الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع زيادة الإيمان ونقصانه
الإيمان الذي دلَّت عليه الأدلّة في كتاب الله تبارك وتعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم إيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات والعبادات من ذكر الله والتفكر في الكون وما فيه من المخلوقات، وأداء النوافل، والمسارعة إلى كل عمل يقرّب من الله تعالى، وينقص بفعل المعاصي وإتيان المنكرات والفواحش، وكل عمل يبعد العبد عن الله عز وجل.
والقول بزيادة الإيمان ونقصانه أصل من أصول أهل السنّة والجماعة وقد أجمعوا عليه، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل البدع والأهواء، لأن معتقد أهل السنّة والجماعة رحمهم الله تعالى هو المعتقد الذي دلّت عليه النصوص الواردة في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن أدلّة الكتاب قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}
(1)
.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}
(2)
.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا
(1)
سورة آل عمران، آية (173).
(2)
سورة الأنفال، آية (2).
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}
(1)
.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}
(2)
.
هذه بعض الآيات الدالّة على زيادة الإيمان، والآيات في معناها كثيرة جدًا.
وأمّا الأدلّة من السنّة، فمنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي بعثه الله في أمّة قبلي إلَّا كان له من أمّته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل"
(3)
.
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقالت امرأة منهن جزلة
(4)
: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منكنّ"، قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أمَّا نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان
(1)
سورة التوبة آية (124، 125).
(2)
سورة الفتح، آية (4).
(3)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص (1/ 70).
(4)
جزلة: أي ذات عقل ورأي جيّد. لسان العرب (11/ 109).
العقل، وتمكث الليالي ما تصلّي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدّين"
(1)
.
ومنها حديثة حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنّة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات
(2)
، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك"؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنّة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"
(3)
، ثلاث مرات.
ومنها حديث أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلَّا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلَّا الله وفي قلبه وزرة ذرة من خير"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الحيض - باب ترك الحائض الصوم (1/ 78)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات (1/ 86).
(2)
الضيعات: مفردها ضيعة، وضيعة الرجل ما يكون عنده من معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك.
النهاية لابن الأثير (3/ 108).
(3)
تقدم تخريجه (ص 414).
(4)
تقدم تخريجه (317).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا إلَّا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان"
(1)
.
فهذه بعض أدلّة السلف من القرآن الكريم والسنّة المطهّرة تدلّ أن الإيمان يزيد وينقص، وإن كان بعضها فيه لفظ الزيادة فقط، فإنها تدل بطريق الالتزام على النقص، لأن الشيء الذي يقبل الزيادة يقبل النقص، وإلَّا فلا معنى للزيادة، إذ لا يمكن أن يتصوَّر شيء قابل للزيادة غير قابل للنقصان، روي الآجري بسنده أنه قيل لسفيان بن عيينة: "الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرؤون القرآن {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}
(2)
في غير موضع، قيل: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلَّا وهو ينقص"
(3)
.
وروى أيضًا الآجري واللالكائي
(4)
عن الحميدي، أنّه قال: سمعت ابن عيينة يقول: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة
(5)
: يا أبا محمد، لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء"
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الذبائح - باب من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية (6/ 219)، ومسلم: كتاب المساقاة - باب الأمر بقتل الكلاب (3/ 1201).
(2)
سورة آل عمران، آية (173).
(3)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 117).
(4)
الإمام الحافظ المجود أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي، مفيد بغداد في وقته، من مؤلفاته العظيمة: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، توفي سنة 418 هـ.
تاريخ بغداد (14/ 70)، وسير أعلام النبلاء (17/ 419).
(5)
إبراهيم بن عيينة أبو إسحاق أخو سفيان بن عيينة، كان إمامًا خيّرًا. قال ابن معين: كان مسلمًا صدوقًا، ولم يكن من أصحاب الحديث، توفي سنة 199 هـ.
الجرح والتعديل (2/ 118)، وميزان الاعتدال (1/ 51)، وتهذيب التهذيب (1/ 149).
(6)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 117)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (5/ 960).
وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان في الإيمان عن جمع غفير من الصحابة ومن بعدهم، فعن ابن عباس وأبي هريرة وأبي الدرداء رضي الله عنهم كلّهم قالوا:"الإيمان يزيد وينقص"
(1)
.
وعن عمير بن حبيب رضي الله عنه -وهو من الصحابة- قال: "الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل خشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيّعنا فذلك نقصانه"
(2)
.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنّه كان يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيمانًا، فيذكرون الله عز وجل
(3)
.
ومن أقوال التابعين ومن بعدهم في ذلك:
ما روي عن مالك رحمه الله تعالى، أنه قال: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص
(4)
.
وقال سهل بن المتوكّل
(5)
رحمه الله تعالى: (أدركت ألف أستاذ أو أكثر كلّهم يقولون: "الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص")
(6)
.
(1)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 111)، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (1/ 314)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 944، 945).
(2)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 111)، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 7)، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (1/ 315)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/ 949).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (36)، والآجري في الشريعة (112)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (5/ 941).
(4)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 118)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 317).
(5)
هو سهل بن المتوكل بن حجر أبو عصمة البخاري من بني شيبان، يروي عن أبي الوليد الطيالسي وأهل العراق، روى عنه أهل بلده.
انظر الثقات لابن حبان (8/ 294).
(6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (5/ 957).
وعن الأوزاعي رحمه الله تعالى قال: "الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع"
(1)
.
والآثار الواردة في هذا المعنى عن الصحابة والتابعين وأئمَّة السلف من بعدهم كثيرة جدًا، وكلّها تدلّ على أنهم مجمعون على القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وقد تناول ابن رجب رحمه الله تعالى هذه المسألة وبيّن أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بعمل الطاعات وخصال الخير، وينقص بترك الطاعات وفعل المعاصي.
يقول رحمه الله تعالى: "ومن أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. ومن كان حبّه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه، فيجب عليه التوبة من ذلك، والرجوع إلى اتّباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلّها"
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى وهو يتكلّم عن الحرص على المال، وأن من طلب المال من الوجوه المحرّمة ومنع به الحقوق الواجبة فقد نقص إيمانه بذلك، قال "ومتى وصل الحرص على المال إلى هذه الدرجة نقص بذلك الدين والإيمان نقصًا بيّنًا، فإن منع الواجبات وتناول المحرمات ينقص بهما الدّين، والإيمان بلا ريب ينقص، حتى لا يبقى منه إلَّا القليل"
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وفي السنن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله فقد استكمل الإيمان"
(4)
.
(1)
أخرجه الآجري في الشريعة (ص 117).
(2)
جامع العلوم والحكم (3/ 226).
(3)
جامع البيان شرح حديث "ما ذئبان جائعان"(ص 13).
(4)
أخرجه أبو داود: كتاب السنة - باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (5/ 60)، والترمذي: كتاب صفة القيامة - باب اعقلها وتوكّل (4/ 670)، وقال: هذا حديث حسن.
ومعنى هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك باطنًا وظاهرًا، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلَّا إرادة الله وإرادة ما يريده، لم تنبعث الجوارح إلَّا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه، وعمّا يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقّن ذلك
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا وهو يتكلّم عن شارب الخمر: "وكلّما أدمن الخمر وعكف عليها نقص إيمانه وضعف ونزع منه، فيخشى أن يسلبه بالكلية عند الموت"
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها والندم، والتوبة من الذنوب السالفة، والحزن عليها، واحتقار النفس والازدراء بها، ومقتها في الله عز وجل، والبكاء من خشية الله تعالى، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أمور الآخرة وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك يزيد الإيمان في القلب"
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "ويدخل في مسمّى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله، وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه، وزيادة الإيمان بذلك"
(4)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "وذلك أضعف الإيمان"
(5)
، يدلّ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 184).
(2)
رسالة في ذم الخمر وشاربها (ص 34).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 246).
(4)
المصدر السابق (1/ 73).
(5)
جزء من حديث أخرجه مسلم: كتاب الإيمان (1/ 69).
الإيمان، ويدلّ على أن من قدر على خصلة من خصال الإيمان وفعلها كان أفضل من تركها عجزًا.
ويدلّ على صحة ذلك أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم في حق النساء: "أما نقصان دينها، فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلّي"
(1)
، يشير إلى أيَّام الحيض، مع أنها ممنوعة حينئذ من الصلاة، وقد جعل ذلك نقصًا في دينها، فدلّ على أن من قدر على واجب وفعله، فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه، وإن كان معذورًا في تركه"
(2)
.
بهذا يتبيّن أن مذهب أهل السنّة والجماعة -ومنهم الحافظ ابن رجب- هو القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وهو الحق الذي دلّت عليه نصوص الكتاب والسنّة.
أمَّا غيرهم من المبتدعة على اختلاف أسمائهم، فقالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكل منهم استدلّ بأدلّة مختلفة، ولكل منهم وجهة، ولكن هدفهم واحد وهو أن الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان.
والسلف يعدّون من أنكر زيادة الإيمان ونقصانه من المرجئة ذكر البيهقي بإسناده عن الثوري، أنَّه قال:"خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل؛ ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص؛ ونحن نقول: أهل القبلة عندنا مؤمنون، أما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون"
(3)
.
(1)
جزء من حديث تقدم تخريجه (ص 521).
(2)
جامع العلوم والحكم (3/ 61).
(3)
الاعتقاد للبيهقي (ص 84).