الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
مراتب الإيمان بالقضاء والقدر تتلخص في أربعة أمور استنبطها العلماء
(1)
رحمهم الله تعالى من الكتاب والسنّة، وهي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله تعالى السابق المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات، ويدخل في ذلك أفعال العباد وجميع أحوالهم من الأرزاق والآجال والطاعات والمعاصي، فهو سبحانه وتعالى عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض، ومن الأدلّة على هذه المرتبة قوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}
(2)
.
وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}
(3)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من نفس إلّا وقد علم منزلها من الجنّة والنار"
(4)
.
المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء في اللّوح
(1)
انظر: شفاء العليل لابن القيم (ص 66) وما بعدها.
(2)
سورة التوبة، آية (78).
(3)
سورة الحشر، آية (22).
(4)
أخرجه مسلم: كتاب القدر (4/ 2040).
المحفوظ الذي لم يفرّط فيه من شيء، ومن أدلّة هذه المرتبة قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}
(1)
.
(2)
.
(3)
، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"
(5)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أوّل ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ربّ وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"
(6)
.
المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله تعالى النافذة وقدرته الشاملة للكائنات وفق ما علمه وكتبه سبحانه وتعالى في أوقاتها وأماكنها وعلى هيئاتها التي قدّرها لها، فكل ما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن.
(1)
سورة الحديد، آية (22).
(2)
سورة يونس، آية (61).
(3)
سورة هود، آية (6).
(4)
سورة الأنعام، آية (38).
(5)
تقدم تخريجه (ص 605).
(6)
تقدم تخريجه (ص 605).
ومن أدلّة هذه المرتبة قوله تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
(1)
، وقوله تعالى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(2)
، وقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"
(4)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردّها حين شاء. . ."
(5)
.
وقد أثبت الله تعالى للعبد مشيئة ولكنها لا تستقلّ بل هي تابعة لمشيئة الله تعالى، قال الله عز وجل:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}
(6)
، وقال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)}
(7)
.
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء هو خالق العباد وخالق أفعالهم ومقدّر أرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم قضى ذلك تعالى وقدّره لحكم يعلمها، فما من ذرّة في السموات ولا في الأرض إلّا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها سبحانه لا خالق غيره ولا ربّ سواه.
(1)
سورة آل عمران، آية (40).
(2)
سورة الأنعام، آية (39).
(3)
سورة يس، آية (82).
(4)
أخرجه مسلم: كتاب القدر - باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (4/ 2045).
(5)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد - باب في المشيئة والإرادة (8/ 192).
(6)
سورة التكوير، آية (29).
(7)
سورة الإنسان، آية (30).
وهذه المرتبة، أي مرتبة الوجود والخلق هي وقوع الأشياء طبقًا لما علمه وطبقًا لما كتبه ولما شاءه عز وجل، ومن أدلّة هذه المرتبة قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)}
(1)
، وقوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(2)
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، إن الله خلق للجنّة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"
(4)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق كل صانع وصنعته"
(5)
.
قال البخاري رحمه الله تعالى عقب هذا الحديث: "فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة".
هذه مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، ومن لم يؤمن بها جميعًا لم يكن مؤمنًا بالقدر.
وقد أوضح ابن رجب رحمه الله تعالى هذه المراتب وبيّنها وجعلها
(1)
سورة الزمر، آية (62).
(2)
سورة فاطر، آية (3).
(3)
سورة الفرقان، آية (2).
(4)
أخرجه مسلم: كتاب القدر (4/ 2050).
(5)
أخرجه البخاري: في خلق أفعال العباد (ص 73)، وابن أبي عاصم في السنّة (1/ 158)، والحاكم (1/ 31)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه أيضًا البيهقي في شعب الإيمان (1/ 209) كلّهم أخرجوه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
في درجتين كل درجة تتضمّن مرتبتين، فقال: "والإيمان بالقدر على درجتين:
إحداهما: الإيمان أن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشرّ وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنّة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعدّ لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل السنّة والجماعة، وتنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته، وكعمرو بن عبيد
(1)
وغيره.
وقد قال كثير من أئمّة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرّوا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذّب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقرّوا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا، لأن ما أقرّوا به حجّة عليهم فيما أنكروه
(2)
.
(1)
عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري المعتزلي القدري، قال الخطيب:"كان عمرو يسكن البصرة وجالس الحسن البصري، وحفظ عنه اشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنّة، فقال بالقدر ودعا إليه واعتزل أصحاب الحسن، توفي سنة 144 هـ، وقيل غير ذلك".
تاريخ بغداد (12/ 162)، ووفيات الأعيان (3/ 460)، وميزان الاعتدال (3/ 273).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 60، 61).