الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلم تأثير النجوم باطل محرّم، والعمل بمقتضاه كالتقرّب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر.
وأمّا علم التسيير، فإذا تعلّم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطريق، كان جائزًا عند الجمهور، وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عمّا هو أهمّ منه، وربما أدّى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم كما وقع ذلك كثيرًا من أهل هذا العلم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار وهو باطل"
(1)
.
2 - التطيّر والتشاؤم
الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطيّر
(2)
.
يقول ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: "أصل التطيّر واشتقاقه عند أهل العلم باللغة والسير والأخبار هو مأخوذ من زجر الطير ومروره سانحًا أو بارحًا، منه اشتقوا التطيّر، ثم استعملوا ذلك في كل شيء من الحيوان وغير الحيوان، فتطيّروا من الأعور والأعضب والأبتر
…
"
(3)
.
والتشاؤم مأخوذ من الشؤم وهو ضدّ اليمن، تقول: تشأمت بالشيء وتيّمنت به
(4)
.
يقول ابن القيّم رحمه الله تعالي: "كانوا يزجرون الطير والوحش ويثيرونها، فما تيامن منها وأخذ ذات اليمين سمّوه سانحًا، وما تياسر منها
(1)
فضل علم السلف على علم الخلف (ص 9 - 12).
(2)
النهاية لابن الأثير (3/ 152)، وانظر الصحاح (2/ 728).
(3)
التمهيد (9/ 282).
(4)
انظر: الصحاح (5/ 1957)، والنهاية لابن الأثير (2/ 510).
سمّوه بارحًا، وما استقبلهم منها فهو الناطح، وما جاءهم من خلفهم سمّوه القعيد، فمن العرب من يتشاؤم بالبارح ويتبرّك بالسانح، ومنهم من يرى خلاف ذلك"
(1)
.
وقد جاء الإسلام بتطهير القلوب من كل شوائب الشرك التي منها التطيّر بالأشخاص والأماكن والأزمان، واعتقاد أنها هي السبب في بعض ما يصيب الإنسان.
ولقد حرّم الإسلام الطيرة وعدّها من الشرك، لأن المتطيّر يعتقد أن شيئًا من المخلوقات ينفع أو يضرّ، ولأن في ذلك إغفالًا للخالق سبحانه وتعالى، وثلبًا لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
وفي الواقع أن التطيّر والطيرة لا تضرّ إلّا من اعتقدها، فإنك تجد معتقدها دائم الخوف قلق النفس مضطرب الفكر والرأي والتصرفات، وتجد عنده من التردّد وضعف اليقين وقلّة التوكّل وسوء الظن ما يعكّر عليه صفو حياته ويوهن عقيدته ويفتح للشيطان أبوابه
(2)
.
وقد تكلّم ابن رجب رحمه الله تعالى عن مسألة التطيّر وبيّن أنها من الأعمال الشركية التي كان يفعلها أهل الجاهلية، وذكر الأدلّة التي تدلّ على تحريم الطيرة والنهي عنها، فقال: "والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر، وقد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون
(3)
وقوم صالح
(4)
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 229).
(2)
انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 230 - 231).
(3)
وهو في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، سورة الأعراف، آية (131).
(4)
وهو في قوله تعالي: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} سورة النمل، آية (47).
وأصحاب القرية
(1)
التي جاءها المرسلون، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طيرة"
(2)
، وفي حديث:"من ردّته الطيرة فقد قارف الشرك"
(3)
، وفي حديث ابن مسعود المرفوع:"الطيرة من الشرك وما منّا إلّا، ولكن الله يذهبه بالتوكّل"
(4)
. والبحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم ونحوها من الطيرة المنهي عنها، والباحثون عن ذلك غالبًا لا
(1)
وهو قوله تعالي: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} سورة يس، آية (19، 18).
(2)
هذا جزء من حديث أخرجه البخاري: كتاب الطب -باب الطيرة (10/ 181).
ومسلم: كتاب السلام، باب الطيرة والفأل (2223) كلاهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة، وخيرها الفأل، قيل: يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم".
(3)
أخرجه ابن وهب في الجامع (110)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (3/ 402)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (117)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 105) رواه البزار، وفيه سعيد بن أسد، روى عنه أبو زرعة الرازي، ولم يضعفه أحد، وشيخ البزار إبراهيم غير منسوب وبقيّة رجاله ثقات، وأخرجه أحمد (2/ 220) بلفظ:"من ردّته الطيرة من حاجة فقد أشرك، قالوا: يا رسول الله، ما كفّارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهمّ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".
وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند تحقيق أحمد شاكر (12/ 10).
(4)
أخرجه أحمد (1/ 389)، وأبو داود: كتاب الطب -باب الطيرة (4/ 230)، والترمذي: كتاب السير -باب ما جاء في الطيرة (4/ 160) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الطب -باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة (2/ 1170)، والحاكم (1/ 17) وقال: صحيح سنده، ثقات رواته، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي عقب تصحيحه لهذا الحديث: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: "وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكّل"، هذا عندي قول عبد الله بن مسعود: وما منّا.
يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل وترك الحركة، وهذا لا يمنع نفوذ القضاء والقدر
…
وفي صحيح ابن حبان عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طيرة والطيرة على من تطيّر"
(1)
.
وقال النخعي: "قال عبد الله بن مسعود: "لا تضرّ الطيرة إلا من تطير"، ومعنى هذا أن من تطيّر تطيّرًا منهيًا عنه، وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه مما يتطيّر به حتى يمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه، فأمّا من توكّل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفًا ورجاءًا قطعه عن الالتفات إلى هذه الأسباب المخوّفة
…
إلى أن قال رحمه الله تعالي: "وأمّا من اتّقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالأسباب المنهي عنها، فإنه لا ينفعه ذلك غالبًا كمن ردّته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطيّر به، فإنه كثيرًا ما يصاب ما خشي منه، وكمن اتقى الطاعون الواقع في بلده بالفوار منه، فإنه قلّ أن ينجيه ذلك، وقد فرّ كثير من المتقدمين والمتأخّرين من الطاعون فأصابهم ولم ينفعهم الفرار، وقد قال الله تعالي:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}
(2)
…
"
(3)
.
فقد أوضح ابن رجب رحمه الله تعالي في كلامه السابق أن الطيرة شرك لما فيها من تعلّق القلب بغير الله عز وجل، حيث أنهم يعتقدون أن
(1)
أخرجه ابن حبان كما في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (7/ 642)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 109)، قال ابن حجر في الفتح (6/ 63): وفي صحته نظر لأنه من رواية عتبة بن حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس، وعتبة مختلف فيه.
(2)
سورة البقرة، آية (243).
(3)
لطائف المعارف (ص 71، 73).
الطيرة تجلب لهم نفعًا أو تدفع عنهم ضرًّا من دون الله عز وجل، وهذا عين الشرك المنهيّ عنه.
كما أوضح ابن رجب رحمه الله تعالى أن من أمور الجاهلية التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم التشاؤم بالهامة وصفر وغيرها، فقال رحمه الله تعالي:"وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هامة"، فهي نفي لما كانت الجاهلية تعتقده أن الميّت إذا مات صارت روحه هامة وهو طائر يطير وهو شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور.
وكل هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها، ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنّة، وترد من أنهار الجنّة إلى أن يردّها الله إلى أجسادها
(1)
، وروي أيضًا: "إن نسمة المؤمن
(2)
طائر يعلق في شجر الجنّة حتى يرجعها الله إلى أجسادها يوم القيامة"
(3)
.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صفر"، فاختلف في تفسيره، فقال كثير من المتقدّمين الصفر: داء في البطن يقال إنه دود فيه كبار كالحيات وكانوا
(1)
كما ورد ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم: كتاب الإمارة -باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنّة (3/ 1502).
(2)
نسمة المؤمن: النسمة بفتحتين الروح والنفس، وكل شيء في روح فهو نسمة. النهاية لابن الأثير (5/ 49)، ولسان العرب (12/ 573).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 355)، والترمذي: كتاب فضل الجهاد -باب ما جاء في ثواب الشهداء (4/ 174)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه: كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى (2/ 1428).
والنسائي: كتاب الجنائز -باب أرواح المؤمنين (4/ 108)، وقال الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص 456): صحيح.
يعتقدون أنه يعدي، فنفى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وممّن قال هذا من العلماء ابن عيينة والإمام أحمد وغيرهما، ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلًا في قوله:"لا عدوى"، وقد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام وخصّه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى.
وقالت طائفة: بل المراد بصفر شهر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدهما: أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلون في النسئ، فكانوا يحلّون المحرم ويحرّمون صفرًا مكانه، وهذا قول مالك
…
والثاني: أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر شؤم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي
(1)
عمّن سمعه يقول ذلك.
ولعلّ هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهّال يتشاءم بصفر وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر من جنس الطيرة المنهي عنه، وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء
…
وكذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوّال في النكاح فيه خاصة، وقد قيل أن أصله أن طاعونًا وقع في شوّال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس، فتشاءم بذلك أهل الجاهلية، وقد ورد الشرع بإبطاله، قالت
(1)
محمد بن راشد المكحولي الخزاعي أبو عبد الله الدمشقي، قال أبو حاتم: كان صدوقًا حسن الحديث، وقال ابن حبان: كان من أهل الورع والنسك ولم يكن الحديث من صنعته وكثر المناكير في روايته فاستحق الترك، توفي قبل السبعين ومائة.
الجرح والتعديل (7/ 253)، والمجروحين (2/ 253)، وميزان الاعتدال (3/ 543)، وتهذيب التهذيب (9/ 158).