الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع الغلو وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليه
الغلو في اللغة هو مجاوزة الحد والمبالغة في الشيء، يقول الراغب الأصبهاني: الغلو تجاوز الحد، يقال ذلك إذا كان في السعر غلاء، وإذا كان في القدر والمنزلة غلو
(1)
.
وفي الشرع هو الإفراط في التعظيم بالقول والعمل والاعتقاد ومجاوزة الحد المشروع في ذلك كالغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين من حيث اعتقاد أن لهم تصرفًا في الكون، أو تعظيمهم بالألفاظ والأفعال ورفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها
(2)
.
والغلو منهى عنه، وقد ذمه الله سبحانه وتعالى وحرمه وتوعد الغالين ونهاهم عنه فقال تعالى في كتابه العظيم:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}
(3)
(4)
.
(1)
المفردات في غريب القرآن (ص 364).
(2)
انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 382) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 76) تيسير العزيز الحميد (ص 265).
(3)
سورة النساء آية (171).
(4)
سورة المائدة آية (77).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "ينهى الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه بل قد غلوا في اتباعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقًا أو باطلًا أو ضلالًا أو رشادًا أو صحيحًا أو كذبًا"
(1)
.
كما ذم الغلو ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله"
(2)
.
فالغلو وباء قاتل ومرض مدمر، ولم يزل شره في ازدياد حتى وقع كثير من المسلمين في الشرك بسبب الغلو ومجاوزة الحد المشروع.
وقد تناول ابن رجب رحمه الله مسألة الغلو وبيّن أنه جهل وضلال كما بيّن بعض مظاهره فقال رحمه الله تعالى: وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلالة، وبالغلو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق إلى درجة لا يستحقها حتى يدعى فيه الإلهية، واتباع الكبراء في التحليل والتحريم، وكل هذا يوجد جهالًا منتسبين إلى العبادة من هذه الأمة فمنهم من يعبد بالجهل بغير العلم بل يذم العلم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعى فيه الحلول، ومن يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما يغلو النصارى في رهبانهم
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 589).
(2)
صحيح البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} (4/ 142).
ويعتقدون أن لهم أن يغلو في الدين ما شاؤا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عمل من عمل، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب، وقد كان الشيوخ العارفون ينهون عن صحبة الأشرار وأن ينقطع العبد عن الله بصحبته الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم غلوًا زائدًا عن الحد، وعلق قلبه بهم فقد انقطع عن الله بهم وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إلى الله ويسلكوا طريقه ويعلموه دينه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أهله وأصحابه على التمسك بالطاعة ويقول:"اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا"
(1)
، وقال لأهله:"إن أوليائي منكم المتقون يوم القيامة لا يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد، فأقول: قد بلغت"
(2)
ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"
(3)
فإنما يراد من صحبة الأخيار إصلاح الأعمال والأحوال والإقتداء بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إلى اليقظة، ومن البطالة إلى العمل، ومن التخليط إلى التكسب والقول والفعل إلى الورع، ومعرفة النفس آفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وأفتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة، وهو مصر على غفلته وكسله وبطالته فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إليه كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو المنهي عنه وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب منهم الدعاء، ويقولون:"أنبياء نحن؟ "
…
إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التفسير (6/ 17) ومسلم: الإيمان (1/ 192).
(2)
أخرجه بنحوه البخاري في الأدب المفرد (ص 42) والحاكم (4/ 73) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3)
أخرجه مسلم: كتاب الصلاة (1/ 353).
"فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود والقصد هو المأمور به"
(1)
.
فالغلو أصل من أصول الشرك في الأولين والآخرين، ووسيلة من الوسائل المؤدية إلي عبادة الأصنام، وقد أمرنا الله تعالى بمحبة الأنبياء والمرسلين والصالحين، وإنزالهم منازلهم من العبودية، ونهانا عن الإفراط ومجاوزة الحد في تعظيمهم، فلا نرفعهم فوق منزلتهم.
وتعظيم الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ومحبتهم إنما هو باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والتقوى والعمل الصالح واقتفاء آثارهم في ذلك دون عبادتهم وعبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها مساجد وأعيادًا ومجامع للزيارات وغير ذلك من البدع والضلالات.
نسأل الله العافية من كل فتنة
…
آمين.
(1)
الحكم الجديرة بالإذاعة (ص 56) وما بعدها.