الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن كلامه في دعوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
-
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: "طبق الشرك الأرض بعد المسيح، فإن قومه الذين ادّعوا اتّباعه والإيمان به أشركوا غاية الشرك فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا أمّة ثالث ثلاثة.
أمّا اليهود، فإنهم وإن تبرّأوا من الشرك، فالشرك فيهم موجود، فإنه كان فيهم من عبد العجل في حياة موسى عليه السلام، وقال فيه: إنه الله، وأن موسى نسي ربّه وذهب يطلبه.
ولا شرك أعظم من هذا، وطائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشّرك، وأكثرهم اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فأحلّوا لهم الحرام، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إيّاهم، لأن من أطاع مخلوقًا في معصية الخالق واعتقد جواز طاعته أو وجوبها فقد أشرك بهذا الاعتبار حين جعل التحليل والتحريم لغير الله.
وأما المجوس فشركهم ظاهر، فإنهم يقولون بإلهين قديمين أحدهما: نور، والآخر: ظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وكانوا يعبدون النيران.
وأمّا العرب والهند وغيرهم من الأُمم، فكانوا أظهر الناس شركًا يعبدون مع الله آلهة كثيرة، ويزعمون أنها تقرب إلى الله زلفى.
فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شرره من المشرق إلى المغرب بعث الله محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية المحضة، والتوحيد الخالص دين إبراهيم عليه السلام، وأمره أن يدعو الخلق كلهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو سرًّا إلى ذلك نحوًا من ثلاث سنين، فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمره بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل له:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}
(1)
، فدعا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهرًا وأعلن الدعوة، وذمّ الآلهة التي تعبد من دون الله، وذمّ من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون واجتهدوا في إيصال الأذى إليه وإلى أتباعه، وفي إطفاء نور الله الذي بعثه به، وهو لا يزداد إلّا إعلانًا بالدعوة وتصميمًا على إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس
…
"
(2)
.
ثم استطرد ابن رجب رحمه الله تعالى في بيان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الدعوة، وكيف أنه عليه الصلاة والسلام بذل كل ما يستطيع لنشر هذا الدين وتبليغه إلى الناس لتكون كلمة الله هي العليا، قال رحمه الله: "
…
وكان يخرج بنفسه في مواسم الحجّ إلى من يقدم إلى مكّة من قبائل العرب فيعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردّون عليه ويسمعونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى، وبقي عشر سنين على ذلك
…
وكان يشقّ أسواقهم بالمواسم وهم مزدحمون بها كسوق ذي المجاز ينادى: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا، ووراءه أبو لهب يؤذيه ويردّ عليه وينهى الناس عن اتباعه
…
"
(3)
.
(1)
سورة الحجر، آية (94).
(2)
الحكم الجديرة بالإذاعة (24 - 26).
(3)
المصدر السابق (ص 26، 27).
وقال رحمه الله تعالى يصف حال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها وعمّه أبي طالب، وما لاقاه من أذى قريش: "ثم إن أبا طالب لما توفّي وتوفيت بعده خديجة اشتدّ المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرّوه إلى أن خرج من مكّة إلى الطائف، فدعاهم إلى عباده الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفهاءهم فاصطفوا له صفّين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموه، فخرج معه مولاه زيد بن حارثة فلم يمكنه دخول مكّة إلّا بجوار، وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يجيروه حتى يدخل مكّة، فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي فدخل إلى جواره، وعاد إلى ما كان عليه من الدعاء إلى توحيد الله وعبادته. . .
وكان صلى الله عليه وسلم ينادي من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلّغ رسالة ربّي وله الجنّة، فلا يجيبه أحد حتى بعث له الأنصار من المدينة فبايعوه، هذا كلّه وهو صابر على الدعوة إلى الله عز وجل على هذا الوجه راضٍ بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك غير متضجّر منه، ولا جزع. . .
وفي الصحيح عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، هل مرّ عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثعالب
(1)
، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا
(1)
فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثعالب: أي لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي، وللموضع الذي أنا ذاهب إليه إلّا وأنا عند قرن الثعالب، وقرن الثعالب: هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكّة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
لسان العرب (10/ 321)، ومعجم البلدان (4/ 332).
فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع كلام قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك وما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين
(1)
، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا"
(2)
.
ما مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا أن يعبد الله ولا يشرك به شيء، وما يبالي إذا حصل ذلك ما أصابه في الدعوة إليه إذا وحّد معبوده، حصل مقصوده
…
، إلى أن قال رحمه الله: "فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وأعلن ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائعٍ، وصار الدين كلّه لله، والطاعة كلها لله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فجعل ذلك علامة على اقتراب أجله وأُمر حينئذ بالتهيّؤ للقاء الله والنقلة إلى دار البقاء ....
(3)
.
(1)
الأخشبان: تثنية الأخشب، والمراد بهما هنا جبلان بمكة هما جبل أبي قبيس وجبل قعيقعان.
معجم البلدان (1/ 122).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق (4/ 83)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير (3/ 1420).
(3)
الحكم الجديرة بالإذاعة (ص 28 - 33).