المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية - ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف

[عبد الله بن سليمان الغفيلي]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ

- ‌تقريظ فضيلة الشيخ: حماد بن محمد الأنصاري

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول حياة ابن رجب وآثاره العلمية

- ‌الفصل الأول العصر الذي عاش فيه ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول الناحية السياسية

- ‌المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

- ‌المبحث الثالث الحالة العلمية

- ‌الفصل الثاني حياة ابن رجب الشخصية

- ‌المبحث الأول اسمه ونسبه

- ‌المبحث الثاني كنيته ولقبه

- ‌المبحث الثالث مولده

- ‌المبحث الرابع شهرته

- ‌المبحث الخامس أسرته

- ‌المبحث السادس أخلاقه وصفاته

- ‌المبحث السابع ابن رجب والتصوف

- ‌المبحث الثامن وفاته

- ‌الفصل الثالث حياته العلمية

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم

- ‌المبحث الثاني رحلاته في طلب العلم

- ‌المبحث الثالث شيوخه

- ‌ ترجمة لأشهر شيوخ ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌1 - ابن القيم:

- ‌2 - ابن الخباز:

- ‌3 - أبو سعيد العلائي:

- ‌المبحث الرابع تدريسه

- ‌المبحث الخامس تلاميذه

- ‌ تراجم لثلاثة من المشاهير منهم

- ‌1 - ابن الرسام:

- ‌2).2 -ابن اللحام:

- ‌3 - ابن سعيد الحنبلي:

- ‌المبحث السادس ثقافته ومؤلفاته

- ‌المبحث السابع عقيدته ومذهبه

- ‌1 - عقيدته:

- ‌2 - مذهبه:

- ‌المبحث الثامن مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

- ‌الباب الثاني أثر ابن رجب في توضيح عقيدة السلف في التوحيد وأنواعه ونواقضه

- ‌الفصل الأول تعريف التوحيد وبيان أنواعه والعلاقة بينها

- ‌المبحث الأول تعريف التوحيد لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف التوحيد شرعًا

- ‌المبحث الثالث أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع العلاقة بين أنواع التوحيد

- ‌الفصل الثاني توحيد الربوبية

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الربوبية لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف توحيد الربوبية شرعًا

- ‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

- ‌الفصل الثالث توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الثاني مذهب السلف في أسماء الله وصفاته وموقف ابن رجب منه

- ‌المبحث الثالث أدلة توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع بيانه أن السلف أعلم وأن مذهبهم أسلم وأحكم

- ‌المبحث الخامس بيانه أن سورة الإخلاص فيها صفة الرحمن

- ‌المبحث السادس بيانه أن الاشتراك في الاسم لا يقتضي الاشتراك في المسمى

- ‌المبحث السابع ذكر جملة من الصفات التي ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى

- ‌المبحث الثامن شبهة والرد عليها

- ‌المبحث التاسع رده على المخالفين لمذهب السلف من المعطلة والمشبهة

- ‌المبحث العاشر تنزيه الله سبحانه وتعالى من نسبة الولد إليه

- ‌المبحث الحادي عشر علم الكلام وكلام ابن رجب عليه

- ‌الفصل الرابع توحيد الألوهية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول تعريف توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثاني بيان معنى لا إله إلا الله وفضلها وشروطها

- ‌المطلب الأول بيان معنى كلمة إله

- ‌المطلب الثاني معنى لا إله إلا الله

- ‌المطلب الثالث فضل لا إله إلا الله

- ‌المطلب الرابع الجمع بين أحاديث تدل على أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وأخرى تدل على أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله

- ‌المطلب الخامس شروط الانتفاع بـ (لا إله إلا الله)

- ‌المبحث الثالث ذكر بعض أنواع العبادة

- ‌المبحث الرابع بيانه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين

- ‌الفصل الخامس نواقض التوحيد

- ‌المبحث الأول الشرك وكلام ابن رجب عليه

- ‌المطلب الأول تعريف الشرك لغة

- ‌المطلب الثاني الشرك في الشرع وبيان أقسامه

- ‌المبحث الثاني النفاق وكلام ابن رجب عليه

- ‌المبحث الثالث البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الأول معنى البدعة في اللغة والشرع

- ‌المطلب الثاني أنواع البدع

- ‌المطلب الثالث الرد على محسني البدع وكلام ابن رجب في ذلك

- ‌المطلب الرابع نماذج من البدع وكلام ابن رجب عليها

- ‌المطلب الخامس حكم البدع وأهلها

- ‌المبحث الرابع الغلو وكلام ابن رجب رحمه الله تعالى عليه

- ‌المبحث الخامس مسائل متفرقة متعلقة بهذا الفصل

- ‌1 - التنجيم

- ‌2 - التطيّر والتشاؤم

- ‌3 - الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" وقوله: "فرّ من المجذوم فرارك من الأسد" وقوله: "لا يورد ممرض على مصح

- ‌4 - معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث

- ‌5 - النهي عن البناء على القبور واتخاذها مساجد

- ‌6 - النهي عن سبّ الدهر

- ‌الباب الثالث أثره في توضيح عقيدة السلف في مباحث الإيمان وما يتعلق بها من مسائل

- ‌الفصل الأول معنى الإيمان وبيان أهميّته وما يتعلق به من مسائل

- ‌المبحث الأول تعريف الإيمان لغة

- ‌المبحث الثاني تعريف الإيمان شرعًا

- ‌المبحث الثالث أهمية الإيمان

- ‌المبحث الرابع زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الخامس العلاقة بين مسمّى الإيمان والإسلام

- ‌المبحث السادس حكم مرتكب الكبيرة

- ‌المبحث السابع مسألة تكفير الكبائر بالأعمال الصالحة

- ‌الفصل الثاني الإيمان بالملائكة والكتب والرسل

- ‌المبحث الأول الإيمان بالملائكة والكتب

- ‌المطلب الأول الإيمان بالملائكة

- ‌المطلب الثاني الإيمان بالكتب

- ‌المبحث الثاني تعريف النبيّ والرسول لغة وشرعًا

- ‌المبحث الثالث معنى الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الرابع الغرض من بعثة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث الخامس التفاضل بين الأنبياء

- ‌المبحث السادس بعض خصائص الرسل عليهم الصّلاة والسّلام

- ‌المبحث السابع الإيمان بنبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن كلامه في دعوة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث التاسع بيانه فضل إرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث العاشر النجاة والسعادة في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه

- ‌الفصل الثالث الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الأول تعريف القضاء والقدر

- ‌المبحث الثاني معنى الإيمان بالقضاء والقدر والأدلّة على ذلك

- ‌المبحث الثالث مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المبحث الرابع النهي عن الخوض في القدر

- ‌المبحث الخامس الرضا بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السادس حكم تمنّي الموت وعلاقته بالقضاء والقدر

- ‌المبحث السابع القضاء والقدر وفعل الأسباب

- ‌المبحث الثامن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وبيان معنى حديث "فحج آدم موسى

- ‌الفصل الرابع الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الأول أهمية الإيمان باليوم الآخر

- ‌المبحث الثاني الإيمان بأشراط الساعة

- ‌المبحث الثالث الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وفتنته

- ‌المبحث الرابع الأعمال التي يعذب أو ينعم بها العبد في القبر

- ‌المبحث الخامس مستقر الأرواح

- ‌المبحث السادس الصراط

- ‌المبحث السابع بيان المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

- ‌المبحث الثامن الشفاعة

- ‌المبحث التاسع الجنة ونعيمها

- ‌المبحث العاشر رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة

- ‌المبحث الحادي عشر النار وعذابها

- ‌المبحث الثاني عشر خلق الجنة والنار

- ‌المبحث الثالث عشر الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

‌المبحث الثالث دلائل توحيد الربوبية

ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى أن كل ما في الكون من مخلوقات دليل على تفرد الرب تبارك وتعالى بالربوبية على خلقه أجمعين حيث قال: كل ما في الدنيا يدل على صانعه، ويذكر به، ويدل على صفاته، فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه، وفضله وإحسانه، وجوده، ولطفه.

وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه.

واختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار وغير ذلك يدل على انقضائها، وزوالها

(1)

.

وقال أيضًا رحمه الله تعالى: وفي القرآن شىء كثير من التذكير بآيات الله الدالة على عظمته، وقدرته، وجلاله، وكماله، وكبريائه، ورأفته، ورحمته وبطشه، وقهره، وانتقامه إلى غير ذلك من صفاته العلى وأسمائه الحسنى، والندب إلى التفكر في مصنوعاته الدالة على كماله، فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال، ولا كمال في الحقيقة إلا له سبحانه وتعالى

(2)

.

(1)

لطائف المعارف (ص 333).

(2)

استنشاق نسيم الأنس (ص 24).

ص: 170

فالتفكر والتأمل في الكون الكبير بسماواته وأرضه وإنسانه وحيوانه ونباته وجماده بكل ما فيها من عجائب فيه دلالة تهدي الإنسان إلى ربه وتسوقه إلى الحق والخير ولذلك يقول القائل:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

(1)

والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على النظر والتدبر والتأمل في آيات الله تبارك وتعالى المحسوسة المشاهدة التي يراها كل أحد صغيرًا وكبيرًا وذكرًا أو أنثى بل جميع الناس على مختلف مستوياتهم لتكون دليلًا لهم على وحدانية الله تبارك وتعالى وأنه هو الإله الحق الذي يستحق العبادة دون سواه.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وإذا تأملت ما دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى التفكر فيه أوقعك على العلم به، سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه، وعدله ورضاه، وغضبه وعقابه فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته

(2)

.

ومن تلك الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)}

(3)

.

ومن ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}

(4)

وغيرها من الآيات التي ترشد

(1)

البيت من شعر أبي العتاهية.

انظر: أبو العتاهية أشعاره وأخباره (ص 104).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 237).

(3)

سورة الغاشية الآيات (17 - 20).

(4)

سورة لقمان الآيتان (10، 11).

ص: 171

وتلفت الأنظار إلى التفكر إلى هذا الكون وما فيه من مخلوقات عظيمة تدل على عظم خالقها، وأنه المستحق للعبادة دون سواه.

والأدلة والبراهين الدالة على عظمة الله تبارك وتعالى لا تعد ولا تحصى ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}

(1)

.

وسأقتصر على بيان وإيضاح بعض الدلائل التي تدل على توحيد الربوبية وهي الدلائل التي تعرض لها وذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى في مؤلفاته وهي الدلائل الآتية:

1 -

دلالة الفطرة.

2 -

دلالة النعم.

3 -

دلالة خلق السموات والأرض.

4 -

دلالة خلق النبات.

1 -

دلالة الفطرة:

فطر الله تبارك وتعالى الخلق على توحيده وعبادته، فما من مولود يولد وإلا ويولد على توحيد الله عز وجل كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى هذه الدلالة فقال عند شرحه لحديث: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك"

(2)

.

(1)

سورة فصلت آية (53).

(2)

جزء من حديث أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تفسير البر والإثم (4/ 1980).

ص: 172

قال:

وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور من ضده ويدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار:"إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا"

(1)

.

وقوله: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}

(2)

"

(3)

.

ولهذا سمى الله ما أمر به معروفًا، وما نهى عنه منكرًا، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}

(4)

.

وقال تعالى في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}

(5)

.

وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره، فالقلب الذي دخله نور الإيمان وانشرح به وانفسح سكن للحق، واطمأن به، ويقبله وينفر من الباطل ويكرهه ولا يقبله

(6)

.

(1)

مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4/ 2197).

(2)

سورة الروم آية (30).

(3)

أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (6/ 20).

ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (4/ 2047).

(4)

سورة النحل آية (90).

(5)

سورة الأعراف آية (157).

(6)

جامع العلوم والحكم (2/ 256).

ص: 173

وقد أشار ابن رجب رحمه الله تعالى إلى أهمية التربية والتعليم، فبيّن أن الله سبحانه وتعالى فطر خلقه على معرفته والإيمان به، ولكن البيئة التي يعيش الإنسان فيها، والتربية التي يتربى عليها والتعليم الذي يتعلمه، كلها لها دور كبير في استمرار المولود على ما فطر عليه وهو دين الإسلام أو الانحراف عنه لأن شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض في تزيين الشبهات والشهوات التي تبعد العبد عن هذه الفطرة السليمة.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى عند شرحه للحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي

"

(1)

وقوله: "كلكم ضال إلا من هديته" قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء) وفي رواية: "مسلمين فاجتالتهم الشياطين"

(2)

وليس كذلك، فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه دون غيره، والتهيؤ لذلك، والاستعداد له بالقوة، ولكن لابد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم شيئًا كما قال عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}

(3)

.

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}

(4)

والمراد وجدك غير عالم بما علمك من الكتاب والحكمة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي}

(5)

.

(1)

هذا جزء من حديث قدسي طويل أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم (4/ 1994) من حديث أبي ذر.

(2)

سبق تخريجه (ص 173).

(3)

سورة النحل آية (78).

(4)

سورة الضحى آية (7).

(5)

سورة الشورى آية (52).

ص: 174

فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق، فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى، فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان بالقوة، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه

(1)

"

(2)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا عند قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}

(3)

قال: "فأمره بإقامة وجهه وهو إخلاص قصده وعزمه وهمِّه للدين الحنيف وهو الدين القيم وهو فطرة الله التي فطر العباد عليها، فإن الله ركب في قلوب عباده كلهم قبول توحيده والإخلاص له، وإنما يغيرهم عن ذلك تعليم من علمهم الخروج عنه"

(4)

.

2 -

دلالة نعم الله تبارك وتعالى:

أنعم الله تبارك وتعالى على عباده بنعم كثيرة ظاهرة وباطنه لا تعد ولا تحصى منها نعمة السمع والبصر، ونعمة الخلق والإيجاد وغيرها من النعم كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}

(5)

وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}

(6)

.

ومن نعم الله تبارك وتعالى علينا إنزال الأمطار من السماء لتنبت

(1)

سبق تخريجه (ص 173).

(2)

جامع العلوم والحكم (2/ 185، 186).

(3)

سورة الروم آية (30).

(4)

فتح الباري (3/ 27).

(5)

سورة المؤمنون آية (78).

(6)

سورة النحل آية (53).

ص: 175

الأشجار وتخرج الثمار كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}

(1)

.

فالنعم الكثيرة التي أنعم الله بها علينا تبارك وتعالى تدل على تفرده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والضر والنفع، وأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة دون سواه.

قال ابن رجب رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامى من الناس عليه صدقة

"

(2)

الحديث.

قال: ومعنى الحديث أن تركب هذه العظام، وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ليكون ذلك شكرًا لهذه النعمة.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}

(3)

.

وقال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)}

(4)

.

وقال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ

(1)

سورة ق الآيات (9 - 11).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب فضل الإصلاح بين الناس (3/ 171) ومسلم: كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 699).

(3)

سورة الانفطار الآيات (6 - 8).

(4)

سورة الملك آية (23).

ص: 176

السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}

(1)

.

وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)}

(2)

.

قال مجاهد

(3)

: هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر

(4)

إلى أن قال رحمه الله تعالى: والمقصود أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

(5)

وطلب منهم الشكر، والرضا به منهم

(6)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا: فإذا وفّق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع الشكر، كانت هذه النعمة خيرًا من تلك النعم وأحبّ إلى الله عز وجل، فإن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود والكرم أحبّ إليهم من أموالهم فهم يبذلونها طلبًا للثناء، والله عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين فهو يبذل نعمه لعباده ويطلب منهم الثناء بها، وذكرها منهم، والحمد عليها ويرضى منهم بذلك شكرا عليها، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده حيث كان صلاح العبد وفلاحه، وكماله فيه، ومن فضله سبحانه أنه نسب

(1)

سورة النحل آية (78).

(2)

سورة البلد الآيتان (8، 9).

(3)

مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي شيخ القراء والمفسرين قال ابن سعد: "مجاهد ثقة فقيه عالم كثير الحديث"، توفي سنة 102 هـ.

سير أعلام النبلاء (4/ 449) والبداية والنهاية (9/ 232).

(4)

أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (30/ 199) من قول قتادة، وكذا عزاه السيوطي في الدر المنثور (8/ 521) لقتادة.

(5)

سورة إبراهيم آية (34).

(6)

جامع العلوم والحكم (2/ 227 - 232).

ص: 177

الحمد والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، واستقرض منهم بعضه، ومدحهم بإعطائه، والكل ملكه، ومن فضله ولكن كرمه اقتضى ذلك

(1)

.

3 -

دلالة خلق السموات والأرض:

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وإنما يعبد الله سبحانه بعد العلم به ومعرفته، ولذلك خلق السموات والأرض، وما فيها للاستدلال بهما على توحيده وعظمته كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}

(2)

(3)

.

وقال رحمه الله تعالى أيضًا:

وأخبر سبحانه وتعالى أنه إنما خلق السموات والأرض، ونزل الأمر لنعلم بذلك قدرته وعلمه فيكون دليلا على معرفته، ومعرفة صفاته كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (2)

(4)

.

فخلق السموات والأرض من أعظم الآيات الواضحة الدالة على ربوبية الله تبارك وتعالى، لأن السموات جعلها الله سقفًا محفوظًا تتألف من سبع سموات، وفيها من مخلوقات الله العجيبة ما لا يعلمه إلا الله، فهي تسير بنظام دقيق بلا اختلاف، ولا خلل لأن الله تبارك وتعالى هو الذي يسيرها بقدرته وحكمته كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 235، 236).

(2)

سورة الطلاق آية (12).

(3)

استنشاق نسيم الأنس (ص 45).

(4)

شرح حديث أبي الدرداء (ص 111).

ص: 178

مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}

(1)

.

كما أن الذي أقامها وأمسكها بلا عمد نراها وهي بعيدة المدى إنما هو الخالق القادر على كل شيء المستحق للعبادة وحده دون سواه يقول المولى تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}

(2)

.

ويقول عز وجل: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}

(3)

.

ولهذا لفت الله سبحانه وتعالى عباده إلى النظر في السموات والتفكر في خلقها فقال عز وجل: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)}

(4)

.

وخلق الأرض وما فيها من جبال وأحجار وأشجار وأنهار وبحار وغيرها من مخلوقات الله تعالى الظاهرة والباطنة التي ينتفع بها الإنسان في حياته، فإنها لأدلة واضحة على عظم خلق الله عز وجل وإبداع صنعه وقد نبه الله تبارك وتعالى عباده على ذلك فقال عز وجل:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)}

(5)

.

فخلق السموات والأرض من أعظم دلائل الربوبية كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا

(1)

سورة الملك الآيتان (3، 4).

(2)

سورة فاطر آية (41).

(3)

سورة لقمان آية (10).

(4)

سورة الغاشية الآيتان (17، 18).

(5)

سورة الذاريات آية (20).

ص: 179

يَعْلَمُونَ (57)}

(1)

وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(2)

.

وقد ذم الله سبحانه وتعالى المعرضين عن التفكر في خلق السموات والأرض وما أودعه عز وجل فيهما من مخلوقات فقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)}

(3)

.

وقال عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}

(4)

.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية: يخبر الله تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق، وجنات وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات المتفرد بالدوام والبقاء، والصمدية للأسماء والصفات وغير ذلك

(5)

.

وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى مبينًا عظم خلق السموات والأرض وما فيهما من مخلوقات عظيمة عجيبة تدل دلالة واضحة على عظم خالقها ومبدعها وهو الله تبارك وتعالى الذي أحكم وأحسن كل شيء خلقه عز وجل.

(1)

سورة غافر آية (57).

(2)

سورة يونس آية (101).

(3)

سورة الأنبياء آية (32).

(4)

سورة يوسف آية (105).

(5)

تفسير ابن كثير (2/ 494).

ص: 180

فقال عن السماء: "فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوًا كالنار، ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة ولا عمد تحتها ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها، ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له"

(1)

.

وقال عن الأرض: "وإذا نظرت إلى الأرض وكيف خلقت، رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشًا ومهادًا وذللها لعباده وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال، فجعلها أوتادًا تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها فمدها وبسطها، وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتًا للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتًا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء، وبطنها وطن للأموات، وقد أكثر تعالى من ذكر الأرض في كتابه ودعا عباده إلى النظر إليها والتفكر في خلقها

"

(2)

.

4 -

دلالة خلق النبات:

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: تدقيق النظر والفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته ورحمته فتزداد القلوب هيمانًا في محبته، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 260).

(2)

المصدر السابق (1/ 251، 252).

ص: 181

حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}

(1)

.

زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده وكمال قدرته ويشوق إلى طيب مجاورته في دار كرامته

سبحان من سبحت المخلوقات بحمده، فملأ الأكوان تحميده وأفصحت الكائنات، والشهادة بوحدانيته، فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده

(2)

.

فلو نظر الإنسان إلى عالم النبات وما فيه من عجائب مخلوقات الله لأدرك عظمة الخالق تبارك وتعالى، ولقاده ذلك إلى إفراده بالعبادة دون سواه.

فلو نظرنا إلى الحبة تكون في باطن الأرض فتنمو ويخرج ساقها شاقًا لنفسه طريقًا بين التراب ثم تكبر شيئًا فشيئًا حتى تكون شجرة ثم تخرج الثمرة تؤتي أكلها في حينها بإذن الله عز وجل.

ولو نظرنا إلى البساتين، وما تخرجه بإذن الله تعالى من ثمار مختلفة لرأينا العجب العجاب في صنع الله فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقد أشار الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى إلى ذلك وأوضحه وبيّنه، فقال: هذا عود شجر الكرم يكون يابسًا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فمه الماء واخضرّ

، ثم يخرج الحصرم

(3)

فينتفع الناس به

(1)

سورة الأنعام آية (99).

(2)

لطائف المعارف (ص 330، 331).

(3)

الحصرم: أول العنب، ولا يزال العنب ما دام أخضر حصرمًا، وهو حامض. الصحاح (5/ 1900) ولسان العرب (12/ 137).

ص: 182

حامضًا، ويتناولون منه طبخًا واعتصارًا ثم ينقلب حلوًا فينتفع الناس به حلوًا رطبًا ويابسًا، ويستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول العام، وما يأتدمون بحمضه، وهو نعم الإدام.

فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش والتعجب من صنع صانعه وقدرة خالقه، فينبغي أن يفرغ عقله للتفكر في هذه النعم والشكر عليها.

وأما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرًا فيغطي به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر والشكر حتى ينسى خالقه المنعم عليه بهذه النعم كلها، فلا يستطيع بعد الشكر أن يذكره ويشكره بل ينسى من خلقه ورزقه، فلا يعرفه في شكره بالكلية، وهذه نهاية كفران النعم

(1)

.

فالنبات وما فيه من عجائب من الآيات الكبيرة والدلائل العظيمة على عظم خالقه وموجده وأنه المستحق للعبادة دون سواه وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على أن المقصود الأول من هذه النباتات إنما هو للدلالة على معرفة عظمة خالقه وكمال قدرة موجده.

ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}

(2)

.

ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}

(3)

.

(1)

لطائف المعارف (ص 331).

(2)

سورة الأنعام آية (95).

(3)

سورة النحل الآيتان (10، 11).

ص: 183

ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)}

(1)

.

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أن اختلاف النباتات في الطعم رغم الاتحاد في التربة والماء من العلامات الكبرى لمن تأمل وعقل وتدبر، قال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}

(2)

.

قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، بعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماعها على شراب واحد

(3)

.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}

(4)

.

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)}

(5)

.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله جل جلاله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي

(1)

سورة الحج آية (63).

(2)

سورة الرعد آية (4).

(3)

تفسير الطبري (13/ 98).

(4)

سورة الزمر آية (21).

(5)

سورة غافر آية (13).

ص: 184

من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء {وَمَا يَتَذَكَّر} أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى

(1)

.

وقال محمد الأمين الشنقيطي

(2)

رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته، أي الكونية القدرية ليجعلها علامات لهم على ربوبيته، واستحقاقه العبادة وحده، ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}

(3)

الآية.

ومنها السموات والأرض، وما فيها، والنجوم، والرياح، والسحاب والبحار والأنهار، والعيون والجبال والأشجار، وآثار قوم هلكوا، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 73).

(2)

محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي الجكني، العلامة الأصولي المفسر اللغوي، طلب العلم وحفظ القرآن وهو صغير، ودرس مختلف علوم الشريعة، وكان من كبار العلماء، توفي سنة 1393 هـ.

مقدمة أضواء البيان (1/ 3 - 64) حيث ترجم له تلميذه عطية محمد سالم.

علماء ومفكرون عرفتهم لمحمد المجذوب (161 - 181) والمستدرك على معجم المؤلفين لكحالة (ص 607).

(3)

سورة فصلت آية (37).

ص: 185

بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}

(1)

.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}

(2)

.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}

(3)

.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}

(4)

.

وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن، من أنه هو الذي يري خلقه آياته بينة وزاده إيضاحًا في غير هذا الموضع، فبيّن أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}

(5)

"

(6)

.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن هذه الدلالات والآيات دليل واضح على أن لهذا الكون إلهًا قادرًا حكيمًا يتصرف فيه كيف شاء بيده الخلق والأمر وهو الله سبحانه وتعالى المستحق للعبادة دون سواه.

(1)

سورة البقرة آية (164).

(2)

سورة آل عمران آية (190).

(3)

سورة الجاثية الآيتان (3 - 5).

(4)

سورة يونس آية (6).

(5)

سورة فصلت آية (53).

(6)

أضواء البيان (7/ 74، 75).

ص: 186