الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الناحية السياسية
وقع في العالم الإسلامي قبيل مولد ابن رجب رحمه الله تعالى -حادثان رهيبان تحطمت على إثرهما دولة الإسلام وزالت معالمها وكان لها أكبر الأثر في تنبيه المسلمين من رقدتهم وغفلتهم- وهذان الحادثان هما:
1 -
استيلاء التتار الذين جاءوا من شمال الصين إلى بغداد، وقتلهم للخليفة والعلماء، وتدميرهم الشام وتهديد مصر، وكان سقوط بغداد في أيدي التتار سنة 656 هـ
(1)
.
2 -
الحروب الصليبية التي استمرت نحو قرنين من الزمن من سنة 490 هـ - 690 هـ وراح ضحيتها أعداد هائلة من الأرواح.
يقول ابن الأثير
(2)
رحمه الله تعالى في أحداث ذلك العصر: "لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بعصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها ظهور هؤلاء التتر قبحهم الله، أقبلوا من المشرق ففعلوا
(1)
انظر: النجوم الزاهرة (7/ 50) والذيل على الروضتين (ص 198، 199).
(2)
عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الجزري الشيباني الإمام المحدث الأديب، كان إمامًا في التاريخ، له مؤلفات مفيدة منها: الكامل في التاريخ، ومعرفة الصحابة، توفي سنة 630 هـ.
وفيات الأعيان (3/ 348) وسير أعلام النبلاء (22/ 353).
الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها. . . ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من الغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم"
(1)
.
وقد استمر زحف التتار على بلاد المسلمين وتخريبهم لها فأثاروا الرعب في قلوب الناس بما قاموا به من أعمال التخريب والتدمير والقتل يقول ابن كثير وهو يصف الحال: "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشباب ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقُنِي الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب ففتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك المساجد والجوامع، والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضى
(2)
وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها
(1)
الكامل في التاريخ (12/ 360).
(2)
هو محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن العلقمي البغدادي الرافضي وزير المستعصم، كان رافضيًا خبيثًا رديء الطوية على الإسلام وأهله، كان ذا حقد وغل على أهل السنة وقد فعل ما فعل بالإسلام وأهله ليحقق أهدافه ويبلغ غايته ولكن لقي جزاءه في الدنيا حيث أن التتار الذين ساعدهم أهانوه ثم مرض ومات غمًا وغبنًا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وكان هلاكه سنة 656 هـ. العبر (3/ 284) والبداية والنهاية (13/ 201، 202).
خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة. . . " اهـ
(1)
.
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للمسلمين رجلًا صالحًا هو الملك قطز
(2)
الذي خاض المعركة ضد التتار وانتصر عليهم في معركة عين جالوت
(3)
ودخل قطز دمشق ورفرفت راية الإسلام فحكم مصر والشام معًا.
وقد وصف ابن كثير رحمه الله تعالى ذلك فقال في حوادث سنة 658 هـ: "إن الملك المظفر قطز صاحب مصر لما بلغه أن التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا، وقد نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة، وقد عزموا على الدخول إلى مصر وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر -وليته فعل- وكان في صحبته الملك المنصور صاحب حماه وخلق من الأمراء وأبناء الملوك. . . والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى
(1)
البداية والنهاية (13/ 191، 192).
(2)
هو: قطز بن عبد الله العزي، سيف الدين ثالث ملوك الترك المماليك بمصر والشام، قتل وهو في طويق عودته من الشام إلى مصر سنة 658 هـ.
البداية والنهاية (13/ 214) والنجوم الزاهرة (7/ 72) وذيل الروضتين (ص 210).
(3)
عين جالوت: هي بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين. معجم البلدان (4/ 177).
يستمد هولاكو
(1)
فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان فاقتتلوا قتالا عظيمًا، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته. . . . وهرب من بدمشق منهم. . . فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدًا، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون"
(2)
.
وقد تولى خلافة المسلمين بعد سقوط بغداد بثلاث سنين أبو القاسم أحمد
(3)
بن الخليفة الظاهر وذلك سنة 659 هـ
(4)
غير أن حالة الضعف التي تعانيها البلاد الإسلامية نتيجة الصراع على السلطة قد شجعت التتار على العودة إلى بلاد المسلمين ومهاجمتها وفعلا عادوا وكان آخر موقعة
(1)
هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان، كان ملكًا جبارًا قتل من المسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، وكان لا يتقيد بدين من الأديان، وإنما كانت همته في تدبير مملكته حتى أباده الله سنة 664 هـ.
البداية والنهاية (13/ 235) وجامع التواريخ (219 - 341).
(2)
البداية والنهاية (13/ 209، 210).
(3)
أحمد ابن الخليفة الظاهر بن الناصر المستضيء أبو القاسم العباسي يعتبر أول الخلفاء العباسيين بمصر، ولقب بالمستنصر، قتل سنة 660 هـ في معركة ضد التتار.
البداية والنهاية (13/ 219) والنجوم الزاهرة (7/ 206) والسلوك للمقريزي (1/ 448).
(4)
انظر: الذيل على الروضتين (ص 213).
منهم حين التقت جيوشهم بقيادة غازان مع جيوش المسلمين بقيادة السلطان الناصر محمد بن قلاوون
(1)
ومعه الخليفة في موقعة مرج الصفراء سنة 702 هـ على مقربة من حمص فهزم التتار فيها شر هزيمة ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك
(2)
. وأما الصليبيون فقد استمرت غاراتهم وهجماتهم على المسلمين نحو قرنين من الزمن، فهم في حملتهم الأولى سنة 491 هـ استولوا على القدس والرُها وقتلوا فيها آلاف المسلمين واستمروا على هذه الحال يعيثون في الأرض فسادا بحملاتهم المتتالية على بلاد المسلمين حتى هيأ الله سبحانه وتعالى للمسلمين حكامًا أقوياء تمكنوا من استرداد ما استولى عليه الصليبيون أمثال زنكي
(3)
الذي استرد الرها سنة 539 هـ
(4)
وصلاح الدين الأيوبى
(5)
الذي طهر بيت المقدس منهم سنة 583 هـ
(6)
وكانت نهايتهم وانقضاء دولتهم على يد الملك
(1)
محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي أبو الفتح، من كبار ملوك الدولة القلاوونية، توفي سنة 741 هـ.
الأعلام (7/ 11).
(2)
انظر: النجوم الزاهرة (8/ 160) والسلوك للمقريزي (1/ 928).
(3)
زنكي بن الحاجب الملك عماد الدين قال الذهبي: استولى على البلاد وعظم أمره، وافتتح الرها، وكان بطلا، شجاعا مقدامًا كأبيه، عظيم الهيبة، توفي سنة 541 هـ.
سير أعلام النبلاء (20/ 189) والنجوم الزاهرة (5/ 278) وشذرات الذهب (4/ 128).
(4)
انظر: البداية والنهاية (12/ 234).
(5)
السلطان الكبير الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذى الدويني. قال الذهبي: محاسن صلاح الدين جمة لاسيما الجهاد، فله فيه اليد البيضاء ببذل الأموال والخيل، وله عقل جيد، وفهم وحزم وعزم، توفي سنة 589 هـ.
سير أعلام النبلاء (21/ 278) والبداية والنهاية (13/ 3).
(6)
انظر: الكامل لابن الأثير (11/ 546) والبداية والنهاية (12/ 340).
الأشرف
(1)
بن المنصور قلاوون جزيرة الروضة الواقعة في نهر النيل، وأسكنهم فيها وقد دامت مملكتهم قرنًا وثلثًا
(2)
وقد أدرك الحافظ ابن رجب طرفًا كبيرًا من عهدهم سنة 690 هـ
(3)
.
هذه الحوادث غيرت مجرى التاريخ وأيقظت العالم الإسلامي من سباته العميق.
ولا شك أن تلك الحوادث وإن كانت سابقة من حيث الزمن على ميلاد ابن رجب رحمه الله تعالى إلا أنها تركت أثرًا كبيرًا في نفسه، فالصراعات المذهبية العنيفة بين أهل السنة والرافضة من جهة، وما صنعه النصارى واليهود والرافضة من مساعدة للتتار للقضاء على الإسلام وأهله من جهة أخرى كان لها أثر في الناحية الاجتماعية والعلمية كما سيأتي.
ولقد عاش ابن رجب رحمه الله تعالى كما يظهر من تاريخ حياته خلال القرن الثامن الهجري وهو القرن الذي كان يحكم فيه المماليك الذين قامت دولتهم على أنقاض الدولة الأيوبية الذين كانت دولتهم من أعظم مراكز القوى في العالم الإسلامي بسبب قدرتها على إيقاف التقدم المغولي المدمر الذي قضى على الخلافة الإسلامية ببغداد.
وتبدأ فترة حكم المماليك من سنة 648 هـ وتنتهي في سنة 923 هـ.
(1)
خليل بن قلاوون الصالحي الملك الأشرف، ولي بعد وفاة أبيه، واستفتح الملك بالجهاد وقاتل الإفرنج، وكان شجاعًا مهيبًا عالي الهمة، قتله بعض المماليك سنة 693 هـ.
النجوم الزاهرة (8/ 3) والأعلام (2/ 321).
(2)
انظر: النجوم الزاهرة (6/ 319) وحسن المحاضرة (2/ 34) والعصر المماليكي في مصر والشام (ص 5).
(3)
انظر البداية والنهاية (13/ 304 وما بعدها)، والنجوم الزاهرة، من ص 6 إلى ص 7.
وهم ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: المماليك البحرية وحكموا من سنة 648 هـ إلى سنة 784 هـ. وسموا بذلك لأن الملك الصالح نجم الدين أيوب
(1)
اختار لهم بحر النيل الذي أحاط بثكناتهم في جزيرة الروضة.
القسم الثاني: المماليك البرجية أو الجراكسة وحكموا من سنة 784 هـ إلى سنة 923 هـ. وسموا بالبرجية نسبة إلى أبراج القلعة التي أنزلهم بها قلاوون، يقول ابن العماد في حوادث سنة 784 هـ: "فيها كان ابتداء دولة الجراكسة فإنه خلع الصالح القلاووني وتسلطن برقوق
(2)
ولقب الظاهر وهو أول من تسلطن من الجراكسة"
(3)
.
وقد أدرك ابن رجب من هذا العهد 11 سنة من سنة 784 هـ وهي السنة التي حكموا فيها إلى سنة 795 هـ وهي السنة التي توفي فيها ابن رجب رحمه الله تعالى.
وقد كانت بلاد الشام تابعة في إدارتها إلى نظام الحكم في مصر ويطبق فيها نفس نظام مصر في تقسيم البلاد إلى ولايات، ولكن دمشق كانت هي الولاية الرئيسية بين تلك الولايات، لأن واليها هو الذي يوقع عن السلطان في أكثر الأمور. إلا أنه في هذا العصر كان يسود العالم عدم استقرار في الأوضاع السياسية التي يعد سمة بارزة في هذا العصر
(1)
هو أيوب بن محمد بن عادل بن أيوب أبو الفتوح نجم الدين من كبار ملوك الأيوبيين بمصر توفي سنة 647 هـ.
انظر شذرات الذهب (5/ 237) والأعلام (2/ 38).
(2)
برقوق بن أنص العثماني أبو سعيد، الملك الظاهر، أول من ملك مصر من الجراكسة، توفي سنة 801 هـ.
الضوء اللامع (3/ 10) والأعلام (2/ 48).
(3)
شذرات الذهب (6/ 282) وانظر موسوعة التاريخ الإسلامي (5/ 199).
لكثرة الفتن والاقتتال على السلطة حتى أصبح ذلك أمرًا مألوفًا
(1)
.
(1)
انظر: النجوم الزاهرة (7/ 55، 83) مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك (323) وما بعدها.