الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذنوب، فإنها تسخط الله عز وجل، فإذا سخط الله على عبده شقى في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة"
(1)
.
وبهذا نعلم صحة ما ذهب إليه ابن رجب رحمه الله تعالى من حرمة البناء على القبور واتّخاذها مساجد، كما قال بذلك سلف الأمة رحمهم الله تعالى.
وهذا كلّه من سدّ باب الشرك ووسائله، لأن الشارع الحكيم إذا حرّم شيئًا حرّم أسبابه ووسائله، وإذا نهى عن شيء نهى عن كل ما يوصل إليه ويقرب منه ومن ذلك أن الإسلام لما جاء بالنهي عن الشرك، نهى عن أسبابه وسدّ ذرائعه الموصلة إليه والمسبّبة له.
ولذلك كان البناء على القبور ووضع القباب لها واتّخاذها مساجد سببًا في وقوع الشرك، وهذه بلية مشاهدة في بلدان كثيرة وخصوصًا في زماننا هذا، أن هذه المشاهد أصبحت تقصد وتشدّ الرحال إليها ويطلب من أهلها قضاء الحوائج وتحقيق المطالب، ويقع عندها من الشرك والمنكرات ما لا يشكّ معه عاقل من وجوب اقتلاع تلك الأبنية والقباب والمشاهد الوثنية وعدم إبقاء أيّ أثر لها.
والله أسأل أن يبصّر المسلمين بأمور دينهم وأن يردّهم للعمل بكتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
6 - النهي عن سبّ الدهر
كان من عادة العرب في الجاهلية أن يسبّوا الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بهم من موت أو تلف مال وربما لعنوه، ويقولون: أبادهم الدهر وأصابتهم قوارع الدهر، ويكثرون من ذكر ذلك
(1)
لطائف المعارف (ص 77).
في أشعارهم، وكل ذلك في الحقيقة إنما يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه هو المدبّر لهذا الكون والخالق له، والمصرف لهذا الدهر، والدهر ليس له إرادة وإنما هو ظرف مخلوق مسخّر ومدبّر بأمر الله تعالى، فالسبّ والشتم في الحقيقة والتسخّط يعود إلى الله سبحانه وتعالى، واعققاد أن الزمان هو الفاعل حقيقة من عقيدة الجاهلين الذين ينفون الإله سبحانه وتعالى وينكرونه.
وقد حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عقيدتهم هذه وردّ عليهم، فقال عز وجل:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)}
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، أي ما ثم إلّا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة والإلهيون منهم
…
وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرّر مرات لا تتناهى فكابروا المعقول وكذّبوا المنقول، ولهذا قالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ، قال الله تعالى:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ، أي يتوهمون ويتخيّلون"
(2)
.
وقد ورد النهي عن سبّ الدهر في أحاديث كثيرة، لأن في ذلك مشابهة للمشركين، ولأن السبّ في الحقيقة إنما ينصرف إلى من بيده الأمور كلّها، وهو الله سبحانه وتعالى.
(1)
سورة الجاثية، آية (24).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 150).
ومما ورد في النهي عن سب الدهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار"
(1)
.
ومنها حديثه الآخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما"
(2)
.
ومنها حديثه الآخر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر"
(3)
.
ومنها حديثه الآخر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيّام والليالي لي أجدّدها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك"
(4)
.
قال المنذري رحمه الله تعالى: "ومعنى الحديث أن العرب كانت إذا نزلت بأحدهم نازلة، وأصابته مصيبة أو مكروه يسبّ الدهر اعتقادًا منهم أن الذي أصابه فعل الدهر كما كانت العرب تستمطر بالأنواء، وتقول: مطرنا بنوء كذا اعتقادًا أن فعل ذلك فعل الأنواء، فكان هذا كاللعن الفاعل، ولا فاعل لكل شيء إلّا الله تعالى، خالق كل شيء وفاعله،
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (8/ 197)، ومسلم: كتاب الأدب - باب النهي عن سبّ الدهر (4/ 1762).
(2)
أخرجه مسلم: كتاب الأدب - باب النهي عن سبّ الدهر (4/ 1762).
(3)
أخرجه مسلم: كتاب الأدب - باب النهي عن سبّ الريح (4/ 1763).
(4)
أخرجه أحمد (2/ 496)، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 71): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وقال الألباني: وهذا إسناد جيد. سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 58).
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك"
(1)
.
وقد وقع بعض المسلمين في عصرنا الحاضر فيما وقع فيه هؤلاء المشركون الدهرية، فما نزال نسمع من الجهلة والمتعلّمين سبابًا للزمان والدهر كلما نزل بهم مكروه أو ضاقت بهم سبل الحياة، وهذا ناتج عن ضعف الإيمان والجهل بالدين، والواجب على السلم أن يرضى بقضاء الله وتدبيره حتى يتمّ له توحيده، ومن وقع في شيء من ذلك فليثب وليستغفر الله من ذلك.
وقد تناول ابن رجب رحمه الله تعالى هذه المسألة، فقال: "واعلم أن الذمّ الوارد في الكتاب والسنّة ليس هو راجعًا إلى زمانها الذي هو اللّيل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله تعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا
…
وليس الذمّ راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادًا ومسكنًا، ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر، ولا إلى ما بثّ فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كلّه من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، وإنما الذمّ راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضرّ عاقبته أو لا تنفع؛ كما قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}
(2)
…
"
(3)
.
وقال رحمه الله تعالى أيضًا: "وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان
(1)
الترغيب والترهيب (3/ 482).
(2)
سورة الحديد آية (20).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 359 - 361).
كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كلّه خلق الله تعالى وفيه أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو شؤم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى"
(1)
.
فسبّ الدهر وشتمه لا يجوز بأيّ حال من الأحوال سواء اعتقد السابّ أن الزمان والدهر فاعل حقيقة أو لم يعتقد ذلك، لأن الحديث صريح في النهي عن ذلك، قال صاحب تيسير العزيز الحميد:"والحديث صريح في النهي عن سبّ الدهر مطلقًا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك، كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام"
(2)
.
وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى أنّ من سبّ الدهر يقع في ثلاث مفاسد عظيمة، فقال: في هذا ثلاث مفاسد عظيمة:
إحداها: سبّه من ليس بأهل أن يسبّ، فإن الدهر خلق مسخّر من خلق الله، منقاد لأمره، مذلّل لتسخيره، فسابّه أولى بالذمّ والسبّ منه.
الثانية: أن سبّه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضرّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرّ من لا يستحق الضرر، وأعطى من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وإشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدًا، وكثير من الجهّال يصرح بلعنه وتقبيحه.
الثالثة: أن السبّ منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتّبع الحقّ فيها أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وقعت أهواؤهم حمدوا الدهر، وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر، فربّ الدهر تعالى هو
(1)
لطائف المعارف (ص 76).
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص 545).
المعطي المانع الخافض الرافع، المعزّ المذلّ، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبّتهم للدهر مسبّة لله عز وجل، ولهذا كانت مؤذية للربّ تعالى
…
فسابّ الدهر دائر بين أمرين لابدّ له من أحدهما: إما سبه لله، أو الشرك به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسبّ من فعله، فقد سبّ الله
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا الدهر)، قال الخطابي: معناه أنا صاحب الدهر ومدبّر الأمور
(2)
.
وقال القاضي عياض
(3)
رحمه الله تعالى: "زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدّة زمان الدنيا"
(4)
.
وقال شيخنا فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: وقوله: (أنا الدهر) لا يدلّ على أنه تعالى اسمه الدهر، لأنه فسّره بقوله:"بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"، فكونه تعالى بيده الأمر يقلب اللَّيل والنهار هو معنى قوله:(أنا الدهر)
(5)
.
(1)
زاد المعاد (2/ 354، 355).
(2)
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي (3/ 1904).
(3)
عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي أبو الفضل الحافظ المحدّث الفقيه، وهو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، صنّف كتبًا كثيرة، منها: الشفا في شرف المصطفى، وترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك وغيرها، توفي سنة 544 هـ.
الصلة لابن بشكوال (2/ 453)، ووفيات الأعيان (3/ 483)، وسير أعلام النبلاء (20/ 212)، ونفح الطيب (7/ 333).
(4)
فتح الباري لابن حجر (13/ 566).
(5)
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 351).