الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع بيانه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين
ذكرت فيما سبق أن عبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، ولا تعرف العبادة إلا عن طريق الشرع فليس لأحد أن يعبد الله تبارك وتعالى إلا بما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع حسن النية وصلاح القصد في العبادة وبهذا يتبين لنا أنه لابد لصحة أي عمل نريد أن نتقرب به إلى الله عز وجل من شرطين أساسين مجتمعين، إذا فقد شرط منهما فإن العمل يكون مردودًا على عامله وهذان الشرطان هما:
1 -
أن يكون العمل خالصًا لوجه الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
2 -
أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله تعالى في كتابه أو بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم في سنته.
وقد بين ابن رجب رحمه الله تعالى هذين الشرطين في مواضع مختلفة من مؤلفاته، وبين أهميتها في كل عمل يتقرب به العبد إلى الله عز وجل.
من ذلك قوله رحمه الله تعالى: "الدين يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات والتوقف على الشبهات
…
، وإنما يتم ذلك بأمرين:
أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة وهذا هو
الذي يتضمنه حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"
(1)
.
الثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل كما تضمنه حديث عمر "الأعمال بالنيات"
(2)
.
وقال الفضيل
(3)
في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
(4)
قال: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.
وقد دل على هذا الذي قال الفضيل قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
…
(5)
(6)
.
وقال رحمه الله تعالى: "فكما أن كل عمل لا يراد به الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود (3/ 167) ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور (3/ 1343).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف بدأ الوحي (1/ 2) ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنية"(3/ 1515).
(3)
الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخراساني الإمام القدوة الثبت، قال النسائي وغيره: ثقة مأمون رجل صالح، توفي سنة (187). وفيات الأعيان (4/ 47) وتذكرة الحفاظ (1/ 245) وشذرات الذهب (1/ 361).
(4)
سورة الملك آية (2).
(5)
سورة الكهف آية (110).
(6)
جامع العلوم والحكم (1/ 26، 27).
ورسوله فليس من الدين في شيء
(1)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: وليس الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل، صوابًا على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها، فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملًا بالجوارح"
(2)
.
هذه هي الشروط التي قررها ابن رجب رحمه الله تعالى لقبول العمل، وقد قررها العلماء أيضًا قبل وبعد ابن رجب رحمه الله تعالى وهي شروط استنبطها العلماء رحمهم الله تعالى من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان هما حقيقة قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وتخلف هذين الشرطين ينتح عنه إما الشرك بالله عز وجل وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل إلا التوبة.
وإما الابتداع في دين الله عز وجل، والتقرب إليه بما لم يشرعه وفي هذا تنقيص للدين ولمن جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي الكلام عن الشرك والبدع مفصلًا في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
وينقسم الناس بالنسبة لهذين الشرطين حسب وجودها وعدمها إلى أربعة أقسام هي:
القسم الأول: وهم المخلصون لله تبارك وتعالى في جميع أعمالهم
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 141).
(2)
المحجة في سير الدلجة (ص 52).
السائرون على هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورًا، وكذلك جميع أعمالهم وعبادتهم موافقة لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل الإخلاص والمتابعة للمعبود.
القسم الثاني: وهم من لا إخلاص لهم ولا متابعة، فأعمالهم ليست خالصة لله وليست موافقة لشرعه، كالذين يزينون أعمالهم للناس بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل.
القسم الثالث: وهم الذين يخلصون أعمالهم لله تبارك وتعالى، لكنها على غير موافقة شرع الله تبارك وتعالى وهؤلاء كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر كالذين يرون أن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة، فهؤلاء أعمالهم خالصة ولكنها غير موافقة لشرع الله، فهي مردودة عليهم لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه وموافقًا لشرعه.
القسم الرابع: وهم الذين أعمالهم موافقة لشرع الله تبارك وتعالى لكنها لغيره كالذي يصلي ليقال، وكالذي يقاتل رياء وحمية وشجاعة فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير صالحة لأنها غير خالصة لوجه الله تبارك وتعالى فلا تقبل.
هذه الأقسام الأربعة لخصتها من كتاب مدارج السالكين
(1)
لابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.
والخلاصة في هذا كله أن العبادات كلها مدارها على الإخلاص والمتابعة، ومن لم يحقق هذا فليس عابدًا لله على الحقيقة وإن فعل ما فعل وقال ما قال.
(1)
مدارج السالكين (1/ 83).