال كثير من الزهاد.

ومنهم من يفسح لنفسه أحيانًا في تناول بعض شهواتها المباحة لتقوى النفس بذلك وتنشط للعمل كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"

(4)

ومتى نوى من تناول شهواته المباحة التقوي على طاعة الله كانت شهواته له طاعة يثاب عليها

(5)

.

(1)

سورة الكهف آية (7).

(2)

سورة الكهف آية (8).

(3)

تقدم تخريجه (ص 579).

(4)

أخرجه أحمد (3/ 128) والنسائي: كتاب عشرة النساء (7/ 61) والحاكم (2/ 160) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

قال العراقي: إسناده جيد. تخريج الإحياء (2/ 30).

وقال ابن حجر: إسناده حسن. التلخيص الحبير (3/ 116).

(5)

جامع العلوم والحكم (2/ 361 - 367).

ص: 655