الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن الاحتجاج بالقدر على المعاصي وبيان معنى حديث "فحج آدم موسى
"
لقد ضل كثير من الناس في هذه المسألة وأخذ كثير منهم ينغمس في فعل المعاصي والفواحش ثم يحتج على ذلك بالقدر وأنه لا حيلة له فيما قدر عليه، وهذا في غاية البطلان ولا يقوله إلا صاحب هوى، لأنه لا يجوز لمن عصى الله ورسوله أن يدفع عن نفسه اللوم بأن الله هو الذي قدر عليه الوقوع في المعصية وشاءها منه، فإن هذا الاحتجاج معارضة لشرع الله، وأمره، ومخاصمة له سبحانه وتعالى في أمره وشرعه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وطعن في حكمته وعدله، ودفع له بقضائه وقدره وفي هذا إبطال للشرع وللدين كله
(1)
.
وقد زعم المشركون أن الله سبحانه وتعالى قد رضي منهم الكفر لأنه في نظرهم يلزم من مشيئة الله لكفرهم رضاه به، فأبطل الله حجتهم ودحضها بقوله عز وجل:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}
(2)
.
فهذا جواب رب العزة لمن يحتج بقدره سبحانه على معصيته، ولله
(1)
انظر: رسالة في الاحتجاج بالقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموعة الرسائل الكبرى (2/ 140).
(2)
سورة الأنعام آية (148، 149).
الحجة البالغة، فقد بيّن سبحانه وتعالى كذبهم في الاحتجاج بالمشيئة على ما وقعوا فيه من الشرك ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الخرص ثم بيّن أن الحجة له سبحانه وتعالى على عباده بقوله تبارك وتعالى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}
(1)
ولو صح الاحتجاج بالقدر على مثل هذا لما حُدَّت الحدود وفرضت الفرائض وخلقت الجنة والنار والله سبحانه وتعالى يقول: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}
(2)
وهذا لا ينافي القول بأن الله سبحانه وتعالى خلق أفعال العباد كلها وقدرها عليهم
(3)
.
ولو كان القدر حجة للعبد فيما يقترفه من المعاصي لكان حجة لجميع الناس في كل شيء لأنهم مشتركون في القدر.
والعجيب أن من يحتج بالقدر في المعاصي لا يحتج بالقدر إذا وقع عليه ظلم بل يغضب ويلجأ إلى كل وسيلة لرفع الظلم عن نفسه ولم نسمع أحدًا منهم يقول بأن الله قدر لي ذلك وكتبه علي، ولذلك لا حيلة لي، مما يدل على أن الشيطان أضلهم وزين لهم أعمالهم، وإلا فيلزم من احتج بالقدر في المعاصي أن لا يلوم من ظلمه ولا ينكر على من شتمه وأخذ ماله أو أهلك حرثه ونسله، وهو لا يقر بذلك ولذلك فإن الاحتجاج بقدر الله على معصيته مع ظهور عقابه سبحانه للعصاة، فيه نسبة الظلم إليه سبحانه وهو أمر يتنافى مع الإيمان بالله عز وجل
(4)
.
إضافة إلى أن المحتج بالقدر على معصيته متقول على الله بغير علم
(1)
سورة الأنعام آية (149).
(2)
سورة النساء آية (165).
(3)
انظر: شفاء العليل (ص 37، 38).
(4)
انظر: رسالة في القضاء والقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموعة الرسائل الكبرى (2/ 90 - 93).
إذ كيف يصح للعاصي أن يحتج بأن الله كتب عليه المعصية قبل صدور ذلك منه، وقدر الله قبل وقوعه غيب لا يعلمه إلا هو عز وجل مع أنه مخاطب قبل إقدامه على عصيان ربه بطاعته والتزام أمره، وبمثل هذه الحجة البالغة أجاب سبحانه على هؤلاء المتذرعين بقدر الله في مواضع أخرى من القرآن، من ذلك قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
(1)
.
فليس الإيمان بالقدر حجة للإنسان على فعل المعاصي أو التهاون بما أوجب الله عليه لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان عقلًا يتمكن به من الإرادة وأعطاه قدرة يتمكن بها من العمل، ولذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية ولا ترك واجب وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه، وكذلك لا يؤاخذ الله العبد على ما فعله من محرم جاهلًا به أو ناسيًا لأنه ليس مختارًا لفعله لو علم بتحريمه، فالاحتجاج بالقدر على المعاصي أو ترك الواجبات حجة داحضة باطلة لا يفعلها إلا المبطلون المكابرون.
كما أن هذه الحجة يبطلها العقل وذلك لأن المحتج بالقدر ليس عالمًا بالقدر فيبني عمله عليه فكيف يحتج بما ليس له تأثير في فعله إذ لا تأثير للشىء في فعل الفاعل حتى يكون عالمًا بهذا المؤثر، فالإنسان العاقل إذا تأمل الأمور بعقله ونظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علم علمًا يقينًا أنه لا حجة للإنسان بقضاء الله وقدره على فعله للمعاصي، والواجب على المسلم أن يجعل القضاء والقدر وسيلة إلى الاستعانة بالله وطلب الهداية منه لأنه سبحانه وتعالى بيده مقاليد الأمور كلها، فالصحابة رضي الله عنهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على القضاء
(1)
سورة الأعراف آية (28).
قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء"
(1)
(2)
. . .
(3)
.
والمحتجون بالقدر على المعاصي هم الجبرية
(4)
من الجهمية ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم.
ومن أشهر الأدلة التي استدلوا بها على تسويغ تفريطهم وعصيانهم حديث احتجاج آدم وموسي، عليهما الصلاة والسلام وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى"
(5)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 606).
(2)
سورة الليل آية (5 - 10).
(3)
انظر: معارج القبول (2/ 361).
(4)
سموا بذلك نسبة إلى الجبر وهو نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى، فهم يقولون: إن العبد مجبور على فعله فهو كالريشة في مهب الريح وكحركات المرتعش ليس له إرادة ولا قدرة على الفعل، وممن قال بهذا الجهم بن صفوان، وهم أصناف، فمنهم الجبرية الخالصة وهم الذين يقولون بقول جهم، ومنهم من يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة.
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص 68) ومقالات الإسلاميين (1/ 338) والملل والنحل (1/ 85).
(5)
أخرجه البخاري: كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى (7/ 214) ومسلم: كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام (4/ 2042).
وقد اختلفت الأقوال
(1)
تجاه هذا الحديث ويمكن حصرها فيما يأتي:
1 -
هناك فريق كذبوا هذا الحديث وردوه وقالوا: لو صح هذا الحديث لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، وهذا هو قول القدرية من المعتزلة ومن نحا نحوهم.
2 -
وهناك فريق آخر جعلوا هذا الحديث حجة على فعل المعاصي فكلما عملوا معصية احتجوا بالقدر واستدلوا بهذا الحديث وهم الجبرية ومن وافقهم.
3 -
وهناك فريق ثالث فسروه بعدة تفسيرات فبعضهم قال: إنما حجه لأنه كان أباه، والابن لا يلوم الأب.
وقال بعضهم: إنما حجه لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى.
وقال بعضهم: إنما حجه لأن الاحتجاج به كان في الآخرة دون الدنيا.
وقال بعضهم: إنما حجه لأن اللوم كان بعد التوبة.
وهذه الأقوال كلها لا تسلم من ضعف أو اعتراض، فمن رد الحديث وكذبه فلا عبرة بقوله لأن الحديث ثابت.
وأما من قال إنما حجه لأنه أبوه فهو قول فاسد، لأن الحق يجب المصير إليه سواء كان مع الأب أو الابن أو العبد أو السيد، وكذلك قول
(1)
انظر: حكاية هذه الأقوال والردود والمناقشات فيها في مجموع الفتاوى (8/ 303 - 305) ودرء تعارض العقل والنقل (8/ 418 - 420) وشفاء العليل (ص 28 - 31) وفتح الباري لابن حجر (11/ 509 - 511).
من قال لأن الذنب كان في شريعة والملام في أخرى فهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها، وإن كانت لم تجمعهم شريعة واحدة.
وكذلك قول من قال إنه لامه في غير دار التكليف فهذا فاسد لوجهين:
1 -
أن آدم عليه السلام إنما احتج بالقدر السابق، ولم يقل لموسى عليه السلام لم تلومني وأنا لست في دار التكليف.
2 -
أن هذه الحجة مبنية على أن اللوم لا يصح إلا في دار التكليف وهذا منقوض بوقوع اللوم في غير دار التكليف كما يلوم الله سبحانه بعض عباده المستحقين للذم بعد الموت في يوم القيامة كقوله تعالى للكفار يوم القيامة: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}
(1)
.
وأما من قال إن آدم حج موسى لأن موسى لامه بعد التوبة من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا القول وإن كان أقرب إلى الصواب من غيره فإنه لا يصح لثلاثة وجوه:
أحدها: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه، ولا جعله حجة على موسى، ولم يقل أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله واجتباه بعد هداه، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلًا عن كليم الرحمن.
(1)
سورة المؤمنون آية (105).
الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه، فلا يلتفت إليه
(1)
.
وأحسن جواب فسر به هذا الحديث هو أن موسى عليه السلام إنما لام آدم على المصيبة التي أصابته وذريته وهي خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض، ولم يكن اللوم لأنه عصى أمر الله وأكل من الشجرة يدل على ذلك قوله في الحديث:"أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة" ولم يقل له: لماذا خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟ . . . فاللوم واقع على المصيبة، وهي مقدرة فحج آدم موسى، والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بالتسليبم لقدر الله السابق كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}
(2)
.
وهذا الجواب هو جواب شيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
وتلميذه ابن القيم
(4)
رحمهما الله تعالى.
وهو ما قال به ابن رجب رحمه الله تعالى حيث قال: "لما التقى آدم وموسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق، والاحتجاج بالقدر على المصائب حسن كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل"
(5)
. . .
(6)
والله أعلم.
(1)
شفاء العليل (ص 30، 31).
(2)
سورة التغابن آية (11).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/ 319).
(4)
انظر: شفاء العليل (ص 38).
(5)
تقدم تخريجه (ص 361).
(6)
لطائف المعارف (ص 55).