الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع النهي عن الخوض في القدر
لقد نهى الإسلام عن التنطّع والتشدّد والبحث فيما غاب عن علم الإنسان ممّا استأثر الله بعلمه، ومن ذلك البحث في سرّ القدر والتعمّق في النظر في دقائقه، لأن ذلك من الأمور التي استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليها أحدًا من الخلق لا ملكًا مقرّبًا ولا نبيًا مرسلًا، ولهذا فإن التعمّق والجدل في القضاء والقدر من الخذلان، لأن المجادل فيه لا يدرك مراده، وكلّما احتجّ بحجة كسرتها أخرى، وربما أفضى به ذلك إلى الإلحاد والزيغ عن الطريق المستقيم، والخوض في القدر أوّل ظاهرة للشرك في هذه الأمّة كما يدلّ عليه ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قيل لابن عباس: إن رجلًا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلّوني عليه، وهو يومئذ قد عمي، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضنّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنّها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج، تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أوّل شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدّر خيرًا كما أخرجوه أن يكون قدّر شرًا"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 330)، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. المسند تحقيق/ أحمد شاكر (5/ 22)، حديث رقم (3056).
وقد جاء كفار قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك آية ترد عليهم كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}
(1)
.
وقد حصل بعض الخصام بين بعض الصحابة رضي الله عنهم في القدر، فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخوض في ذلك والتعمّق فيه لما يؤدّي إليه من نتائج سيّئة.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلّمون في القدر، قال:"وكأنما تَفَقَّأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم"، وقال:"فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده"
(2)
.
وقد كان السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يكرهون الجدال في القدر ويذمّون من خاض فيه بل حذّروا من ذلك، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول:"باب شرك فتح على أهل الصّلاة: التكذيب بالقدر فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم"
(3)
.
(1)
سورة القمر، آية (48، 49).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 178)، وقال أحمد شاكر، إسناده صحيح. المسند تحقيق أحمد شاكر (10/ 153)، حديث رقم (6668)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه: المقدمة - باب في القدر (1/ 33)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 14): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(3)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 215)، واللالكائي في شرح أصول أهل السنّة (4/ 630).
ويقول أيضًا رضي الله عنه: ما غلا أحد في القدر إلّا خرج من الإسلام
(1)
.
فالسلف رحمهم الله تعالى كرهوا الكلام في القدر والخوض فيه، لكن لما خاضت المبتدعة في هذا الأمر وحادوا عن الصواب رأى السلف الصالح أنه يجب عليهم أن يبيّنوا للناس الحق والصواب فيما ضلّ فيه هؤلاء، ذلك لأنه لم يظهر القول في القدر إلّا بعد مضيّ نصف القرن الأول تقريبًا، حيث أن معبدًا الجهني
(2)
هو أوّل من أثار القول في هذا الأمر.
روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى يحيى بن يعمر
(3)
، أنّه قال: "كان أوّل من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري
(4)
حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا
(1)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول أهل السنّة (4/ 632).
(2)
معبد بن عبد الله الجهني نزيل البصرة، كان داعية إلى الضلال وهو أوّل من تكلّم بالقدر في زمن الصحابة، قال ابن أبي حاتم: كان صدوقًا في الحديث وكان رأسًا في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناسًا، وقد قتله عبد الملك سنة 80 هـ.
الجرح والتعديل (8/ 280)، وميزان الاعتدال (4/ 141)، وتهذيب التهذيب (10/ 225).
(3)
الإمام الفقيه المقرئ أبو سليمان يحيى بن يعمر العدواني البصري، كان من أوعية العلم وحملة الحجّة. قال ابن سعد: كان نحويًّا صاحب علم بالعربية والقرآن، أتى خراسان فنزل مرو، وولي القضاء بها، وكان ثقة، توفي سنة 89 هـ.
طبقات ابن سعد (7/ 368)، وتهذيب التهذيب (11/ 305)، وغاية النهاية (2/ 381).
(4)
حميد بن عبد الرحمن الحميري، شيخ بصري، ثقة عالم، قال العجلي: تابعي ثقة.
تاريخ الثقات للعجلي (ص 134)، وتهذيب التهذيب (3/ 46).
أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلًا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويَتَقَفَّرون العلم
(1)
وذكر من شأنهم أنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"
(2)
.
ولقد سلك هذا المسلك العلماء من بعدهم الذين ساروا على ما سار عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم. يقول أبو محمد البربهاري رحمه الله تعالى: "والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصّة منهيّ عنه عند جميع الفرق، لأن القدر سرّ الله، ونهى الربّ جلّ اسمه الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك التسليم والإقرار والإيمان واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأشياء، واسكت عمّا سوى ذلك"
(3)
.
ويقول البغوي رحمه الله تعالى: "والقدر سرّ من أسرار الله لم يطلع عليه ملكًا مقرّبًا، ولا نبيًا مرسلًا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فجعلهم
(1)
يتقفرون العلم: أي يطلبونه ويتتبعونه. النهاية لابن الأثير (4/ 90).
(2)
صحيح مسلم: كتاب الإيمان - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . . (1/ 36).
(3)
شرح السنة للبربهاري (ص 36).
فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلًا، وأهل الشمال خلقهم للجحيم عدلًا"
(1)
.
وقد تكلّم ابن رجب رحمه الله تعالى عن هذه المسألة، فقال:"وقد ورد النهي عن الخوض في القدر، وفي صحيح ابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: "لا يزال أمر هذه الأمة موافيًا ومقاربًا ما لم يتكلّموا في الولدان والقدر"
(2)
.
. . . والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه، منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى ويقع التجادل في ذلك، وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك ونهى عنه
(3)
.
وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه، وقد نُهي عن ذلك
(4)
.
(1)
شرح السنة للبغوي (1/ 144).
(2)
أخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن (ص 451)، والحاكم (1/ 33) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا نعلم له علّة، ووافقه الذهبي.
وأخرجه أيضًا البزار كما في كشف الأستار (3/ 36)، والطبراني في الكبير (12/ 162)، قال الهيثمي في المجمع (7/ 202): رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.
(3)
يشير ابن رجب رحمه الله تعالى في هذا الكلام إلى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب"، أخرجه مسلم (4/ 2053).
(4)
كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "المراء في القرآن كفر". =
ومنها: الخوض في القدر إثباتًا ونفيًا بالأقيسة العقلية؛ كقول القدرية: لو قدّر وقضى ثم عذّب كان ظالمًا، وقول من خالفهم: إن الله جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك.
ومنها: الخوض في سرّ القدر، وقد ورد النهي عنه عن عليّ وغيره من السلف، فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك
(1)
.
= أخرجه أحمد (2/ 286)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وأبو داود: كتاب السنة - باب النهي عن الجدال في القرآن (5/ 9)، والحاكم (2/ 223)، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
والطبراني في الكبير (19/ 223)، وقال الهيثمي (1/ 157): رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.
(1)
فضل علم السلف على علم الخلف (ص 136، 137).