الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع العلاقة بين أنواع التوحيد
بعد أن عرفنا فيما سبق حقيقة التوحيد وأنواعه التي هي توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، يحسن بنا أن نعرف العلاقة بين هذه الأنواع، وصلتها ببعضها، وهل هي متلازمة في الوجود بمعنى أن بعضها لا يوجد بدون الآخر؟ أم أنها غير متلازمة، وهل يغني اعتقاد بعضها فقط أم لابد من اعتقاد جميعها.
والحقيقة أن بينها علاقة متينة، وصلة قوية.
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، لأنه من اعترف بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وأنه رب كل شيء ومليكه يحتم عليه ذلك أن يخلص العبادة له عز وجل بجميع أنواعها لأنه تبارك وتعالى ذو الألوهية المستحق للعبادة وحده دون سواه، لأن جميع الأمور بيده، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا هادي لمن أضل، ولا ضال لمن هدى سواه عز وجل، ولهذا نجد الآيات الواردة في القرآن الكريم في توحيد الربوبية تحث وترشد إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة ما سواه، وعدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره عز وجل، كما قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
(1)
.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشًا أي مهدًا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، والسماء بناءً، وهو السقف كما قال في الآية الأخرى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)}
(2)
.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقًا لهم، ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن، ومن أشبه آية بهذه آية قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)}
(3)
ومضمونه أنه الخالق الرزاق مالك الدار وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده، ولا يشرك به غيره، ولهذا قال:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وفي الصحيحين
(4)
عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك. . . " الحديث
(5)
.
(1)
سورة البقرة الآيتان (21 - 22).
(2)
سورة الأنبياء آية (32).
(3)
سورة غافر آية (64).
(4)
صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5/ 148).
وصحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمهما بعده (1/ 90).
(5)
تفسير ابن كثير (1/ 57).
وقد أوضح ابن رجب رحمه الله تعالى هذا المعنى حيث قال: . . . فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة، مستحق أن يفرد بالألوهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة. قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}
(1)
. . .
(2)
.
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: . . . وتحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو دفع ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة والعبادة أيضًا. . . وأن تقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعا. . .
(3)
.
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: . . . فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر وبالعطاء والمنع أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة ويقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم جميعا، كما يوجب ذلك أيضًا إفراده سبحانه بالاستعانة به، والطلب منه. . . .
(4)
.
فمن أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية، فإن ذلك لا ينفعه شيئًا، لأن المشركين كانوا مقرين بهذا النوع من التوحيد كما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في القرآن الكريم في آيات كثيرة.
منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
(1)
سورة الروم آية (12، 22).
(2)
جامع العلوم والحكم (2/ 284).
(3)
نور الاقتباس (ص 80).
(4)
المصدر السابق (ص 79).
وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}
(1)
.
(2)
وغيرها من الآيات ومع هذا لم ينفعه هذا الاعتراف، لأنهم لم يوحدوا الله تبارك وتعالى بالعبادة كما قال عز وجل:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}
(3)
(4)
.
إذًا من اعترف بتوحيد الربوبية يلزمه أن يخلص العبادة لله وحده دون سواه، ومن لم يفعل ذلك فإن إقراره بتوحيد الربوبية لا ينفعه شيئًا كما لم ينفع المشركين من قبل.
وأما توحيد الألوهية الذي يسمى توحيد العبادة، ويسمى أيضًا بتوحيد القصد والطلب، فإنه متضمن لتوحيد الربوبية، ومعنى كونه متضمنًا له أن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الألوهية لأن من عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص العبادة له لابد أن يكون قد اعتقد بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه لا رب سواه ولا مالك غيره، فهو يعبده لأنه يعلم أنه مستحق للعبادة دون سواه.
(1)
سورة يونس آية (31).
(2)
سورة المؤمنون من آية (84 إلى 89).
(3)
سورة يوسف آية (106).
(4)
سورة الزمر آية (3).
ولذلك نجد الآيات الكثيرة تبين أن الآلهة التي عبدها المشركون من دون الله ليس بيدها شيء، وأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًا فهي لا تملك ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
(1)
.
(2)
.
فهذه الآيات تبين للمشركين أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله غير مستحقة للعبادة، لأن الذي يستحق للعبادة هو من بيده الخلق والرزق والإحياء والإماتة، والضر، والنفع، وهو الله سبحانه وتعالى وحده.
فتوحيد الألوهية لا يصح بدون توحيد الربوبية لأن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئًا في عبادته لكنه مع ذلك اعتقد أن لغير الله تأثير في شيء من دفع ضر أو جلب نفع أو تصرف فعبادته لا تغني عنه شيئًا. يقول ابن أبي العز
(3)
رحمه الله تعالى: التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية
(4)
.
(1)
سورة النحل الآيتان (20 - 21).
(2)
سورة النحل آية (73).
(3)
هو علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الدمشقي، عالم فقيه تولى القضاء بدمشق ثم بالديار المصرية، واستفاد من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم كثيرًا، له كتب مفيدة نافعة منها: شرح العقيدة الطحاوية، والإتباع، توفي سنة 792 هـ رحمه الله تعالى.
الدرر الكامنة (3/ 87) وشذرات الذهب (6/ 326).
(4)
شرح العقيدة الطحاوية (1/ 12).
وأما توحيد الأسماء والصفات فإنه مستلزم للنوعين الماضيين لأن من اعترف بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأنه لا نظير ولا شبيه ولا مثيل له في ذلك، يلزمه أن يعترف بأنه رب واحد لا شريك له ويلزمه أيضًا أن يخلص العبادة له وحده دون سواه.
كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الأسماء والصفات، لأن من أخلص العبادة لله وحده يعتقد أن الله واحد في أسمائه وصفاته مع عدم المثيل والنظير والشبيه له في ذلك، وإلا فلا معنى لعبادته بدون ذلك.
وبهذا يتبين أن التوحيد الصحيح هو الإتيان بأنواع التوحيد كلها لأنها مرتبطة بعضها ببعض، ولا يتحقق التوحيد الصحيح إلا بها جميعًا. وهو ما جاءت به الآيات الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى وجاءت به السنة النبوية.
وهذا ما قرره علماء السلف رحمهم الله تعالى.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: وملاك السعادة والنجاة والفوز بتحقيق التوحيدين اللذين عليهما مدار كتاب الله تعالى، وبتحقيقهما بعث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإليهما دعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم من أولهم إلى آخرهم. . .
(1)
.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في معرض كلامه من أنواع التوحيد: . . . وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر، فما ذاك إلا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب. . .
(2)
.
(1)
اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (ص 27).
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص 93).