الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الرد على محسني البدع وكلام ابن رجب في ذلك
هناك فريق من الناس يقسمون البدع إلى بدع حسنة وسيئة وإلى بدع مذمومة ومحمودة، وهذا تقسيم لا أصل له، وإنما هو من تلبيس إبليس جاءوا به من عند أنفسهم ليسوغوا الأحداث في الدين، والذي دعاهم إلى هذا التقسيم هو تمسكهم ببعض النصوص التي ليس لهم في الحقيقة دلالة فيها لأن تقسيم البدع إلى هذا التقسيم لا دليل عليه من الشرع بل إن فيه مخالفة صريحة لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
وكل بدعة ضلالة"
(1)
وهم يقولون: لا، بل البدعة منها ما هو بدعة حسنة ومنها ما هو بدعة سيئة، وقد رد ابن رجب رحمه الله تعالى على هذا التقسيم وبين أن البدع جميعها مذمومة سواء في الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات فقال رحمه الله تعالى:"فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج منه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"
(2)
فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة"
(3)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 419).
(2)
تقدم تخريجه (ص 382).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 291).
وهؤلاء الذين قسموا البدع إلى حسنة وسيئة احتجوا بنصوص لا دليل لهم فيها وإنما هي شبهات تعلقوا بها، واغتر بها من لا علم عنده من المتصوفة والجهال والعوام مما دعاهم إلى أن يتعبدوا الله سبحانه وتعالى بعبادات لم ترد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا نهاهم عالم أو أحد طلبة العلم عن ذلك قالوا: أن ما نفعله بدعة حسنة وليس بدعة سيئة.
وقد ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى النصوص والأمور التي تعلقوا بها ورد عليهم فيها، وبيّن أنه لا حجة لهم فيها فقال:"وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك من البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: "نعمت البدعة هذه"
(1)
وروي عنه أنه قال: "إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة"
(2)
.
وروي عن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليه:
فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانًا وهو صلى الله عليه وسلم، صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك، معللًا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب صلاة التراويح (2/ 252).
(2)
بهذه الرواية أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/ 42) وانظر: صلاة التراويح للألباني (ص 42).
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
ومن ذلك آذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه
…
ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يكتب مفرقًا أو مجموعًا، بل جمعه صار أصلح.
وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف، وإعدامه لما خالفه، خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عين المصلحة
…
وقد روى الحافظ أبو نعيم
(1)
بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد
(2)
قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة فما
(1)
أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق المهراني أبو نعيم الأصبهاني الإمام الحافظ الثقة، له مؤلفات كثيرة منها:"ذكر أخبار أصبهان، وصفة الجنة" توفي سنة 430 هـ.
وفيات الأعيان (1/ 91) وتذكرة الحفاظ (3/ 1092) وشذرات الذهب (3/ 245).
(2)
أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، له كتب في الزهد والرقائق، قال الخطيب: ثقة، وقال الذهبي: لم أظفر له بوفاة، وكأنها في حدود الستين ومائتين.
تاريخ بغداد (6/ 120) وتذكرة الحفاظ (2/ 586).
وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم واحتج بقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هي
(1)
. ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبل أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع. وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة: يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا، وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا وأنه قال: المحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة، وما أحدث فيه من الخير وكثير من الأمور التي أحدثت لم يكن قد اختلف العلماء في أنها بدعة حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا
(2)
.
فمنها: كتابة تفسير الحديث والقرآن، كرهه قوم من العلماء ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسعة الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك، وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما أحدث في ذلك بعدهم، فيعلم بذلك السنة من البدعة، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: "إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول"
(3)
وابن مسعود قال: "هذا في زمن الخلفاء الراشدين"
(4)
.
فقد أوضح ابن رجب رحمه الله تعالى في كلامه السابق الحجج
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 113).
(2)
أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 469) وفي المدخل (ص 206).
(3)
أخرجه ابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى (2/ 330).
(4)
جامع العلوم والحكم (2/ 291 - 295).
التي استدل بها من قال أن هناك بدعة حسنة وسيئة، وبين أنه لا حجة لهم فيها.
وبهذا يتبين أن البدع كلها ضلال، وكلها أحداث في دين الله عز وجل بما لم يشرعه، وتقسيمها إلى حسنة وسيئة تقسيم باطل مردود بنصوص الكتاب والسنة.