المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام - جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر - جـ ١

[التتائي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌المبحث الأول التعريف بالشارح

- ‌ اسمه ولقبه:

- ‌ مشايخه:

- ‌حياته ومحنته:

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌آثاره:

- ‌وفاته:

- ‌المبحث الثاني وصف نسخ المخطوط

- ‌وهو حسبي وبه ثقتي

- ‌فائدتان:

- ‌تمهيد:

- ‌فائدة:

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة التنبيه:

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌تذييل:

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌تنكيت:

- ‌[المراد بالمشهور: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[مفاتيح المختصر: ]

- ‌تتميم:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌تذييل:

- ‌باب ذكر فيه أحكام الطهارة، وما يتعلق بها

- ‌[ما يرفع الحدث: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[تعريف الماء المطلق: ]

- ‌فرع:

- ‌تنبيه:

- ‌تفريع:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيهان:

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم الماء المتغير بما ينفك عنه غالبًا: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنكيت:

- ‌[الماء المكروه للعبادة: ]

- ‌[ما تزول به النجاسة: ]

- ‌فائدة:

- ‌تنبيه:

- ‌[الشك بمغير الماء: ]

- ‌[الأعيان الطاهرة، والأعيان النجسة]

- ‌[أولًا - الأعيان الطاهرة: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنكيتان:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[حالات القيء: ]

- ‌[الأعيان النجسة: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تذييل:

- ‌[مسألة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[المذهب في دباغ الجلد: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم حلول الطاهر في النجس والعكس: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يجوز الانتفاع به من المتنجس: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يحرم استعماله على الذكور: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تذنيب:

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌فصل ذكر فيه إزالة النجاسة، وما تزول به، وما يعفي عنه منها، وما لا يعفى عنه، وغير ذلك مما يتعلق بها

- ‌تنبيه:

- ‌تتمة:

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌تنبيهات:

- ‌تنكيت:

- ‌فائدة:

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تكميل:

- ‌تنبيه:

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌[كيفية تطهير المحل النجس: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم الماء المزال به النجاسة: ]

- ‌فرع:

- ‌[حكم زوال عين النجاسة بغير المطلق: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[تفسير النضح: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌[الاشتباه في الماء الطهور: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تتمة:

- ‌تنبيهان:

- ‌[ولوغ الكلب في الإناء: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌فصل ذكر فيه أحكام الوضوء مِن فرائض وسنن وفضائل ومكروهات وممنوعات

- ‌[فرائض الوضوء: ]

- ‌فائدة:

- ‌[العمل في غسل اللحية: ]

- ‌[ما يدخل في حد الوجه: ]

- ‌فائدة:

- ‌تنكيت:

- ‌[ما لا يغسل: ]

- ‌تذييل:

- ‌تنبيه:

- ‌[ذهاب بعض أعضاء الوضوء: ]

- ‌فائدة:

- ‌[الوضوء بالخاتم: ]

- ‌[الشعر المضفور للرجل والمرأة: ]

- ‌[غسل الرأس بدل مسحه: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[تخليل أصابعهما: ]

- ‌فائدة:

- ‌[حكم قص أو حلق ما غسل أو مسح: ]

- ‌[المعتبر في الطول: ]

- ‌[أنواع النية: ]

- ‌[ما يضر الوضوء وما لا يضره: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[سنن الوضوء: ]

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌تنبيه:

- ‌تذنيب:

- ‌[ما يتفرع عن الترتيب: ]

- ‌[حكم ترك فرض: ]

- ‌فائدة:

- ‌[حكم ترك سنة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌[فضائل الوضوء: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[ما لا يندب في الوضوء: ]

- ‌فصل

- ‌[مندوبات قضاء الحاجة: ]

- ‌[ما يتعلق بالفضاء في قضاء الحاجة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[قضاء الحاجة بالكنيف: ]

- ‌[استقبال القبلة واستدبارها: ]

- ‌تنبيه:

- ‌فائدة:

- ‌تنبيهان:

- ‌فائدة:

- ‌[استقبال بيت المقدس: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يجب على قاضي الحاجة: ]

- ‌[ما يندب للمستنجي: ]

- ‌[ما يتعين فيه الماء: ]

- ‌[ما لا يستنجى منه: ]

- ‌[ما يستنجى به وما لا يستنجى به: ]

- ‌خاتمة:

- ‌[صفة إنقاء الدبر: ]

- ‌[صفة إنقاء القبل: ]

- ‌فائدة:

- ‌فصل ذكر فيه نواقض الوضوء من حدث وسبب

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[معنى الحدث: ]

- ‌[صفة الخارج الناقض: ]

- ‌[من النواقض السلس: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[وقت اعتبار الملازمة: ]

- ‌[اعتبار المخرج المعتاد: ]

- ‌[ما يؤدي للحدث: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌[الوضوء من النوم: ]

- ‌فائدة:

- ‌[من نواقض الوضوء اللمس: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنكيت:

- ‌[مس الذكر: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[نقض الوضوء بالردة والشك: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم المستنكح للشك: ]

- ‌فائدة:

- ‌[مسائل خلافية مع المذاهب الأخرى في نواقض الوضوء: ]

- ‌[ما يندب للمتوضئ: ]

- ‌[الشك في الطهارة في الصلاة: ]

- ‌تذييل:

- ‌تتمة:

- ‌[ما يمنعه الحدث: ]

- ‌فائدة:

- ‌تتمة:

- ‌فصل ذكر فيه أحكام الغسل وموجباته وما يتعلق به

- ‌[موجبات الغسل: ]

- ‌[من يندب له الغسل: ]

- ‌[ما لا يوجب الغسل بمني: ]

- ‌[عود على موجبات الغسل: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيهات:

- ‌تتمة:

- ‌[فرائض الغسل: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[سنن الغسل: ]

- ‌[مندوبات الغسل: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يبطل وضوء الجنابة: ]

- ‌[ما تمنعه الجنابة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[علامات المني: ]

- ‌[الاكتفاء بالغسل عن الوضوء: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌فصل ذكر فيه نيابة مسح الخف عن غسل الرجلين في الوضوء

- ‌تنكيت:

- ‌[حكم مسح خف فوق خف: ]

- ‌تنبيهان:

- ‌تتمة:

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[مدة المسح: ]

- ‌[شروط المسح: ]

- ‌[شروط الماسح: ]

- ‌[حكم فقدِ أحد الشروط: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم المسح للمحرم: ]

- ‌[حكم المسح على خف مغصوب: ]

- ‌[حكم المسح للهارب من الغسل: ]

- ‌[غسل الخفين: ]

- ‌[تكرار المسح: ]

- ‌[تتبع الغضون: ]

- ‌[ما يبطل المسح عليه: ]

- ‌[المراد بالمبادرة: ]

- ‌[حكم تعذر نزع أحد الخفين: ]

- ‌تنكيت:

- ‌[مندوبات المسح على الخف: ]

- ‌[صفة المسح: ]

- ‌فصل

- ‌[من له التيمم: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تنكيت:

- ‌[شرطا التيمم: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌تتميم:

- ‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌تكميل:

- ‌[جواز التيمم لخوف فوات الوقت: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[أداء غير الفرض بتيمم فرض أو سنة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[أداء فرضين بتيمم: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يلزم في التيمم: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يسقط به طلب الماء: ]

- ‌[محل لزوم الطلب: ]

- ‌فرع:

- ‌[النية في التيمم: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[التيمم لا يرفع الحدث: ]

- ‌تتمة:

- ‌[أعضاء التيمم: ]

- ‌فائدة:

- ‌تنبيه:

- ‌تكميل:

- ‌فائدة:

- ‌[نزع الخاتم في التيمم: ]

- ‌[ما يتيمم به: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[كل أجزاء الأرض يتيمم به: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[أفضل أجزاء الأرض للتيمم: ]

- ‌[عد ما يجوز التيمم عليه: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[اختصاص المريض بالتيمم على الحائط: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[متى يتيمم: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌[مسنونات التيمم: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[مندوبات التيمم: ]

- ‌[مبطلات التيمم: ]

- ‌[ما لا يبطله: ]

- ‌[حكم المقصر في طلب الماء: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يمنع لفاقد الماء: ]

- ‌[مسألة: ]

- ‌[فاقد الطهورين: ]

- ‌فصل ذكر فيه المسح على الجرح بدلًا عن غسل محلّه

- ‌تنبيه:

- ‌[المسح على الجبيرة: ]

- ‌فائدة:

- ‌[المسح على العصابة: ]

- ‌[شروط هذا المسح: ]

- ‌خاتمة:

- ‌فصل ذكر فيه الحيض ومدته والاستحاضة والنفاس وما يتعلق بذلك

- ‌فائدة:

- ‌[المبتدأة من النساء: ]

- ‌[المعتادة: ]

- ‌تذييل:

- ‌[المرأة الحامل: ]

- ‌[المستحاضة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[الدم المميز حيض: ]

- ‌[ما يحصل به الطهر: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[موانع الحيض: ]

- ‌[أمد المنع: ]

- ‌[عود على موانع الحيض: ]

- ‌خاتمة:

- ‌[النفاس: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[موانع النفاس: ]

- ‌[حكم الهادي: ]

- ‌باب ذكر فيه أوقات الصّلاة والآذان وشروطها وأركانها وموانعها، وحكم قراءتها والسهو فيها، وغير ذلك مما يتعلق بها

- ‌فائدة:

- ‌[تقسيم وقت الأداء: ]

- ‌[الوقت الاختياري للظهر: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌[وقت العصر الاختياري: ]

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌[القدر المشترك بين الظهرين: ]

- ‌[وقت المغرب المختار: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[الوقت المختار للعشاء: ]

- ‌[الوقت المختار للصبح: ]

- ‌تنبيه:

- ‌تتمة:

- ‌تنبيهان:

- ‌[المراد بالصلاة الوسطى: ]

- ‌تتمة:

- ‌[مسألة: ]

- ‌تنكيت:

- ‌[قسما الوقت الاختياري: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[الأفضل للجماعة: ]

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[مذهب المدونة في أداء العشاء: ]

- ‌[الشك في دخول الوقت: ]

- ‌[الوقت الضروري: ]

- ‌[الضروري للصبح: ]

- ‌[الضروري للظهرين: ]

- ‌[ضروري العشاءين: ]

- ‌[القدر الذي يدرك به الوقت: ]

- ‌تتمة:

- ‌‌‌تنبيهان:

- ‌تنبيه

- ‌[حكم تأخير الصلاة للضروري: ]

- ‌[أصحاب الأعذار: ]

- ‌ تنبيهً

- ‌[ما ليس بعذر: ]

- ‌[اعتبار الطهارة مع عدد الركعات: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌[الكافر يؤدي مشتركتين: ]

- ‌تنكيت:

- ‌‌‌‌‌[مسألة: ]

- ‌‌‌[مسألة: ]

- ‌[مسألة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[الأعذار مسقطة: ]

- ‌[أمر الصبيان بالصلاة: ]

- ‌[أوقات النوافل: ]

- ‌[أوقات كراهة النفل: ]

- ‌[النفل قبل صلاة العصر: ]

- ‌[غاية الكراهة: ]

- ‌فائدة:

- ‌‌‌تنبيه:

- ‌تنبيه:

- ‌[استثناء ركعتي الفجر والورد: ]

- ‌[النافلة للمحرم: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تتمة:

- ‌[أمكنة الصلاة: ]

- ‌[شرط الصلاة فيما سبق: ]

- ‌[أماكن الكراهة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[حكم تارك الصلاة: ]

- ‌تنبيه:

- ‌خاتمة:

- ‌فصل ذكر فيه أحكام الأذان والإقامة، وما يتعلق بكل منهما

- ‌‌‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌[حكم الأذان: ]

- ‌[صفة الأذان: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌[محل الترجيع وصفته: ]

- ‌تنكيت:

- ‌تنبيه:

- ‌تتمة:

- ‌[شرط وجوب الأذان: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[شروط صحة الأذان: ]

- ‌تنكيت:

- ‌فرع:

- ‌[ما يندب للمؤذن: ]

- ‌تنبيه:

- ‌[ما يجوز في الأذان: ]

- ‌فائدة:

- ‌[كراهة الأجرة على الصلاة وحدها: ]

- ‌[كراهة السلام على المؤذن: ]

- ‌[إقامة الراكب: ]

- ‌[ما يسن في الإقامة: ]

- ‌تنبيهات:

- ‌[الصلاة دون إقامة: ]

- ‌سؤال:

- ‌وجوابه:

- ‌[إقامة المرأة: ]

- ‌[القيام للإقامة: ]

الفصل: ‌ ‌مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام

‌مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد بن عبد اللَّه صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:

- 1 -

فقد كان لتأليف الشيخ خليل بن إسحاق مختصره الذي بلغت شهرته الآفاق، وطار صيته كل مطار، الأثر البالغ في المذهب المالكي، فما إن وضع حتى غدا المرجع الأساس للمريدين، وسراجًا منيرًا للسالكين، ومن لم يَدْرُسْه فضلًا عن أن يتقنه فهمًا ودراية لم يُعَد ملمًا بالمذهب وأقواله، فانكب الناس على تعاطيه، بين حافظ له وناظم، ومقيد له وشارح، ومستدل له وناقد، وما ذلك إلا لأنه قد ضمنه صاحبه ما تكون به الفتوى، وما هو الأرجح والأقوى، مع رسوخ قدم مصنفه وجلالته، واستيفاء مسائله لجل المذهب، فلم يجمع أهل المذهب في مدح كتاب للمتأخرين كما أجمعوا على مدح مختصر خليل، بل إنه لم يهتم أهل المذهب بكتاب بعد الموطأ والمدونة كاهتمامهم به.

ص: 7

- 2 -

ولا يغرنك ما يكدر به بعض من حرم النظر الصحيح صفو ما أنت عليه بقوله: "ما يزال التعليم الديني في الجانب الفقهي على حالة واحدة عندنا، منذ ألف سنة، فهو متون فقهية مذهبية مجردة من الدليل، كُتبت قبل قرون من الزمن، يحفظها الطلاب عن ظهر قلب، كـ:(زاد المستقنع) في الفقه الحنبلي، و:(مختصر خليل) في الفقه المالكي، و:(التقريب) لأبي شجاع في الفقه الشافعي، والقدوري في الفقه الحنفي، وهذه المتون كُتِبت باختصار شديد للعبارة، وإلغاز في الجمل، واختزال للمعاني، والخطأ فيها من وجهين:

الأول: تجريدها من النصوص كتابًا وسنة، لأن المقصود الاستدلال لها بدليل شرعي لا الاستدلال بها هي مجردةً من الدليل.

الثاني: فَهِم الكثير أن هذه الآراء الفقهية قاطعة راجحة وما سواها باطل، فحصل التعصب للمذهب والبعد عن الدليل، فحينما تطالع مثلًا أول زاد المستقنع تجد عبارة (وأقسام المياه ثلاثة) وهذا خطأ بل هما قسمان فقط، ثم يقول:(وإذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة صلى بعددها وزاد صلاة) يعني: أن من عنده عشرين (1) ثوبًا فعند الاشتباه يصلي إحدى وعشرين صلاة وهذا خطأ، بل عليه أن يتحرى، والمشكلة أن هذه المتون تذهب بالطالب بعيدًا عن الآية والحديث ويكدُّ ذهنه في عبارات مغلقة مقفلة من دون طائل، ولماذا نشتغل بعبارات الفقهاء الملغزة الغامضة ونشرحها ونعصر الذهن في فهمها ومعنا كتاب عظيم فيه الهدى والنور مع البيان الشافي والجواب الكافي، ومعنا سنة مطهرة سهلة ميسَّرة، حتى إننا نعرف من الفقهاء من تصدَّر للإفتاء وهو لا يميز بين الحديث الصحيح والضعيف ولا يستحضر الدليل، وإنما يحفظ هذه المتون الفقهية المذهبية، فهل فينا رجل رشيد يُصلح هذا التعليم الفقهي؛ ليدرس الطلاب فقه الكتاب والسنة كما فعل أئمة الحديث وابن تيمية وابن عبد البر وابن عبد الوهاب والصنعاني والشوكاني وغيرهم".

(1) كذا هو في النص، وهو لحن ظاهر، والصواب: عشرون.

ص: 8

ذلك لأنه قد شمل جملة من المغالطات، وعليه كثير من المؤاخذات، فأولى هذه المؤاخذات: أنه قال: "ما يزال التعليم الديني في الجانب الفقهي على حالة واحدة عندنا، منذ ألف سنة، فهو متون فقهية مذهبية مجردة من الدليل، كُتبت قبل قرون من الزمن، يحفظها الطلاب عن ظهر قلب، كـ: (زاد المستقنع) في الفقه الحنبلي، و: (مختصر خليل) في الفقه المالكي، و: (التقريب) لأبي شجاع في الفقه الشافعي، والقدوري في الفقه الحنفي"، وتفصيل بيانها كالآتي:

1 -

أن المختصرات في المذاهب قد كانت قبل ذلك بكثير؛ ففي مذهب الإمام مالك كان مختصر ابن عبد الحكم، وهو معاصر للإمام مالك، فولادته عام خمسين ومائة، والإمام توفي عام تسعة وسبعين ومائة، وفي مذهب الشافعي كان مختصر المزني، وهو معاصر للإمام الشافعي، فولادة المزني كانت عام خمسة وسبعين ومائة، ووفاة الشافعي كانت عام أربعة ومائتين.

2 -

أن في كلامه تخطئة للأمة جمعاء على مدى عشرة قرون، ولا شك أن في هذا ضلالًا مبينًا؛ ذلك لأنه لا تجتمع الأمة مطلقًا على ما هو خطأ أو زيغ، كما ورد في الحديث (1)؛ فأهل الحق من أمة محمد قد اتفقوا

(1) رواه بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة؛ فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم": ابن ماجه (2/ 1303، رقم 3950)، قال البوصيري (4/ 169): هذا إسناد ضعيف.

قال المناوي (2/ 431): قال ابن حجر: حديث تفرد به معاذ بن رفاعة عن أبي خلف، ومعاذ صدوق فيه لين، وشيخه ضعيف.

ورواه بلفظ: "إن اللَّه قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة": ابن أبي عاصم (1/ 41، رقم 83)، والضياء (7/ 128، رقم 2559). وأورده الذهبي في الميزان (6/ 434)، والحافظ في اللسان (6/ 42) في ترجمة مصعب بن إبراهيم القيسي على أنه من مناكيره، وقالا: قال العقيلي: في حديثه نظر.

وقال ابن عدي: منكر الحديث.

ورواه بلفظ: "لن تجتمع أمتي على الضلالة أبدًا فعليكم بالجماعة فإن يد اللَّه على =

ص: 9

في الأزمنة المذكورة -كما في كلام هذا، أي: منذ القرن الخامس- على تقليد المذاهب الأربعة السنية، فكان هذا إجماعًا منهم على صواب اتباعهم على الجملة، ولا يقال: إن التقليد محظور في الشريعة؛ لأن هذا القول من أكبر الخطر عليها، فليس كل الناس يعي الدليل ويفهم وجه انتزاع الحجة منه، وقول الشافعي وغيره:"إذا صح الحديث فهو مذهبي" ليس المخاطب به العوام ولا صغار طلبة العلم من الأتباع، بل الجهابذة من العلماء وكبار طلبة العلم الذين يعرفون وجه هذا القول، فكم من حديث صحيح لا يجوز العمل به لاعتبارات عديدة، منها:

- ورود ما هو أقوى منه مخالفًا إياه.

- أو كونه منسوخًا.

- أو حمل بعض أفراد عمومه على غير ما دل عليه لورود مخصص.

= الجماعة": الطبراني (12/ 447، رقم 13623)، قال الهيثمي (7/ 327): فيه حسين بن قيس وهو متروك.

ورواه بلفظ: "إن اللَّه أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة": أبو داود (4/ 158، رقم 4255)، وضعفه الألباني.

ورواه بلفظ: "إن اللَّه لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ويد اللَّه مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار": الترمذي (4/ 466، رقم 2167)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان وقد روى عنه أبو داود الطيالسي وأبو عامر العقدي وغير واحد من أهل العلم.

قال أبو عيسى: وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث.

قال: وسمعت الجارود بن معاذ يقول: سمعت علي بن الحسن يقول: سألت عبد اللَّه بن المبارك من الجماعة فقال أبو بكر وعمر. قيل له: قد مات أبو بكر وعمر. قال فلان وفلان. قيل له: قد مات فلان وفلان. فقال عبد اللَّه بن المبارك وأبو حمزة السكري جماعة.

قال أبو عيسى: وأبو حمزة هو محمد بن ميمون وكان شيخًا صالحًا وإنما قال هذا في حياته عندنا.

قال الألباني في تعليقه عليه: صحيح دون: (ومن شذ).

ص: 10

- أو كونه مؤقتًا بوقت ما.

- أو كونه خرج مخرج الغالب.

- أو كون ما دل عليه مفهومًا وخالفه غيره منطوقًا.

- أو كونه دالًا على واقعة عين.

- وغير ذلك من الاحترازات التي تمنع العمل به، هذا أولًا.

وأما ثانيًا، فإن معرفة حكم اللَّه تعالى في مسألة ما يحتاج وقتًا للعالم الملم بعلوم الاجتهاد فضلًا عن غيره، أي: إن معرفة ذلك يكون على مهل، بينما العبادة لا تكون إلا على الفور، فلو فرض أن متعبدًا ما يريد الوضوء وقد حضرت الصلاة، وكان بين يديه إناء ماء، وقد وقعت فيه نجاسة، وأراد أن يعرف يقينًا بالدليل حكم الشرع في ذلك، لخرج الوقت وما علمه؛ إذ يلزمه -ليعرف ذلك عن اجتهاد لا عن تقليد، كما يدعو هذا-: أن يجمع الأدلة التي في الباب، ويعرف طرق كل دليل، وينظر فيها من حيث الصحة والضعف رواية، ثم ينظر فيها من حيث الصحة والضعف دراية، ودون ذلك خرط القتاد، وهجران لذيذ الرقاد، وذلك من الوضوح بحيث يستغني عن ضرب له الأمثال.

وقد قال القاضي عياض في ترتيب المدارك: "اعلموا -وفقنا اللَّه تعالى وإياكم- أن حكم المتعبد بأوامر اللَّه تعالى ونواهيه المتشرع بشريعة نبيه عليه السلام طلب معرفة ذلك وما يتعبد به، وما يأتيه ويذره، ويجب عليه ويحرم، ويباح له ويرغب فيه من كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه عليه السلام، فهما الأصلان اللذان لا تعرف الشريعة إلا من قبلهما، ولا يعبد اللَّه تعالى إلا بعلمهما، ثم إجماع المسلمين مرتب عليهما، ومسند إليهما، فلا يصح أن يوجد وينعقد إلا عنهما، إما من نص عرفوه ثم تركوا نقله، ومن اجتهاد مبني عليهما على القول بصحة الإجماع من طريق الاجتهاد، وهذا كله لا يتم إلا بعد تحقيق العلم بذلك الطريق والآلات الموصلة إليه من نقل ونظر وطلب قبله وجمع وحفظ وعلم وما صح من السنن واشتهر، ومعرفة كيف يتفهم وما به يتفهم من علم ظواهر الألفاظ وهو علم العربية واللغة وعلم

ص: 11

معانيها وعلم موارد الشرع ومقاصده ونص الكلام وظاهره وفحواه وسائر نواحيه وهو المعبر عنه بعلم أصول الفقه وأكثره يتعلق بعلم العربية ومقاصد الكلام والخطاب، ثم يأخذ قياس ما لم ينص عليه على ما نص بالتنبيه على علته أو شبيهًا له.

وهذا كله يحتاج إلى مهلة، والتعبد لازم لحينه، ثم إن الواصل إلى هذا الطريق وهو طريق الاجتهاد والحكم به في الشرع قليل، وأقل من القليل بعد الصدر الأول والسلف الصالح والقرون المحمودة الثلاثة، وإذا كان هذا فلا بد لمن لم يبلغ هذه المنزلة من المكلفين أن يتلقى ما تعبد به وكلف به من وظائف شريعته ممن ينقله له ويعرفه به ويثبته عليه في نقله وعلمه وحكمه، وهو: التقليد، ودرجة عوام الناس بل أكبرهم هذا" (1).

3 -

أن في قوله: (مجردة من الدليل) يحتمل أحد أمرين:

الأول: أن ما احتوته تلك المتون من مسائل لا دليل عليها من كتاب أو سنة ونحوهما، فيكون أصحاب المذاهب الأربعة أربابًا من دون اللَّه تعالى، لأنهم شرعوا في دين اللَّه ما ليس منه، وهذا الاحتمال -وإن كنا نربأ بصاحب المقالة عنه- هو المتبادر لدى كثير من الناس، ووصلت الجرأة ببعضهم أن قال: لا أدلة بالمطلق على مسائل مذهب مالك، وهذا فيه من التعسف والجور ما فيه (2).

(1) ترتيب المدارك (1/ 59 - 60).

(2)

وهذا ما دفعني إلى وضع كتابي (منار السبيل في بيان أدلة خليل)، وقد نهجت فيه تتبع الأدلة من الأصلين من خلال كتب الأصحاب الذين بلغت شهرتهم الآفاق، وانتشرت مؤلفاتهم في أصقاع الأرض شرقًا وغربًا قديمًا وحديثًا، وانتقيت منهم أشهر من برز بفن الحديث رواية ودراية وأقوال علماء الأمصار، وأشهر من أتقن الحجاج والعقليات وعلوم العربية، وأشهر من له اهتمام بالخلافيات، مع الرجوع إلى كتب الحديث وشروحها، ومعرفة أدلة المذاهب الأخرى، وموازنتها بأدلة المذهب، من حيث عرض الأدلة على ميزان علم الحديث الشريف، ومعرفة أقوال أهل العلم فيها من الأصحاب والمخالفين، وبيان الحكم الصحيح فيها بعون اللَّه تعالى دون تحيز أو تعصب، ثم عرضها على أصول الفقه وقواعده، واللَّه أسأل أن يعين على إخراجه للنشر قريبًا.

ص: 12

والآخر: أن المتون هي المجردة من الأدلة، لا مسائل المذهب، وهذا الذي نظنه، وإذا كان ذلك كذلك فلا يضر مريد المذهب أن لا يعرف الدليل ما دام له مقلدًا، قال في نظم المعتمد:

وكلُّ مَنْ بلا أصولٍ قاري

ينالُه الجهلُ بلا قَرارِ

ولو حوى في ذهْنِهِ الأسْفارا

وجاوَزَ الأمصارَ والأقطارا

فلا يجوزُ مطلقًا أنْ يجتهد

في الدِّين أو يفتي بغير ما وُجِدْ

مِنْ قولِ شيخٍ ذي اجتهادٍ عارفِ

وكلُّ ذا مِنْ مِنَنِ اللَّطائفِ

وقال الشوكاني في القول المفيد، ص 36:"وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل، بل يقبل الرأي ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد".

فالمقلد يسلم بدليل المستدل، وإن لم يعلم وجه الاستدلال، وذلك يكون جائزًا لا حرج معه إذا كان المقلد ليس أهلًا للبحث عن وجه الاستدلال ومعرفة كيف انتزع الحكم.

قال الفلاني في إيقاظ الهمم، ص 77:"وجه الإمامة يخص اللَّه تعالى بها بعض الناس، لا كل الناس؛ فليعرف لكل ذي فضل فضله وكل ذي رتبة رتبته، ولا يجوز التقليد والأخذ به إلا للجاهل؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فأوجب اللَّه تعالى على كل من لا يعلم بأن يسأل أهل العلم، ومفهوم الأمر وجوب اتباع أهل العلم، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}، مفهومه وجوب اتباع المنذرين، وأخذ الحذر مما يحذرونهم منه، وجعل المنذرين منعوتين بنعت الفقه؛ إذ لم يبلغ هذا المقلد قول مالك الذي قاله: لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلًا للفتوى. قال سحنون: يعني بالناس العلماء. فأثبت له العلم، ثم منعه من الفتيا حتى يستظهر على أمره برأي العلماء".

وأما ثاني المؤاخذات فقوله: (وهذه المتون كُتِبت باختصار شديد

ص: 13

للعبارة، وإلغاز في الجمل، واختزال للمعاني)، فما من علم وإن بسط القول فيه في الكتب إلا وفيه غموض وإبهام، فلا يرفع ذلك إلا بملازمة الشيوخ، وسؤالهم عن المشكلات، واستيضاحهم المقفلات، ومن ثم قيل: من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، وإنّا نجد في كلام العلماء الربانيين كلامًا لو أخذ بظاهره لحصل به الشرك باللَّه العظيم، رغم وضوحه ظاهرًا؛ ولذلك يجب مخالطة العلماء وسؤالهم، فمن ذلك ليتضح لك المقال قول الإمام أحمد: والطواف على قبور الصالحين مكروه.

وأما ثالثها فقوله: (والخطأ فيها من وجهين:

الأول: تجريدها من النصوص كتابًا وسنة، لأن المقصود الاستدلال لها بدليل شرعي، لا الاستدلال بها هي مجردة من الدليل.

الثاني: فَهِم الكثير أن هذه الآراء الفقهية قاطعة راجحة وما سواها باطل، فحصل التعصب للمذهب والبعد عن الدليل).

فالجواب عن وجهه الأول: أن هذه المتون موضوعة للمبتدئين، ولا شك أن المبتدئ في حكم المقلد، والمقلد لا يسأل إمامه عن الدليل؛ ولأنه حتى لو علم الدليل فإنه لا يعرف وجه الاستدلال منه، فالذي يهمه ابتداء هو معرفة الحكم من الإمام الذي اتبعه؛ ليعبد اللَّه -تعالى- على وفقه.

وأما الجواب عن وجهه الآخر، فهو: أن سبب تقليد إمام ما هو الثقة بعلمه وورعه، بما شوهد من واقع حاله، وتسليم العلماء له، والثناء عليه، وهذا يفضي بالمقلد -ولا ريب- إلى القطع بصحة ما قاله إمامه، وإلا لما جاز له تقليده، هذا أولًا.

وأما ثانيًا؛ فإن إمام المقلد نفسَه يرى أن ما رآه وذهب إليه هو الحق اليقين، وإلا لما ساغ له عبادة اللَّه تعالى به، فهذا الإمام الشافعي -رحمه اللَّه تعالى- يقول:"قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، وما عده أحد من العلماء متعصبًا لرأيه؛ وذلك -ولا شك- قد

ص: 14

كان منه دونما تجريح لأحد ولا اتهام له، ولا تنقص ولا ازدراء ولا تسفيه؛ إذ لا ينبغي ذلك لدى الأئمة كلهم -الذين هم مصابيح الدجى- إذا أفضى الحوار إلى تمسك كل برأيه (1).

(1) وقد وقفت على كلام حسن في هذه المسألة للإمام الشاطبي، وهي مسألة صَبْرِ المتبعِ على رأي إمامه إلى حين تكشف البرهان ومأخذ الانتزاع، إذا لم يتبعه لهوى، وإنما لعلمه وورعه، فلا بأس من نقله بأكمله؛ لأهميته وغفلة أكثر الناس عنه، قال -رحمه اللَّه تعالى- في الموافقات (1/ 141، وما بعدها): "وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر، وهي ثلاث:

إحداها: العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفًا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم. . .

والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر؛ فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة، وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية؛ حيث قال: يا رسول اللَّه! ألسنا على حق، وهم على باطل؟

قال: "بلى".

قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟

قال: "بلى".

قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم اللَّه بيننا وبينهم؟

قال: "يابن الخطاب! إني رسول اللَّه، ولن يضيعني اللَّه أبدا".

فانطلق عمر ولم يصبر، متغيظا، فأتى أبا بكر؛ فقال له مثل ذلك.

فقال أبو بكر: إنه رسول اللَّه ولن يضيعه اللَّه أبدًا.

قال: فنزل القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه؛ فقال: يا رسول اللَّه! أَوَفَتح هو؟ قال: "نعم". فطابت نفسه ورجع.

فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر في مواطن الإشكال؛ حتى لاح البرهان للعيان، وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين:"أيها الناس، اتهموا رأيكم، واللَّه؛ لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرددته".

وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما =

ص: 15

وأما مصطلح التعصب فمصطلح بات هلاميًا؛ إذ كل من خالفك في الرأي ويرى أنه وحده على الحق ولم يستطع العدول بك إلى رأيه رماك به، ومهما يكن من أمر، فإن التعصب بالمعنى المتبادر إلى الذهن إذا وقع فإنه مذموم، ولا يحل لأحد أن يقع فيه، هذا أولًا.

وأما ثانيًا؛ فإن المقلد لا يجوز له تعاطي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو معلوم، وإن رأى منكرًا فلا يغيره إلا بقلبه؛ إذ ربما يكون يريد الخير ولا يجنيه، وكم من مريد للخير ولا يناله، فهذا باب تراعى فيه المصالح والمفاسد، ولا يقدرها إلا العلماء، ومن هنا يجب على الأمة التحلق حول علمائها الثقات الأثبات، فبهم تدرك المنى، وتتحقق الغايات.

ورابعها قوله: (فحينما تطالع مثلًا أول زاد المستقنع تجد عبارة "وأقسام المياه ثلاثة" وهذا خطأ، بل هما قسمان فقط) أقول: بل أقسامها ثلاثة، كما يدل عليه النظر؛ ذلك لأن الماء إما أن يصح استعماله في العبادات والعادات، وهو الماء المسمى: الطهور، والمطلق؛ لأنه طاهر

= خالطهم الحزن والكآبة؛ لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس.

وصار مثل ذلك أصلًا لمن بعدهم؛ فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالمًا اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم.

والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا لوصف امتاز مالك عن أضرابه -أعني: بشدة الاتصاف به- وإلا؛ فالجميع ممن يهتدى به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكًا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى.

فلما تُركَ هذا الوصف؛ رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك، أصله اتباع الهوى. . ".

ص: 16

في نفسه، ومطهر لغيره، وإما أن يصح استعماله في العادات دون العبادات، وهو الماء الطاهر؛ لأنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره؛ لمخالطته طاهرًا غير أحد أوصافه الثلاثة، وإما أن لا يصح استعماله في العبادات والعادات، وذلك الماء النجس، فالقسمة على هذا ثلاثية، لا ثنائية، وإذا كان ذلك كذلك فإن قوله:(وهذا خطأ، بل هما قسمان فقط) خطأ.

ثم إن السؤال يتجه له بمعرفة رأيه في حكم القسم الثاني، أي: في الماء الذي خالطه طاهر غير أحد أوصافه: أتصح العبادة به أم لا؟ فإن قال: تصح، فقد خالف ما عليه جماهير الأمة، وسبب الاختلاف مع من يذهب إلى القول بالصحة اللغة (1)، وإن قال: لا تصح به العبادة لما ذُكر من معنى

(1) الطهور بضم الطاء المصدر؛ قاله اليزيدي، والطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر غيره مثل الغسول الذي يغسل به وقال الحنيفة هو من الأسماء اللازمة بمعنى الطاهر سواء لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والفعول في التعدي واللزوم فما كان فاعله لازمًا كان فعوله لازمًا بدليل قاعد وقعود ونائم ونؤوم وضارب وضروب، وهذا غير صحيح فإن اللَّه تعالى قال:{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" متفق عليه، ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ولو لم يكن الطهور متعديًا لم يكن جوابًا للقوم حيث سألوه عن المتعدي اذ ليس كل طاهر مطهرًا وما ذكروه لا يستقيم؛ لأن العرب فرقت بين الفاعل والفعول فقالت: قاعد لمن وجد منه القعود وقعود لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق هاهنا وليس إلا من حيث التعدي واللزوم.

وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 428): "والطهور: الماء. قال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48]. وسمعتُ محمّد بن هارونَ الثَّقَفِي يقول: سمعتُ أحمد بن يحيى ثعلبًا يقول: الطَّهور: الطاهر، في نفسه، المُطَهِّرُ لغيرهِ".

وقالِ الأزهري في الزاهر، ص 35: "ذكر الشافعي رحمه الله قول اللَّه -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ، وفسر الطهور على مقدار فهمه، واحتاج من بعده إلى زيادة شرح من باب اللغه فيه، فالطهور جاء على مثال فعول، وفعول في كلام العرب =

ص: 17

الطهور لغة، فقد عاد إلى ما نحن عليه من جعل القسمة ثلاثية.

وأما خامسها فقوله: (والمشكلة أن هذه المتون تذهب بالطالب بعيدًا عن الآية والحديث ويكدُّ ذهنه في عبارات مغلقة مقفلة من دون طائل، ولماذا نشتغل بعبارات الفقهاء الملغزة الغامضة ونشرحها ونعصر الذهن في فهمها ومعنا كتاب عظيم فيه الهدى والنور مع البيان الشافي والجواب الكافي، ومعنا سنة مطهرة سهلة ميسَّرة، حتى إننا نعرف من الفقهاء من تصدَّر للإفتاء وهو لا يميز بين الحديث الصحيح والضعيف ولا يستحضر الدليل، وإنما يحفظ هذه المتون الفقهية المذهبية، فهل فينا رجل رشيد يُصلح هذا التعليم الفقهي؛ ليدرس الطلاب فقه الكتاب والسنة كما فعل أئمة الحديث وابن تيمية. .)، فالرد عليه كالآتي:

أ- كم من مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يقرنها بدليلها،

= يجيء بمعاني مختلفه؛ فمنها: فعول بمعنى ما يفعل به مثل طهور وغسول قرور ووضوء، فالطهور: الماء الذي يتطهر به والغسول: الماء الذي يغتسل به ويغسل به الشيء، والقرور الماء الذي يتبرد به ومن هذا الباب الفطور وهو ما يفطر عليه من الطعام والنشوق. وهو ما يستنشق به، وإذا كان الطهور من المياه ما يتطهر به أو يطهر به ثوب وغيره علم أنه طاهر في ذاته مطهر لغيره، والطاهر الذي طهر بنفسه وإن لم يطهر غير والطهور لا يكون إلا طاهرًا مطهرًا".

وقال في تاج العروس (12/ 446): "الطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره. قال الأزهري: وكل ما قيل في قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فإن الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر لأنه لا يكون طهورًا إلا وهو يتطهر به كالوضوء: هو الماء يتوضأ به والنشوق: ما يستنشق به والفطور: ما يفطر عليه من شراب أو طعام.

وسئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، أي: المطهر أراد أنه طاهر يتطهر به.

وقال الشافعي رضي الله عنه: كل ماء خلقه اللَّه تعالى نازلًا من السماء أو نابعًا من الأرض من عين في الأرض أو بحر لا صنعة فيه لآدمي غير الاستقاء ولم يغير لونه شيء يخالطه ولم يتغير طعمه منه؛ فهو طهور كما قال اللَّه تعالى.

وما عدا ذلك من ماء ورد أو ورق شجر أو ماء يسيل من كرم؛ فإنه وإن كان طاهرًا فليس بطهور".

ص: 18

بل يكتفي بعزو الحكم فيها إلى قول أحمد الذي هو إمامه، وهذا من الكثرة بحيث يستعصي على العد.

ب- أن ابن تيمية على ما هو بَيّن للمطالع في فتاواه قد كان ينقل ما في مختصر أهل مذهبه ويعتمده، وهو المختصر المسمى بمختصر الخرقي، ولم يكن يعيب منهجه أو أسلوبه، على الرغم من أن أسلوب المختصرات يكاد يكون واحدًا، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

- قوله كما في المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 160): ". . إذا تصرف بغير أمره كان فضوليًا، فتكون العقود موقوفة، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخرقي في مختصره: أن بيع الفضول وشراءه ليس باطلًا، بل موقوفًا، فإن باع أو اشترى بعين المال فهو موقوف، وإن اشترى في الذمة فهو موقوف، فأي إجارة والمشترى له، وإلا لزم المشتري".

- وقوله في المصدر السابق (4/ 152): "ومن هذا لو زوجت بنت الملاعن ثم استلحقها الأب، فلو قلنا بالأول لكان يتعين ألا يصح النكاح، وهو بعيد؛ بل الصواب أنه يصح، وكذلك إذا علم أنه قريب، ولكن لا يعلم مكانه، وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه".

- وقوله في المصدر السابق (5/ 75): "وأما الصبي المميز: فيخير تخيير شهوة حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال، فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز

ص: 19

بالشرع، ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، وتقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب".

وهذا كله -على ما ترى بعيني بصيرتك- يدل كل من له قلب واع على خطأ ما ذهب إليه هذا المنكر على المتون، قد سمعت بعد أن سطرت هذه السطور وبيضت أغلب الكتاب من بعض كبار العلماء بالبلد الحرام، وهو: الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه اللَّه تعالى ورعاه- وقد سئل إيماء عن قول هذا المنكر على المختصرات؛ لأنه مواطنه، فقال: هو أحد شخصين:

الأول: إما أنه مغرض، يرمي بكلامه هذا إلى إبعاد الناس عن العلم الصحيح ويضلهم؛ لأن حفظ الأدلة التي هي الآيات والأحاديث ليس فيه ما يفيد العمل، بخلاف كتب الفقه المختصرة؛ وذلك للاعتبارت التي سبق أن أنبأتك بها.

وأما الآخر: فإنه إن لم يكن مغرضًا، فهو جاهل مركب، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.

فانظر -رحمك اللَّه تعالى- كم ضل من جماهير المسلمين هذا المنكر للمختصرات المتسمى -إعلاميًا- داعية إسلاميًا، فيا للَّه العجب من هذا الإعلام! .

ص: 20

- 3 -

هذا، وممن شرح مختصر الشيخ خليل: أبو عبد اللَّه محمد بن إبراهيم التتائي، وله عليه شرحان: كبير، وأسماه "فتح الجليل في حل جواهر درر ألفاظ الشيخ خليل"، وصغير أسماه "جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر"، ولما كان التتائي من أهل التحرير في المذهب والإتقان كما يقول مترجموه، فقد عرض عليّ بعض الأخوة من مديري إحدى دور النشر بلبنان على هامش معرض بنغازي للكتاب في شهر نوفمبر من عام 2009 تحقيق شرحيه أو أحدهما فضلًا عن شرح الأجهوري الوسط، وكان قد كتب له بعض الشيوخ الشناقطة -كما علمت لاحقًا من الشيخ وزير الأوقاف والشؤون الدينية حمزة بو فارس- بعض شروح المختصر التي لم تحقق ولم تظهر إلى عالم النشر، متمنيا عليه إخراجها، وآملًا في تحقيقها، ورغبة مني في خدمة التراث المالكي أجبته إلى ذلك، لا سيما أنني كنت كثيرًا ما أغتم لعدم ظهور كنوز هذا التراث الغني في فكره ومسائله بما أودعه فيه كبار أقطابه من علم، من أمثال القاضي أبي بكر بن العربي صاحب الشخصية الفذة والعقل الوقاد، الذي ضاع من كتبه الكثير، والقاضي عياض الذي نقل عنه كثير من المشارقة لا سيما الشافعية بعزو أحيانًا، ومن دونه في أحيان أخرى، حَالُهُ في ذلك حال ابن بطال، ومنهم أيضًا أبو الوليد الباجي الأصولي الألمعي، الذي أعاد بالأندلس للمذهب المالكي هيبته، وابن عبد البر الذي هو حافظ بلاد الغرب الإسلامي على مر العصور من دون منازع، وأبي القاسم السهيلي الذي تعرض تراثه للسرقات الأدبية، لا سيما من قبل ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- في كتابه "بدائع الفوائد"، فرأيت في هذا العرض المقدم فرصة لنشر ما أمكن نشره.

- 4 -

وقد شاع لدى كثير من الناس أن شرح التتائي الصغير الذي نحن بصدد إخراجه ليس من الكتب المعتمدة في المذهب، وحين تسألهم عن

ص: 21

سبب ذلك لا يأتونك بجواب يقنع، فبعضهم يزعم أنه ليس معتمدًا في المذهب لأجل أنه يقول في مسألة ما المشهور كذا، ويكون المشهور فيها مقابله، وبعضهم يعزو ذلك إلى كثرة الأخطاء في حل ألفاظ المختصر، وليس ما ذكروه يصلح أن يكون سندًا في التضعيف، فأما الجواب عن الأول فمن وجهين:

الأول: أن قولهم يوهم أن ذلك واقع كثيرًا من التتائي، وليس ذلك كذلك.

والثاني: أن ما نسب إلى التتائي من نقل التشهير في مسألة ما ويكون المشهور في المقابل، هو دعوى لا برهان عليها، وعلى قائل ذلك الإتيان بما يؤيد كلامه، ولو سلمنا جدلًا بصحة ذلك، فإن التشهير عندنا في المذهب يعد من المشكلات العويصة، فقد ترى في المسألة الواحدة تشهيرين أو ثلاثة، وذلك لاختلاف أهل المذهب في المراد منه على سبعة أقوال:

1 -

أهو قول ابن القاسم في المدونة، وإن كان قوله مخالفًا لروايته عن الإمام؛ انطلاقًا من مبدأ ترجيح قول الراوي على روايته.

2 -

أم هو روايته وقوله فيها، وإن تعارضا قدمت الرواية على القول، انطلاقًا من مبدأ رواية الراوي أولى من قوله، فلنا روايته، وله قوله.

3 -

أم مطلق روايته، فإذا جاءت رواية غيره في المدونة معارضة لروايته خارجها قدمت روايته، ولعل ما يدل على هذا الرأي قولهم:"إذا اختلف الناس عن مالك، فالقول ما قال ابن القاسم".

4 -

أم مطلق قوله: داخل المدونة وخارجها، وإن تعارضا قدم ما في المدونة، ولعل ما يدل على هذا الرأي اشتراط الأندلسين في القاضي أن لا يخرج عن مذهب ابن القاسم.

5 -

أم هو مطلق ما في المدونة على التفصيل الذي في هامش 1 من الصفحة 25.

ص: 22

6 -

أم هو كثرة القائلين.

7 -

أم هو الراجح في المسألة؟

هذا فضلًا عن مشكلة أخرى، وهي مشكلة المصطلح من حيث فهمه، وتحديد المراد منه، فأحيانًا تجد نصًا لبيان معنى مفهوم ما، يكون حمال أوجه، كما في النص الذي سقته عنهم في بيان المشهور، ويؤكد هذا ما تجده في شروح المدونة من آراء متباينة في تحديد معنى نص ما، وذلك لاختلاف المنحى والنظر، فبعض شيوخ المدونة يأخذ بظاهرها، وبعضهم الآخر يؤوله.

وبناءً على قول أولئك الناس في عدم اعتماد "جواهر الدرر" نقول لهم: إذا اخترنا مثلًا للدليل القاطع الرأي الثالث أو الرابع سقط تشهير الأندلسيين والمغاربة جملة؛ لأن قول ابن القاسم وحده دون غيره من أصحاب مالك، وتقييد قوله بما في المدونة دون قوله في سواها، يعارض مفهوم المشهور نفسه من حيث اللغة، ومن حيث المذهب أجمع، كما أنه لا يخلو من مقال في ميزان الاعتدال؛ إذ إنه لا يستقيم ومنطق الأمور؛ فأتباع مالك من المتخرجين في مدرسته كثر، وقد تفرقوا في الأمصار والأقطار، فضلًا عن أصحابه من أهل المدينة، الذين ظلوا بها، وورثوا فقه أهلها في كل سكناتهم وحركاتهم، ولازموا مالكًا ولم يفارقوه، ليسوا أقل شأنًا من ابن القاسم، وما أحد من هؤلاء بحجة على الآخر إلا بقدر ما معه من الحجة البينة، فبمثل ذلك أبي مالك أن يفرض أبو جعفر المنصور موطأه على الناس؛ لأنه رأى -رحمه اللَّه تعالى- في ذلك تضييقا عليهم، وإلزامًا لهم بما لا يلزم شرعًا، والحق ليس محصورًا في الموطأ، إذ هو عمل إنسان، وإن كان هذا الإنسان قد أوتي من العلم والفهم ما لم يؤته غيره في زمانه، والذي يصدق على الموطأ عند مالك يصدق عندنا على المدونة.

وتقدمُ ابنِ القاسم على سائر أصحاب مالك علمًا وفقهًا وإتقانًا أمرٌ غير متفق عليه عند أرباب المذهب، فقد قال ابن عبد البر في الانتقاء ص 52: "نا إبراهيم بن شاكر رحمه الله قال: نا عبد اللَّه بن عثمان، قال: نا سعد بن

ص: 23

معاذ، قال: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم يقول: أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة.

وني أحمد بن عبد اللَّه بن محمد بن علي، عن أبيه، أنه ذكر قول محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم لمحمد بن عمر بن لبابة، فقال: ليس هذا عندنا كما قاله محمد، وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلمه.

قال أبو عمر: أشهب شيخه، وابن القاسم شيخه، وهو أعلم بهما؛ لكثرة مجالسته لهما، وأخذه عنهما".

وهذا إقرار بيِّن من حافظ أهل المغرب بل وأهل الإسلام قاطبة في زمانه لرأي محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم.

والعجب العجاب أنك قد ترى مالكًا وجميع أصحابه على أمر، ويكون ابن القاسم وحده في المدونة على خلافه، ويجعل ما عليه ابن القاسم هو المشهور، وذلك واقع، ومثاله: مسألة ما ينقل الضمان في غير الفاسد والخيار من استثناء السلعة المحبوسة للثمن قال بائعها: لا أسلمها حتى أقبض ثمنها، فعلى مذهب ابن القاسم يكون ضمانها كالرهن، يفرق فيه بين ما يغاب عليه فيضمنه البائع، ولا يضمن غيره، وخالفه مالك في أحد قوليه وجميع أصحابه، وقد جعل قول ابن القاسم هنا هو المشهور؛ لوروده في المدونة.

وعلى هذا فإن حصر المذهب في هذا المشهور الذي لا مستند له من الشرع سوى الثقة بابن القاسم، وصحة ما في المدونة عنه سندًا ومتنًا (1)،

(1) بل إن بعضهم قد جعل المشهور ما في المدونة مطلقًا، سواء كان عن ابن القاسم أو عن غيره، فلم يعتبر حيثية ابن القاسم، بل اعتبر حيثية المدونة، ففي الطُّرَرِ على التَّهذيب لأبِي الحسن الطَّنْجِيِّ -كما في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإِمام مالك (1/ 71): "قالوا: قولُ مالكٍ فِي المدوَّنةِ أَولى من قولِ ابنِ القاسم فيها؛ فإِنه الإمامُ الأَعظمُ.

وقولُ ابنِ القاسمِ فيها أَولى من قولِ غيرِه فيها؛ لأَنه أَعلمُ بمذهبِ مالكٍ.

وقولُ غيره فيها أَولى من قولِ ابنِ القاسمِ في غيرها، وذلكَ لصحتها. =

ص: 24

دون ما ورد عنه خارجها، هو من التحجير للواسع، لا سيما إذا انفرد بالنقل، أو كان الأكثر من الرواة على خلافه؛ لأنه حسبما تقتضيه قواعد المنهج العلمي يكون نقله أو قوله شاذًا في المذهب، ولعل هذا مأخذ ابن أبي زيد القيرواني في عدم اعتماد قول ابن القاسم في المدونة أحيانًا.

ثم لو كان المشهور هو قول ابن القاسم، ولا يسوغ خلافه للمنتسب للمذهب فتوًى وقضاء (1)، فلِمَ خالفه أصحاب هذا الرأي في ثماني عشرة مسألة؟ ! (2)، أتراهم خالفوه هوًى، أم خالفوه لمشهور آخر عند قوم آخرين؛ لاعتبارات اضطرتهم، وظروف حاصرتهم، وعلى الثاني فإنا نقول: لا بد من معرفتها والإفادة منها، والقياس عليها، وجعلها منهجًا علميًا في المذهب؛ إذ ما وسعهم يجب أن يسعنا، ولا شك أن خروجهم عنه ما كان تشهيًا ولا هوى، حاش للَّه.

ونسأل -أيضًا- أولئك الذين قد حطوا من شأن (جواهر الدرر) لأجل ما أعلمتك: هل تكون كتبُ العلماء الأجلاء من المغاربة والأندلسيين لأجل هذه المخالفة للمشهور الذي لديهم هم أنفسهم غيرَ معتمدة؟ فلازم كلامهم بحق (جواهر الدرر) نتيجته هذه، ولا شك أنْ لا أحد يجرؤ على ذلك؛ لأنهم هم من هم علمًا وفهمًا، وورعًا وتقوى، وكما قال الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

= قال برهانُ الدِّينِ: فتقررَ من هذا أَن قولَ ابنِ القاسمِ هُوَ المشهورُ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ"، ولو كان ذلك كذلك فالموطأ أرجح من المدونة عند التعارض -ولا بد- من حيث إنه من كتابة الإمام بخطه، وقرأه كل مريديه عنه من سائر الأمصار، كما صرح بذلك ابن العربي.

(1)

ففي أحكام القاضي بن المطرِّف الشَّعْبِىِّ -كما في المصدر السابق (1/ 71) - "قال القاضي ابن الْمُطَرِّفِ بن بِشْرِ: مَنْ خرج عن الفتوى بقول ابن القاسم واضْطَرَبَتْ فُتْيَاهُ بقول غيره وبقوله فإِنه حَقِيقٌ بالنكير عليه وسُوءِ الظن به".

(2)

ينظر: المفيد للحكام، ص 274.

ص: 25

وما نحن وهم إلا كما قال جرير:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

هذا أولًا.

وأما ثانيًا، فإن العراقيين والمغاربة يختلفون أيضًا في التشهير، وما يركن إليه أهل المذهب في العصور المتأخرة من تشهيرهم هو تشهير المغاربة، ومقتضى ذلك يكون تشهير أصحابنا العراقيين غير معتبر ويجب طرحه، وزجر من يذهب إليه ويأخذ به في حال اختلاف تشهيرهم وتشهير المغاربة؛ إذ يقول صاحب نظم المعتمد:

ورجحوا ما شهر المغاربة

والشمس بالعراق ليست غاربة

على الرغم مما في هذا الترجيح المطلق من إجحاف؛ لأن مستند المغاربة أو العراقيين قد يختلف في بعض المسائل باختلاف اختيار إحدى تلك الآراء السبعة، مثلما رأينا من مخالفة ابن القاسم في المسائل المشار إليها آنفًا، بل إن المتأخرين من الأندلسيين والمغاربة قد هجروا القول بأن المشهور ما قاله ابن القاسم في المدونة (1)، وبعض المتأخرين من العراقيين يذهب إلى أن المشهور هو ما عليه المغاربة قديمًا (2)، فلا بد -والحالة هذه

(1) دليل ذلك ما قاله ابن فرحون في "كشف النقاب الحاجب من مصطلح ابن الحاجب"، ص 69 - 70:"وأما ما اختلف فيه التشهير بين المغاربة كاللخمي، وابن محرز، وابن أبي زيد، وابن اللباد، أو الباجي، وابن عبد البر، وابن رشد، وابن العربي، أو القاضي عياض، والقاضي سند، من المصريين وغيرهم ممن يعين المشهور ويخالفه غيره فيه، فهذا محل اجتهاد الفقيه، فإذا وجد الطالب اختلافًا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين، ولم يكن أهلًا للترجيح بالدليل، فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بهم وبرأيهم، فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم، فإذا اختص واحد منهم بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة، فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم، واعتبر ذلك في هذا كما اعتبروا في الترجيح عند تعارض الأخبار صفات رواتها".

(2)

قال أبو الفضل عياض -رحمه اللَّه تعالى- في ترتيب المدارك (3/ 232): "وقال ابن =

ص: 26

- من النظر في المسألة محل الاختلاف في التشهير بحصر الرواة، وترجيح أحد التشهيرين بناءً على ذلك، وفق ما يقتضيه الدليل، هذا هو العدل والإنصاف.

وأما ثالثًا: فإن المرء أحيانًا يتبنى رأيًا من هذه الآراء الثلاثة، ثم يعتريه طارئ فيختار في مسألة ما الرأي الآخر، أو يأخذ بتشهير ابن بزيزة مثلًا في مسألة، ثم يتركه لتشهير ابن رشد، وهذا قد وقع مع الشيخ خليل نفسه في مصنفاته، إذ تجده -رحمه اللَّه تعالى- يختلف قوله في التشهير في بعض المسائل، فما يراه مشهورًا في "توضيحه" لا يراه كذلك في "مختصره"، بل إن منهجه في اختيار التشهير في المختصر متباين، فهو هنا في بعض الأحيان لا يأخذ بتشهير ابن رشد -وهو من هو- في مسألة ما، ويأخذ بتشهير من هو دونه، وفي أحيان لا يأخذ بتشهير من هو محل إجماع لدى المالكية حتى لقب بالإمام ألا وهو المازري، ويأخذ بتشهير غيره ممن لا يجاريه علمًا وفضلًا كابن الحاجب، على الرغم من أن المازري معروف عنه التزامه بالمشهور لدى المغاربة، ولم يخرج عنه في صغيرة ولا كبيرة؛ لأن هذا منهج عنده في الحفاظ على سلامة عبادة الناس ودينهم أولًا، والمذهب ثانيًا.

يقول الشاطبي مثنيًا عنه في الموافقات: "ويذكر عن الإمام المازري أنه سئل: ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان -والضرورات تبيح المحظورات- من معاملة فقراء أهل البدو في سني الجدب؛ إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ، فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم: ما عندنا إلا الطعام، فربما صدقوا في ذلك؛ فيضطر أرباب

= وهب لأبي ثابت: إن أردت هذا الشأن، يعني: فقه مالك، فعليك بابن القاسم، فإنه انفرد به وشغلنا بغيره. وبهذا الطريق رجح القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي مسائل المدونة لرواية سحنون لها عن ابن القاسم، وانفراد ابن القاسم بمالك وطول صحبته له، وأنه لم يخلط به غيره إلا في شيء يسير".

ص: 27

الديون إلى أخذه منهم، خوفًا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم، ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريًا إلى الرجوع إلى حاضرته، ولا حكام بالبادية أيضًا، مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة، وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافًا للقول بالذرائع.

فأجاب: إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى، فهذا ممنوع في المذهب، ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت.

قال: ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب؛ لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعامًا؛ فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة، ويقبض البائع الثمن، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز.

فانظر كيف لم يستجز -وهو المتفق على إمامته- الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناءً على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله؛ فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة" (1).

بل إن الشيخ خليلًا -رحمه اللَّه تعالى- لم يطرد له في مختصره عمل بأحد الأقوال في التشهير، وذلك واضح وجلي لمن استقرأ مختصره، فتارةً

(1) الموافقات (5/ 100 - 101).

ص: 28

ترى المشهور عنده هو قول ابن القاسم أو روايته، وتارةً ترى المشهور عنده هو قول الأكثر، وتارةً أخرى ترى أن المراد بالمشهور هو القول الراجح نظرًا، وفضلًا عن ذلك قد كان له -رحمه اللَّه تعالى- في بعض الأحيان منهج خاص في التشهير، وهو جعل ظاهر كلام ابن رشد وغيره من شيوخ المذهب هو المشهور، وأخذ عليه ذلك في مسائل معينة، منها قوله -رحمه اللَّه تعالى- في أحكام الجنائز في مسألة ستر الميت عند الغسل، وقد نقلته ممزوجًا بشرح التتائي ومغايرًا له باللون الأحمر ليسهل إدراك المراد: "وهل الواجب منه ثوب يستره بجميع بدنه.

قال المصنف: وهو ظاهر كلامهم، أو الوجوب منه ستر العورة، والباقي لستر غيرها سنة، قاله أبو عمران وابن رشد؟ خلاف، فالمصنف نزل ظاهر كلامهم منزلة التشهير، وتعقبه البساطي بأنه لا يقتضي الاختلاف في التشهير على اصطلاحه" (1).

كما أنه ينص في مسألة ما على أن المشهور كذا ولم يسبقه إلى ما شهره أحد من العلماء الحافظين للمذهب، فيكون في جراء قوله أخذ ورد، ومن ذلك قوله في تقميص الميت: "وندب تقميصه، أي: يجعل من جملة أكفانه قميص. قال المصنف: إنه المشهور من المذهب. انتهى، وتعقب بأن الذي حكاه ابن القصار عن مالك كراهة القميص، وأن الذي رواه يحيى بن يحيى أن لا يقمص.

قال البساطي: فاللَّه أعلم بمن شهره. انتهى، والجواب أن من حفظ حجة" (2).

(1) وقد آزر الأجهوري -رحمه اللَّه تعالى- البساطي، فقال:"هما قولان، ولكن لم يشهرا، فكان على المصنف أن لا يذكر خلافًا، بل يقول: قولان، لأنه قال: وحيث قلت: (خلاف) فذلك للاختلاف في التشهير".

(2)

قلت: نص ما تعقب به البساطي مذكور في البيان (2/ 258 - 259): "قال يحيى: وسألت ابن القاسم في الكفن أيجعل فيه عمامة، أو قميص؟ أو هل يؤزر الميت؟

فقال: أحب ما كفن فيه الميت إلينا ثلاثة أثواب بيض، وكذلك كفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم =

ص: 29

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= - لا يجعل فيه قميص، ولا عمامة، ولا يؤزر؛ ولكن يدرج فيهن إدراجًا.

قلت له: فالمرأة أتدرج درج الرجال؟ فقال: أحب إلى أن تؤزر وتخمر، وذلك سواء، ثلاثة أثواب تدرج فيهن لمن وجد لذلك سلعة".

لكن ابن رشد قال: هكذا وقعت هذه الرواية هنا لابن القاسم، والمعروف من مذهبه وروايته عن مالك في المدونة وغيرها أن من شأن الميت أن يعمم، وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي أوله يغتصب الأرض براحًا؛ قال يحيى: وسألت ابن نافع عن الكفن -المسألة إلى آخرها على نصها -واللَّه أعلم- أنها من قول ابن نافع، لا من قول ابن القاسم- وباللَّه تعالى التوفيق".

ووجه تعقب البساطي أن المشهور بحسب المعتمد هو رواية ابن القاسم أو قوله، وأن روايته أقوى من قوله، وأن روايته أو قوله في المدونة أقوى من قوله أو روايته خارجها، وهذا القول ليس في المدونة، وليس فيها هنا نص، فكان قوله هو المشهور، وقد عاضدته حكاية ابن القصار.

قلت: لكن يقال: ما يدل على صدق تشهير المصنف هنا أربعة أمور:

الأول: غمز ابن رشد في صحة نسبة القول لابن القاسم بعدم التقميص في قوله: "وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي أوله يغتصب الأرض براحًا؛ قال يحيى: وسألت ابن نافع عن الكفن - المسألة إلى آخرها على نصها -واللَّه أعلم- أنها من قول ابن نافع، لا من قول ابن القاسم.

الثاني: رواية ابن حبيب وابن القاسم عن مالك القول بالتقميص، كما في المنتقى للباجي.

الثالث: ترجيح الباجي لهذه الرواية بقوله: "وقد اختلف العلماء في ذلك فروى ابن حبيب وابن القاسم عن مالك أن الميت يقمص ويعمم وبه قال أبو حنيفة، وقال القاضي أبو الحسن: إن مذهب مالك أنه غير مستحب وقد رواه يحيى بن يحيى عن ابن القاسم أن المستحب أن لا يقمص ولا يعمم ونحا به نحو المنع وبه قال الشافعي.

قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: والأظهر عندي جوازه والأصل في ذلك ما روى جابر بن عبد اللَّه قال: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه وألبسه قميصه ونفث عليه من ريقه، واللَّه أعلم وكان كسا عباسًا قميصًا".

الرابع: قول ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 17): "واستحب ابن علية القميص في الكفن وهو قول مالك وزعم أصحابه أن العمامة عندهم في كفن الميت معروفة بالمدينة وكذلك الخمار للمرأة واستحبوا أن يقمص الميت".

فيكون قول التتائي رادا على البساطي: "والجواب أن من حفظ حجة" في محله.

ص: 30

- وخالف المشهور على رأي المدرسة التي ينتمي إليها -وهي المدرسة المغاربية- في مسألة تغسيل الرجل الصبية التي كالرضيعة، فقال بالجواز تبعًا لابن حبيب، ومذهب ابن القاسم المنع، وإن صغرت جدًا، وقد قال المصنف نفسه في التوضيح -كما في المنح (1/ 502) -: "إن كانت الصبية مطيقة للوطء فلا يجوز للرجل تغسيلها اتفاقًا، وإن كانت رضيعة جاز اتفاقًا، اختلف فيما بينهما: فمذهب ابن القاسم لا يغسلها، ومذهب أشهب يغسلها.

ابن الفاكهاني: الأولى مذهب المدونة"، وهنا -فيما يبدو- قد أخذ بمفهوم أن المشهور هو القول الراجح.

- وخالف المشهور الذي هو قول ابن القاسم في مسألة إيصال الصائم غير المتحلل للمعدة، فهو يقول:"وإيصال متحلل أو غيره على المختار للمعدة"، قال في المنح (2/ 131): " (و) صحته بترك (إيصال) شيء (متحلل) بضم الميم وفتح المثناة والحاء المهملة وكسر اللام الأولى، أي: ينماع ولو في المعدة من منفذ عال أو سافل، فإن وصل لها ولو غلبة فالقضاء فقط إلا من الفم مع الانتهاك فالكفارة أيضًا، فالمراد بالإيصال الوصول، وهذا في غير ما بين الأسنان من طعام إذ لا يفطر ابتلاعه ولو عمدًا، هذا مذهب المدونة وشهره ابن الحاجب.

واستبعد ابن رشد عدم القضاء في العمد، والمدونة لم تصرح به في العمد لكن يؤخذ من إطلاقها، واللَّه أعلم. اهـ.

(أو غيره) أي: المتحلل كدرهم من منفذ عال فقط بدليل ما يأتي (على المختار) عند اللخمي من الخلاف وهو ابن الماجشون، ومقابله قول ابن القاسم هذا خاص بغيره، فلو قال كغيره بالكاف لوافق عادته.

ونص اللخمي اختلف في الحصاة والدرهم؛ فذهب ابن الماجشون إلى أن للحصاة والدرهم حكم الطعام فعليه في السهو القضاء فقط وفي العمد القضاء والكفارة.

ولابن القاسم في كتاب ابن حبيب لا قضاء عليه إلا أن يكون متعمدًا

ص: 31

فيقضي لتهاونه بصومه، فجعله من باب العقوبة، والأول أشبه؛ لأن الحصاة تشغل المعدة إشغالًا ما وتنقص كلب الجوع وصلة إيصال".

- وخالف كذلك المشهور الذي هو مذهب المدونة في القول بكراهة صلاة الفاضل على أهل الأهواء، رغم أن ظاهرها دلالته واضحة في القول بعدم الصلاة عليهم، والذهاب إلى تكفيرهم، ففيها (1/ 258):"قلت: أرأيت قتلى الخوارج أيصلى عليهم أم لا؟ فقال، قال مالك في القدرية والإباضية: لا يصلى على موتاهم ولا يتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم، فإذا قتلوا فذلك أحرى عندي أن لا يصلى عليهم".

وما يزيد ذلك جلاء في القول بكفرهم أن مذهبها جواز الصلاة خلف ولاة الظلم، وعدمه خلف ولاة أهل الأهواء، ففيها (1/ 176):"قلت: أفكان مالك يقول: تجزئنا الصلاة خلف هؤلاء الولاة والجمعة خلفهم؟ قال: نعم. قلت: فإن كانوا قومًا خوارج غلبوا أكان مالك يأمر بالصلاة خلفهم والجمعة خلفهم؟ قال: كان مالك يقول: إذا علمت أن الإمام من أهل الأهواء فلا تصل خلفه، ولا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء. قلت: أفسألته عن الحرورية؟ قال: ما اختلف يومئذ عندي أن الحرورية وغيرهم سواء".

قلت: ولا يجاب بتأويل سحنون أن ذلك أدب لهم، لأنا نقول: إن ظاهرها صريح في الحكم بكفرهم؛ لذا قال المواق في حل قول المصنف (ولا محكوم بكفره): "من المدونة قال مالك: لا يصلى على موتى القدرية"، هذا أولًّا.

وأما ثانيًا؛ فعن مالك نُقُولٌ تفيد الحكم بكفرهم، فتؤكد إبقاء المدونة على ظاهرها، قال في الشفا (2/ 273، وما بعدها): "وابن حبيب وغيره من أصحابنا يرى تكفيرهم وتكفير أمثالهم من الخوارج والقدرية والمرجئة، وقد روي أيضًا عن سحنون مثله فيمن قال:(ليس للَّه كلام) أنه كافر، واختلفت الروايات عن مالك فأطلق في رواية الشاميين أبي مسهر ومروان بن محمد الطاطري: الكفر عليهم.

ص: 32

وقد شوور في زواج القدري فقال: لا تزوجه؛ قال اللَّه تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} وروي عنه أيضًا: أهل الأهواء كلهم كفار، وقال: من وصف شيئًا من ذات اللَّه تعالى وأشار إلى شيء من جسده يد أو سمع أو بصر قطع ذلك منه لأنه شبه اللَّه بنفسه وقال-: فيمن قال: القرآن مخلوق- كافر فاقتلوه".

وأما ثالثًا؛ فإن من منهج الشيخ خليل تقديم ظاهر المدونة إذا قوي على التأويل، ومن أمثلة ذلك مسألة الشق على بطن الميتة لأجل جنين يضطرب، فرأى أن لا يبقر بطن أمه لأجل إخراجه كما هو عند ابن القاسم على ظاهر قول المدونة: ولا يبقر عن جنين الميتة إذا كان يضطرب في بطنها.

قال التتائي: ولما قوى عنده هذا الظاهر قدمه على التأويل الآخر، وهو قوله: وتؤولت أيضًا على البقر إن رجي خلاصه، وكملت حياته، قاله سحنون.

وانظر إلى القاسم المشترك بين المسألتين، ومع هذا ما رأينا أحدًا حط من شأن المختصر، أو عاب عليه خروجه عما شهره المازري وغيره من أئمة المذهب، الذين يتهيب المرء مخالفتهم، إلا بعد النظر العميق، والفحص الدقيق، بل الحال على ما ترى وتسمع، فقد اهتم الناس بالمختصر حتى ربت شروحه عن الخمسين، وصار في المذهب كما قال الشاعر:

سرينا ونجم قد أضاء لنا فمذ بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

وعليه، فإن القول بأن عدم اعتماد شرح التتائي الصغير كان لأجل ادعائه مشهورية ما ليس مشهورًا هو قول به تجنّ، فينبغي أن لا يُلْتفت إليه، ولا يعول عليه؛ إذ هو قول غير صحيح، وما يؤيد هذا أن الشرح الصغير لم يخرج عما في الشرح الكبير في صغيرة ولا كبيرة، فكيف يعتمد الكبير ولا يعتمد الصغير، أو يسكت عن الكبير ويتكلم في الصغير، فتأمل.

وقصارى ما هنالك أن التتائي قد ينص في مسألة ما على أن المشهور

ص: 33

فيها كذا، ولا يعلمه العلماء بعده، وهذا نادر الحصول جدًا، وهذا واقع في صغيره لوقوعه في كبيره أيضًا، وذلك كما في شرحه قول خليل عن وجوب الحج (لَا بِدَيْنٍ) قَال:"وظاهرُهُ كانت له جهةٌ وَفَّى منها ذلك الدَّيْنَ أَوْ لا، وهو كذلك باتِّفاق فِي الثَّانِي، وعلى المشهور في الأَوَّل".

قَالَ الرماصي: "وما ذكرَه من التَّشهير في عهدته؛ لم أَرَهُ لغيره"(1)، وقد قال من قبله شيخه وشيخ شيخه:"وفي كلام تت نظر"(2).

قلت: ما شرح به التتائي هذه المسأله شرحها بنحوه الحطاب في دعوى الاتفاق على عدم الوجوب على من ليس له جهة وفاء، وخالفه فيما له جهة وفاء، فقال (3): "يعني: أن من لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بأن يستدين مالًا في ذمته ولا جهة وفاء له فإن الحج لا يجب عليه لعدم استطاعته، وهذا متفق عليه.

وأما من له جهة وفاء فهو مستطيع إذا كان في تلك الجهة ما يمكنه به الوصول إلى مكة وقدر على بيع ذلك، أما إذا كان ماله في بلد بعيد لا يمكنه الوصول إليه فلا يلزمه أن يستدين الآن كما يفهم من كلام صاحب المدخل".

فلعل هذا هو المستند للأجهوري والخرشي والرماصي في إنكار دعوى المشهورية، ونصُّ ابن الحاج:"أمَّا الدَّيْنُ فإِذا لم يكن له جهة وفاء ولا يرجو ما يُوفي به فلا شك، وأمَّا غير ذلك ففيه خلاف"(4).

وكأني بالتتائي قد تأثر بمنهج خليل في مسألة التشهير من أن ظاهر كلام الشيوخ الأعلام الثقات يفيد أن ما نصوا عليه وقالوا به هو المشهور، ثقة بهم، واعتمادًا عليهم، وإن كان هذا المنهج فيه بحث عندي، ومستنده

(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 7).

(2)

ينظر: مواهب الأجهوري نسخة مركز جهاد الليبيين، لوحة 412، وشرح الخرشي (2/ 285).

(3)

مواهب الجليل (3/ 468).

(4)

السابق (3/ 468).

ص: 34

في ذلك قول القرافي في الذخيرة (3/ 178): "وإذا لم يكن له مال وبذل له لم يلزمه قبوله عند الجميع؛ لأن أسباب الوجوب لا يجب على أحد تحصيلها، وكذلك لو بذل له قرضا؛ لأن الدين يمنع الحج".

أو أنه اغتر بما في مقدمة الذخيرة (1/ 37): "وأقدم المشهور على غيره من الأقوال ليستدل الفقيه بتقديمه على مشهوريته، إلا أن يتعذر ذلك لتساوي الأقوال، أو لوقوع الخلاف بين الأصحاب في المشهور اختلافًا على السواء، وهذا قليل في المذهب يعلم بقرينة البحث فيه".

فيكون ما أخذه التتائي من الذخيرة هو المشهور عنده، ظنًا منه -وفق منهجها- أن إعراضها عما زيد في الحطاب من تفصيل القول في جهة الوفاء غير معول عليه، فينتفي هنا سبب الاعتراض الذي بَنَى عليه من أنكر تشهيره، واللَّه -تعالى- أعلى وأعلم.

وعلى كل حال، فإني أرى أن اعتماد الكتب هو أمر استنسابي، ولا يعتمد على معايير واضحة، فانظر مثلًا إلى شروح الشيخ العلامة بهرام الثلاثة، إذ زُعم أن المعتمد منها هو الشرح الوسط، قال النابغة في نظمه للمعتمد:

واعتمدوا "بهرام" لكن في "الوسط". .. أَقْسَطَ في تحقيقه وما قَسَطْ

وانظر إلى ما قاله الحطاب في مواهبه (1)، وهو يتكلم عن شروح المختصر:"وقد اعتنى بحلِّ عبارته، وإِيضَاحِ إشَارَتِهِ، وتفكيكِ رموزه، واستخراجِ مُخَبَّآتِ كنوزه، وإبراز فَوَائِدِهِ، وتقييدِ شوارِده، تلميذُه العلَّامةُ الْهُمام، قاضي القضاة تاجُ الدين أبو البقاء بَهْرَامُ بن عبيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عوضٍ الدميريُّ القاهريُّ رحمه الله فشرحه ثلاثة شروح، صار بها غالبه في غاية البيان والوضوح، وَاشتهر منها الأَوْسَطُ غَايَةَ الاشْتِهَارِ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِهِ فِي سَائِرِ الأَقْطَارِ، مَعَ أَنَّ الشَّرْحَ الْأَصْغَرَ أَكْثَرُ تَحْقِيقًا".

(1) السابق (1/ 10).

ص: 35

فإذا كان ما ذكره الحطاب صحيحًا -وهو كذلك؛ ثقة به- كان ينبغي أن يكون الشرح المعتمد هو الشرح الصغير، وأنت تلحظ من خلال كلام الحطاب أن سبب اعتماد الشرح الوسيط هو الاشتهار فقط، لا لأجل التحقيق والتدقيق، ولا نحو ذلك، وهذا يدلك على ما ذكرته آنفًا من أن مسألة الاعتماد لا تخضع لمعايير علمية معينة.

وأما القول بأن سبب عدم اعتماده هو كثرة أخطائه، وهو سبب يدل عليه أيضًا قول صاحب نظم المعتمد، فالجواب أنه ما من شرح على المختصر إلا وقد أُخذ عليه مآخذ عديدة، ابتداءً من شروح بهرام، وانتهاءً بآخر شرح.

بل إن العلماء قد أخذوا على مختصر خليل نفسه في نحو مائتي مسألة، قد أفردتها في كتابي "المؤاخذات على مختصر خليل"، عسى أن يخرج في العام القابل بمشيئة اللَّه تعالى، بعد حصر ما قال الشراح في تلك المواضع قدر المستطاع.

ومن جملة هذه المآخذ التي ذكروها على المختصر: اختلاف قوله في التشهير كما سبق أن علمت، ومخالفته ما كان قد شرطه على نفسه في مقدمته، فهل يكون مختصر خليل غير معتمد لأجل ذلك؟

ولا يقال اعتذارًا عن خليل: إنه لضيق المقام لأجل الاختصار اضطر إلى استعمال بعض العبارات الموهمة، حاله في ذلك حال الشاعر، يباح له ما لا يباح لغيره، لأنّا نقول: إن المؤاخذات التي أخذت عليه فيه لا مكان للاضطرار فيها.

وما يدل على أن الأخطاء الواردة في الكتب لا تصلح أن تكون معيارًا لجعل كتاب ما معتمدًا أو غير معتمد أنه مثلما عيب على التتائي من قبل ابن عاشر، والونكري، ومصطفى الرماصي، والخرشي، رأينا غيره من الشراح -دون استثناء- مَنْ عِيب عليه من هؤلاء أو غيرهم، والخرشي نفسه لم يسلم شرحه من ذلك؛ لأن الكتاب مهما بلغت إمامة صاحبه يظل نتاجًا بشريًا،

ص: 36

قابلًا للأخذ والرد، وقد قيل قديمًا:"لا يغني كتاب عن كتاب"، و"قد تجد في البحر ما لا تجد في النهر"، ولو أخذنا بردود العلماء بعضهم على بعض ما سلم لنا كتاب، ووقعنا في حيرة، فالبساطي رد على بهرام، والتتائي رد على البساطي، والأجهوري رد على التتائي في شرحه الكبير، وربما تطرق للصغير، وقد رد غير واحد على الأجهوري، فلم يُعتمد ما انفرد به هو في شرحه، قال النابغة الغلاوي:

بيان ما من كتب لا يعتمد

ما انفردت بنقله طول الأمد

من ذلك الأجهوري مع أتباعه

مع اطلاعه وطول باعه

وهكذا دواليك إلى آخر الشروح والحواشي والحواشي التي على الحواشي، كما هي السمة البارزة للعصر الوسيط من تاريخ أمتنا الإسلامية.

ثم إن ابن أبي زيد وهو الإمام المتفق على جلالته ونباهته، حتى لقب مالك الصغير، قد أُخذ عليه أخطاء عديدة في النقل والتشهير، فهذا ابن رشد يقول في البيان والتحصيل (3/ 407) في شرح قول مالك:(الحج كله في كتاب اللَّه تعالى والصلاة والزكاة ليس لها في كتاب اللَّه تفسير، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك): "ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب ابن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة تدل وجوبهما في القرآن مجملًا، وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أراد اللَّه منه وفسره، وقوله في الرواية أيضًا ليس لها ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلًا غير صحيح، فقال فيها: الحج كله في كتاب اللَّه سبحانه، وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه، ولهذا وشبهه رأى الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع"، فهل يقال لأجل ذلك: إن مختصر ابن أبي زيد غير معتمد.

وهذا الرماصي قد انتقده -أيضًا- لعدم التزامه بالمشهور، فقال في حاشيته على التتائي في الصلاة على القبر:"وأما قول الرسالة: (ومن دفن ولم يصل عليه وووري فإنه يصلى على قبره) فلا دليل فيه؛ لأنها لا تتقيد بالمشهور".

ص: 37

فقد تجد في الرسالة أقوالًا ليست في المدونة، وربما مخالفة لها، وعلى الرغم من ذلك لم نر أحدًا من محققي المذهب من حط من شأن الرسالة، أو غمز من قناتها، إلا آخرًا، وقد جعل القرافي -وهو من هو في المذهب- الرسالة من الكتب التي يدور عليها مذهب مالك شرقًا وغربًا، فقال وهو يذكر مصادر كتابه الذخيرة (1/ 36):"وقد أثرت أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، حتى لا يفوت أحدًا من الناس مطلب، ولا يعوزه أرب، وهي: (المدونة)، و (الجواهر)، و (التلقين)، و (الجلاب)، و (الرسالة) جمعًا مرتبًا".

وأزيدك من القصيد بيتًا، وهو إذا كان الرماصي -كما يقولون- قد اهتم بتقويم الكتب وتقييمها، وكان في ذلك عمدة، وكيف لا، وهو من دانت له أعناق أقرانه، على حد وصف صاحب أعلام الخلف، فإن الرماصي هذا هو القائل في مقدمة حاشيته على التتائي:"لما كان علم الفقه أفضل العلوم بعد كتاب اللَّه وسنة رسوله؛ إذ به تعرف الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وقد صنف فيه الأئمة الأعلام دواوين لا تحصر، وأحسن ما صنف في ذلك مختصر خليل؛ إذ أقبلت عليه الطلبة شرقًا وغربًا، له شروح كثيرة، وأحسنها شرح لعلامة شمس الدين التتائي؛ لما اشتمل عليه من اختصار، وحسن العبارة، وجمعه للفوائد؛ لأنه رجل أديب، لكنه كما قيل: مات قبل أن ينقحه؛ فلذا وجد فيه التصحيف. . ".

فانظر كيف جعل شرح التتائي أحسن الشروح على الإطلاق، بقوله:(وأحسنها)، ولم يقل:(ومن أحسنها)، فهذا يناقض ما ذهبوا إليه من عدم اعتماد شرحيه، أو من عدم اعتماد الصغير، فهذه الحاشية لم يخصصها الرماصي لشرح التتائي الصغير أو الكبير، والشرح الصغير فيما رأيت لم يخرج عن الكبير في صغيرة ولا كبيرة، إلا في مسائل محدودة، ودليل ذلك خلافًا لما هو متداول عند بعضهم من أنها على الكبير، وعند بعضهم الآخر من أنها على الصغير، أن الرماصي تارةً يقول:(تت في كبيره)، إذا كان النص انفرد به الكبير، وإذا كان فيهما معًا لم يقيد قول تت بهما، وربما فعل ذلك، فقال:(تت في صغيره وكبيره)، وربما انفرد الصغير ببعض

ص: 38

التفاصيل فيتعقبه الرماصي، كما في تعليقه على نجاسة القملة، قال الرماصي: تت: (هنا وفي باب الصلاة تشهير ابن عبد السلام)، وقع في باب الصلاة، كما هو بأصله، وكذا حكاه عنه في توضيحه والشارح، ولم يذكره هنا أصلًا، فانظر قوله:(هنا)، ولم يذكر ذلك في كبيره، ونصه:(لم يستحضر البساطي تشهير ابن عبد السلام، والفرق بينهما في باب الصلاة)، إلا أن يكون الظرف والمجرور متعلقان بـ (يستحضر)، أي: لم يستحضر ذلك هنا، ولا في باب الصلاة. اهـ. والأمثلة عديدة، ينظر منها ما في ص 216، ص 228، وص 235 من هذا الشرح.

هذا، ولتلافي الأخطاء الواقعة في شرح التتائي هذا عملت على تتبعها ووضع رد العلماء من أمثال الخرشي والأجهوري عليها في الهامش؛ لأن الأجهوري قد جعل من جملة مصادر شرحه على مختصر خليل شرح التتائي (1)، فلا بد أنه قد أتى على تلك المواضع التي عيب بها عليه، وناقشها وفندها؛ إثراءً لكتابه.

كما أن الأجهوري شيخ للخرشي، "وقد تتبع الخرشي في شرحه ما ازدراه شيخه أو غيره على التتائي، فالخرشي يدور في فلك شيخه كما هو معروف، بل إنه في أحيان كثيرة ينقل شرح شيخه في المسألة بتصرف يسير.

والخرشي شيخٌ للشيخ العلامة مصطفى الرماصي المحشي على شرح التتائي الكبير حاشية في غاية الجودة والنبل.

ومن ثم؛ فإني قد اعتمدت -ما أمكنني ذلك- على مرجعين مطبوعين

(1) وهذا دليل عملي على أن اعتماد الكتب ليس خاضعًا لمعايير معينة، وأن اعتماده إنما يكون بشهرة صاحبه بالعلم وبالورع، وقد اجتمع ذلك في التتائي باتفاق من ترجم له، وأما اعتماده بغير ذلك فلا يسلم المرء حينئذ من حظوظ النفس.

وللَّه در الشاعر حين قال:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معائبه

وللَّه در الآخر حين قال:

من ذا الذي ما ساءَ قَطْ

ومن له الحسنى فقط

ص: 39

وآخرين مخطوطين في بيان ما جانب الصواب فيه التتائي، وهذه المراجع: شرح شيخ الإسلام الأجهوري، وشرح الشيخ عليش، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، وحاشية الرماصي.

على أن التتائي قد قيض له اللَّه من يناصره في بعض ما فهمه ورآه، ومن يطالع منح الجليل، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، وحاشية العدوي على الخرشي يقف على ذلك (1).

هذا ما علمت ممن لقيت في شأن تضعيف "جواهر الدرر"، وبقي سبب آخر، وهو: ما ذكره النابغة الغلاوي -رحمه اللَّه تعالى- على لسان السجلماسي في قوله:

وضعفوا في الحكم والإفتاء

"جواهر الدرر" للتتائي

وأنكر ابن عاشر والونكري

ومصطفى والخرشي ما منه ازدري

قال السجلماسي مما ينتحل

كادت مطالعته أن لا تحل

فالذي نستفيده من قول النابغة هو أن سبب تضعيف شرح التتائي الصغير أمران؛ لأنه ذكر الحكم ثم أعقبه بأسبابه، وهذان الأمران هما:

الأول: ما عيب به على التتائي من قبل الأعلام المذكورين في البيت الثاني، وهذا السبب قد سبق رده.

والآخر: اتهام السجلماسىِّ التتائيَّ ادعاء ما ليس له، أي: اتهام التتائي بالسرقة وعدم الأمانة العلمية، ولا شك أن عدمها مذهب لبركة العلم، فإنْ

(1) وقد جاء في الورقة 19 النسخة (ن 2) في مدح شرح التتائي على مختصر خليل:

أخي إن رمت فهم لفظ خليلنا

وحل كلام غاب عنك ولم تدر

عليك بشرح ذا الإمام المحقق

محمد التتائي، فاصغِ إلى خبري

فقد جمع الشراح في شرحه الذي

فاق به أهل الشرق والغرب يا ذخري

وفيه بيان المعضلات وحلها

وإيضاح مشكل وبحث مع الغر

فكاد خليل أن يقول بنفسه

وُفّقت مرادي، فامض فامض على الأمر

ص: 40

كان ذلك كذلك، ولعله كذلك؛ لأن معنى "ينتحل" في كلام العرب لفظ مشترك، يأتي بمعنى الديانة، كما تقول: فلان يَنْتَحِل كذا وكذا، أَي: يَدِينُ به، ويأتي بمعنى يدّعي ما لغيره لنفسه، من قولهم: انْتَحلَه وَتَنَحَّلَه، أي: ادَّعاهُ لنَفسِه وهو لغَيرِه، يقال: انْتَحلَ فلانٌ شِعرَ فلانٍ أو قَوْلَه: ادَّعاه أنّه قائلُه، وَتَنَحَّلَه: ادَّعاه وهو لغَيرِه، قال الأعشى:

فَكَيْفَ أنا وانتِحالي القَوا

فِي بَعْدَ المَشيبِ كَفى ذاكَ عارا

وقيدَني الشِّعرُ في بَيْتِهِ

كما قيدَ الآسراتِ الحِمارا

ولعل المعنيين مرادان، ولكن الأقرب للواقع هو الثاني؛ وعلى كلا الاحتمالين لا يعد التتائي مخطئًا؛ إذ المعنى الأول إن كان من التتائي لا يعد عيبًا، إلا إذا كان السجلماسي ممن يرى إغلاق باب الاجتهاد حتى داخل المذهب، ولئن سلمنا بأن المراد هو المعنى الثاني فالجواب عنه أن التتائي قد كان ينقل القول في "جواهر الدرر" من شرحه الكبير، ولا يعزوه في بعض الأحيان طلبًا للاختصار، اعتمادًا على عزو القول لصاحبه في الكبير واكتفاء به، كما في المواضع الآتية:

- قوله تحت قوله حادثة: "إذا فرعنا على المشهور فهل الثلاثة الأميال محسوبة من الثمانية والأربعين ميلًا، كما هو ظاهر كلامهم، أو غير محسوبة لأجل أنه لما حكم بأنه يتم فيها، فكأنها وطنه؟ ".

فهذا الكلام لابن ناجي، كما في الشرح الكبير، لوحة 142، وقد قال في الصغير عقب هذا الاستفهام:"قال ابن ناجي: لم أر في ذلك نصًا، وعندي أنها لا تحسب، واختار غير واحد ممن لقيته أنها تحتسب".

- وقال في مسألة صلاة المسافر سفرية ثم نوى الإقامة بعدها: "تنبيه: قد استشكل الإعادة بأن نية الإقامة طارئة بعد كمال الصلاة بشروطها، فالجاري على الأصل عدم الإعادة، وأجيب عن ذلك بأجوبة. . . ".

فما قاله تحت قوله تنبيه هو لابن ناجي، كما في الشرح الكبير، لوحة 143، وقد نقله التتائي هنا بتصرف.

ص: 41

- وفي مسألة محل الجمع بين الصلوات وشرطه، قال:"وأشار لمحل الجمع بقوله ص: (ببر) ش: لا بحر، قصرًا للرخصة على موردها"، فهذا القول لصاحب النكت، كما في الشرح الكبير، لوحة 143.

- وفي مسألة ما يتعلق بسنن الفطرة قال في شرح قول خليل (وكره حلق شعره): "كرأسه وعانته مما يجوز له حلقه، وأما لحيته فلا يجوز حلقها"، فهذا الكلام للبساطي وليس له، كما في الشرح الكبير، لوحة 171.

ففي رأيي: إن هذا الصنيع في هذه المواضع وفيما كان مثلها لا يعد انتحالًا صرفًا؛ لأن الرجل قد بيَّن مصدره في الأصل، فلا يحاسب على ما في الفرع من عدم العزو، بل هو ليس بانتحال مطلقًا إذا علمت أنه قد صرح باعتماده في عدم العزو هنا على العزو في الشرح الكبير، كما سبق أن قلنا، فقد قال -رحمه اللَّه تعالى- في مسألة (الجمع من عذر) تحت قوله تنبيه:"وعلى المشهور في جوازه راجحًا أو مرجوحًا طريقان، انظر عزوهما في الكبير".

وبهذا ينكشف لك أن السجلماسي في حكمه على شرح التتائي الصغير هو أحد رجلين: إما رجل في نفسه من التتائي شيء، وإما رجل لم يقرأ مع الشرح الصغير الشرح الكبير كما ينبغي؛ ليعلم مأخذه ومصدره، وأخيرًا؛ فإن صنيع العلماء بعد التتائي من النقل عنه والاعتماد عليه يدل على أهمية شرحيه، وقيمتهما العلمية، ولا سيما عليش.

ولو كان التتائي قد أخذ عليه السجلماسي لأجل الانتحال فما تراه كان يقول في مختصر خليل إذا علم أنه في بعض الأحيان منتحل مختصر ابن الحاجب، يقول الرماصي متعقبًا الخليل في قوله:(ومال الكتابي الحر المؤدي للجزية لأهل دينه من كورته): "هذه عبارة ابن الحاجب، وانتحلها مع أن فيها حشوًا وإيهامًا؛ إذ تقييده بالكتابي يوهم أن غيره ليس كذلك، مع أن الحكم واحد، وقيد المؤدي للجزية يغني عن الحرية، وأخل بقيد كونه لا وارث له.

وعبارة ابن شاس: إذا هلك الكافر المؤدي للجزية ولا حائز لماله

ص: 42

بميراث يعلم فماله لأهل دينه، يختص به منهم أهل كورته الذين جمعهم وإياه ما وضع من الجزية".

والأمثلة على انتحال الخليل لما في مختصر ابن الحاجب كثيرة، وقد كان أحيانًا يفندها في توضيحه، ثم تراه هنا في مختصره يحتذي بها.

ومهما يكن من أمر، فإننا لا ننكر وجود بعض الهنات في الشرحين الكبير والصغير، من حيث نقل النصوص، وحل بعض الرموز، ولكننا ما لا نقر به هو تلك المبالغة وذلك التهويل لحد إسقاط الكتاب وإفقاده قيمته.

ولعل السبب وراء تلك الهنات هو أن التتائي قد وضع شرحه إبان الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وما كان من شأن ظهور العثمانيين على المماليك، ما أشغل ذهنه، وأربك فكره، فرأى التوقف عن الكتابة إلى أن استقرت الأمور، وقد ذكر التتائي نفسه ذلك في "فتح الجليل"، ولعله إذا شاء اللَّه إخراجه محققًا، سأضع له دراسة تبين الفترة السياسية التي عاش فيها التتائي، وما حدث له فيها، وتأثيرها عليه؛ إذ المرء ابن بيئته، يتأثر بها ويتفاعل معها.

-5 -

هذا وقد قدمت بين يدي الكتاب مبحثين، جعلت أولهما للتعريف بالتتائي من حيث اسمه، ونشأته، ومشايخه، ومؤلفاته، ووفاته، بحسب ما أتاحته كتب التراجم، وما أفشى به قلمه، وجعلت آخرهما لوصف نسخ المخطوط.

وفضلًا عما هو معلوم من عمل التحقيق ربما وقفت عند بعض المسائل التي هي مثار جدل في ساحتنا المعاصرة، ونقلت ما فيها من تحقيق؛ بيانًا للحق، أي كان قائله.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر وخالص المودة والتقدير إلى الأستاذ مدير مكتب الحرف العربي للطباعة: فرج حامد

ص: 43

المسلاتي؛ لطباعته هذا العمل مع زحمة أعماله، وانشغال باله، وصبره على مراجعتي إياه؛ ليخرج العمل على ما ترى، والشكر موصول كذلك بالأخ الفاضل الشيخ فرج حسن البوسيفي، لسعيه معي في محاولة الحصول على نسخة المكتبة الوطنية بتونس، وإتاحته مكتبته، وربما كاشفته في بعض المسائل فيفتح اللَّه عليّ به، فكما قال سيد الخلق أجمعين، وخير الأولين والآخرين:"من لا يشكر الناس لا يشكر اللَّه"، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، واللَّه أسأل أن يمدنا بما عنده من الفهم والعلم، فينعم علينا جميعًا بفتح العارفين به، ويتولانا برحمته وعفوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وكتب الدكتور: أبو الحسن، نوري حسن حامد المسلاتي

عضو هيئة التدريس بجامعة قاريونس

عفا اللَّه عنه وعن والديه

آمين

بنغازي: 6 محرم 1432 هـ

الموافق: 12/ 12/ 2010 م

* * *

ص: 44