الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي وبه ثقتي
أحمد اللَّه العظيم ذو (1) الجلال والإكرام لمنته علينا بنعمة الإسلام، وبيانه لنا معالم الحدود والأحكام، مفرقًا فيها بين الحلال والحرام، أثني عليه في بادئ الأمر وعائده، وأشكره على وافر عطائه ورافده، قائلًا كما قال القائل [حسن اللَّه له تلك الشمائل](2)، حيث قال:
إذا كان شكري نعمة اللَّه نعمة
…
عجزت ورب الكائنات عن الشكر (3)
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه الواحد الأحد، الفرد الصمد، المنزه عن الصاحبة والشريك والولد، وأشهد أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، من بختم النبوة والرسالة انفرد، وعليه في اختصار ما طال يُعتمد (4).
(1) في "ن 2": ذي، وفي "ن 1": ذا، ووجه الرفع والنصب كالآتي، أما وجه الرفع فعلى أن (ذو): نعت مقطوم، أي: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو، وأما وجه النصب فعلى أن النعت تابع لمنعوته، لا مقطوع عنه، وأما الجر فلا وجه له؛ فهو لحن بين؛ فلا وجود لما هو مجرور ليحمل عليه، ولو على التوهم.
(2)
ما بين معكوفين غير موجود في "ك".
(3)
هذا البيت مجهول القائل، وصدره لمحمود الوراق، كما سيأتي قريبًا.
(4)
لعله يشير إلى الحديث الصحيح: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، =
وصلى اللَّه عليه (1)، وعلى آله (2) وأصحابه وسلم، في كل حين وأمد.
وبعد:
فيقول العبد المقصر الضعيف، الملتجئ إلى مولاه القوي اللطيف، هو (3): محمد بن إبراهيم بن خليل التتائي، ستر اللَّه عيوبه، وغفر ذنوبه: قد اعتنى بفضيلة السبق لشرح مختصر العالم العلامة خليل (4) بن إسحاق بن
= وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون"، رواه من حديث أبي هريرة: مسلم (1/ 371، رقم 523)، والترمذي (4/ 123، رقم 1553)، وقال: حسن صحيح. وأبو عوانة (1/ 330، رقم 1169)، وأبو يعلى (11/ 377، رقم 691)، وابن حبان (6/ 87، رقم 2313)، وهو من أحاديث الأحكام المعول عليها في المذهب في اختلاف مالك والشافعي.
(1)
قوله: (وصلى اللَّه عليه)، عطف للصلاة على البسملة، وما كان مثلها استشكله طائفة، وقالوا: الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة والتسمية قبله خبر والدعاء، لا يحسن عطفه على الخبر لو قلت: مررت بزيد وغفر اللَّه لك، لكان غثًا من الكلام، والتسمية في معنى الخبر؛ لأن المعنى: أفعل كذا باسم اللَّه.
وحجة من أثبتها: الاقتداء بالسلف، والجواب عما قاله هو: أن الواو لم تعطف دعاء على خبر، وإنما عطفت الجملة على كلام محكي، كأنك تقول: بدأت بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وصلى اللَّه على محمد، أو أقول هذا وهذا، أو أكتب هذا وهذا. ينظر: نتائج الفكر في النحو، ص 44 - 45.
(2)
عَطَفَ قوله (آله) بإعادة ذكر العامل، الذي هو حرف الجر (على)؛ لأجل أمرين اثنين، وهما: الأول: إشارةً إلى مخالفة الشيعة في زعمهم كراهة الفصل بينه صلى الله عليه وسلم وبين آله في العطف. والآخر: اتباعًا للغة العالية التي هي لغة جمهور العرب، وبها جاءت القراءات العشر، عدا قراءة حمزة بن حبيب الزيات؛ إذ إن عطف الاسم الظاهر على المضمر المجرور من غير إعادة العامل قد جاء في لغة قليلة يأباها القياس القوي، ولم يرضها نحاة المذهبين: البصري والكوفي، وخرجها ابن جني على إضمار حرف جر محذوف، دل عليه المذكور قبله، وعلى هذه القراءة جاء قول الشاعر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا
…
وما بينها والكعب غوط نفانف
وقول الآخر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
…
فاذهب فما بك والأيام من عجب
(3)
كذا في (ك)، و (ج)، والصواب حذفها.
(4)
هو: خليل بن إسحاق بن موسى، الملقب بـ: ضياء الدين الجندي (000 - 776 هـ = 000 - 1374 م) فقيه مالكي، من أهل مصر، كان يلبس زي الجند، تعلم في القاهرة، وولي الإفتاء على مذهب مالك، جرت على يديه الكرامات التي تدل على صلاح =
موسى المالكي جماعة، كل منهم لما تصدى له كفيل وحميل (1)، وبعضهم مِن تلامذة المصنف الأعيان (2)، ممن بضاعتي بالنسبة إليهم
= حاله، له: المختصر، وهو هذا الذي يشرحه التتائي، وقد شرحه كثيرون، وترجم إلى الفرنسية، والتوضيح وهو شرح على مختصر ابن الحاجب الفرعي، والمناسك، ومخدرات الفهوم في ما يتعلق بالتراجم والعلوم، ومناقب المنوفي. ينظر: الدرر الكامنة (2/ 86)، وفيه: وفاته سنة 767 هـ، والديباج المذهب ص 115.
(1)
أي: ضامن وكفيل.
(2)
تلامذة المصنف المشار إليهم، وهم بحسب اعتماد التتائي عليهم في هذا الشرح:
* تاج الدين بهرام، وهو: بهرام بن عبد اللَّه بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري الدميري (734 - 805 هـ = 1334 - 1402 م): فقيه انتهت إليه رئاسة المالكية في زمنه، نسبته إلى (دميرة) قرية قرب دمياط، أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 - 792، كان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة، ولا سيما بعد تفرغه للعلم بصرفه عن القضاء. له كتب عديدة، عم نفعها، وأطبقت شهرتها الآفاق، منها:(الشامل) على نسق (مختصر خليل)، و (شرحه)، و (شرح مختصر خليل)، و (شرح مختصر ابن الحاجب) في الأصول. ينظر ترجمته في: الضوء اللامع (3/ 19).
* البساطي، وهو: محمد بن أحمد بن عثمان الطائي البساطي، أبو عبد اللَّه، شمس الدين، (760 - 842 هـ = 1359 - 1439 م)، فقيه مالكي، من القضاة، ولد في بساط (من الغربية، بمصر) وانتقل إلى القاهرة، فتفقه واشتهر، ودرس وناب في الحكم، ثم تولى القضاء بالديار المصرية (سنة 823) واستمر 20 سنة لم يعزل إلى أن مات بالقاهرة. من كتبه: المغني، وهو في الفقه، وشفاء الغليل في مختصر الشيخ خليل، وحاشية على المطول، ومقدمة في أصول الدين. ينظر ترجمته في: الأعلام (5/ 332)، والضوء اللامع (5/ 7).
* ابن الفرات، وهو: عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم، عز الدين المعروف بابن الفرات: فاضل مصري، (759 - 851 هـ = 1358 - 1448 م)، مولده ووفاته بالقاهرة. له (تذكرة الأنام في النهي عن القيام) ومجاميع ومختصرات، منها (نخبة الفوائد - خ) في فقه الحنفية، لخصه من كتاب (عقد القلائد في حل قيد الشرائد - خ) لابن وهبان. وهو ابن المؤرخ (محمد بن عبد الرحيم) المعروف بابن الفرات أيضًا. ينظر: الأعلام (3/ 384).
* الأقفهسي، وهو: عبد اللَّه بن مقداد بن إسماعيل بن عبد اللَّه الجمال الأقفهسي ثم القاهري المالكي، ويعرف بالأقفاصي، ولد بعد الأربعين وسبعمائة، وتفقه بالشيخ خليل وغيره، وتقدم في المذهب ودرس وناب في القضاء عن العلم سليمان البساطي =
مزجاة (1)، وليس الخبر كالعيان (2)، غير أنني تلقيته دراية ورواية عن جميع من أدركته مِن مشيخة عصر مصري (3)، وهم تلقوه عن مشايخ عصرهم،
= فمن بعده، ثم استقل بالقضاء غير مرة، فحمدت سيرته عفة وحسن مباشرة وتودد، مع قلة الأذى والكلام في المجالس، ومزيد تقشفه وتواضعه وطرحه للتكلف. وانتهت إليه رياسة المذهب، ودارت عليه الفتوى فيه، وشرح الرسالة شرحًا انتفع به من بعده، وكان مزجى البضاعة في غير الفقه، ومات وهو على القضاء في آخر الدولة المؤيدية، في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين، وقد قارب الثمانين. قال المقريزي: كان فقيهًا بارعًا عرف بالصيانة والدين والصرامة، ناب في الحكم عن العلم سليمان البساطي سنة ثمان وسبعين، وصار المعول على فتواه من سنين. وقال في عقوده: انتهت إليه رياسة المالكية، ودارت على رأسه الفتيا سنين عديدة. وقال البرماوي: هو من أهل العلم، له معرفة جيدة بالفقه والنحو.
(1)
أي: قليلة، ومن ذلك قول اللَّه تعالى على لسان إخوة يوسف {قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} ، قال في تاج العروس (38/ 212): "وبضاعة مزجاة: قليلة، وبه فسرت الآية.
وفي بعض نسخ الصحاح: أي يسيرة. وفي الأساس: أي خسيسة يدفعها كل من عرضت عليه.
وفي المصباح: تدفع بها الأيام لقلتها. وفي كتاب الغرر والدرر للشريف المرتضى، أي: مسوقة شيئًا بعد شيء على قلة وضعف. أو بضاعة مزجاة فيها إغماض، لم يتم صلاحها؛ عن ثعلب؛ وبه فسر الآية. قال: وقوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} ، أي: بفضل ما بين الجيد والرديء.
وقال بعض المفسرين: قيل: كانت حبة الخضراء والصنوبر. وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن. وقيل دراهم ناقصة".
(2)
قوله: "وليس الخبر كالعيان"، هو حديث، ولكن بدل كالعيان: كالمعاينة، رواه من حديث ابن عباس: أحمد (1/ 215، رقم 1842)، والحاكم (2/ 351، رقم 3250) وقال: صحيح على شرط الشيخين، والطبراني في الأوسط (1/ 12، رقم 25)، والضياء (15/ 82، رقم 76)، وابن حبان (14/ 96، رقم 6213). ومن حديث أنس: الضياء من طريق ابن خزيمة (5/ 202 رقم 1827) وقال: إسناده صحيح. والخطيب (3/ 200). وهو حديث صحيح، وأما قول الإمام أحمد -كما في علل الترمذي-: لم يسمع هشيم حديث أبي بشر: "ليس الخبر كالمعاينة"، فليس بتضعيف للحديث، لأن غير هشيم قد رواه؛ ولذلك صححه جمع من المحدثين.
(3)
سبق الحديث عنهم في مقدمة التحقيق.
ومشايخ عصرهم عن مؤلفه رضي الله عنهم أجمعين، فأردت حل ألفاظه ممزوجة الأصل والشرح بالحمرة والمداد، ليسهل تناوله من له أراد، فقلت مستعينًا على ذلك بالحسيب الجليل؛ فهو حسبي ونعم الوكيل، وسميته:(جواهر الدرر في حل ألفاظ المختصر):
بسم اللَّه الرحمن الرحيم أبتدئ به عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أبتر"(1)، وفي رواية الرهاوي:"أقطع"(2)، ومعناهما: ناقص، قليل البركة، غير تام، ومعنى:"ذي بال": شرف وعظمة، أو حال يهتم به (3)، والباء في:"بسم" متعلقة بمحذوف.
(1) هذا الحديث رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي والسامع (2/ 69 - 70)، من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا، ولكن قال بدل (أبتر):(أقطع). وهو بهذا السند صحيح، إن سلم من وقوع قرة، ولعل هذا ما دعا النووي في الأذكار ص 112، العجلوني في كشف الخفاء (2/ 119، رقم 1964) لأن يحكم له بالحسن، ولكن رمز له السيوطي في الجامع الصغير (2/ 158) بالضعف، فاللَّه تعالى أعلم.
(2)
الألفاظ التي عناها ليست لحديث: ". . لا يبدأ فيه ببسم اللَّه. . "، وإنما لـ:". . لا يبدأ فيه بحمد اللَّه. . "، قال النووي في الأذكار ص 111 - 112:"وروينا في "سنن أبي داود"، "وابن ماجه"، و"مسند أبي عوانة الإسفراييني" المخرج على "صحيح مسلم" رحمهم الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للَّه فهو أقطع".
وفي رواية: "بحمد اللَّه".
وفي رواية: "بالحمد فهو أقطع".
وفي رواية: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد للَّه فهو أجذم".
وفي رواية: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم فهو أقطع".
روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب "الأربعين" للحافظ عبد القادر الرهاوي، وهو حديث حسن، وقد روي موصولًا كما ذكرنا، وروي مرسلًا، ورواية الموصول جيدة الإسناد، وإذا روي الحديث موصولًا ومرسلًا، فالحكم للاتصال عند جمهور العلماء، لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير.
(3)
ينظر: الأذكار للنووي ص 112.
قال الزمخشري (1): يضمر كل فاعل ما تجعل التسمية مبدأ له.
وإضافة (اسم) إلى (اللَّه) مِن إضافة العام للخاص، كـ:(خاتم حديد)، والجلالة الكريمة علم الذات العظيمة الواجبة الوجود (2)،
(1) هو: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، جار اللَّه، أبو القاسم:(467 - 538 هـ = 1075 - 1144 م) من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب.
ولد في زمخشر: قرية من قرى خوارزم، وسافر إلى مكة فجاور بها زمنًا فلقب بجار اللَّه، وتنقل في البلدان، ثم عاد إلى الجرجانية من قرى خوارزم، وتوفي فيها. أشهر كتبه (الكشاف - ط) في تفسير القرآن، و (أساس البلاغة - ط) و (المفصل - ط)، وكان معتزلي المذهب، مجاهرًا، شديد الإنكار على المتصوفة، أكثر من التشنيع عليهم في الكشاف وغيره. ينظر: الأعلام (7/ 178).
(2)
معنى قولهم الواجبة الوجود، أو: الواجب الوجود: الشيء القائم بذاته، فلا يفتقر لغيره، وهذا المعنى وإن كان يصدق على اللَّه تعالى، غير أنه لا يجوز تسمية اللَّه تعالى ولا وصفه به؛ ذلك لأن أسماءه تعالى وصفاته توقيفية لا اجتهادية، وهذا مذهب مالك وأبي الحسن الأشعري، خلافًا للباقلاني، ينظر المقدمات الممهدات (1/ 30).
وقد فصل الحطاب القول في ذلك (1/ 69 - 70) فقال: "والسيد: الكامل المحتاج إليه بإطلاق، واستعماله في حق غير اللَّه سائغ، نطق به الكتاب والسنة، وذكر الدماميني في شرح التسهيل عن ابن المنير في ذلك ثلاثة أقوال:
- جواز إطلاقه على اللَّه تعالى وعلى غيره.
- وامتناع إطلاقه على اللَّه تعالى، وحكاه عن مالك، وهو الذي يفهم من كلام المقدمات.
- وامتناع إطلاقه على غير اللَّه تعالى.
ثم ذكر عن النحاس رابعًا، وهو: جواز إطلاقه على غير اللَّه، إلا أن يعرف بأل، قال: والأظهر الجواز بالألف واللام لغير اللَّه، وما ذكره عن مالك من المنع هو الذي يفهم من كلام المقدمات، والذي في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة الكراهة، فإنه كره الدعاء بـ (يا سيدي)، و (يا منان)، ولعله حمل الكراهة على المنع، ولم يصرح ابن رشد في البيان بحملها على المنع.
وقال في شرحها: وأما الدعاء بـ (يا منان) فلا كراهة فيه؛ لأنه من أسماء اللَّه تعالى القائمة من القرآن، قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، والخلاف في إطلاقه على اللَّه تعالى ينبني على الخلاف في أسماء اللَّه تعالى الدالة على الصفات، هل هي توقيفية؛ فلا يطلق عليه، إلا ما ورد الإذن فيه أم لا؟ وملخص ما =
و (الرحمن): فعلان، مِن (رحم) بالكسر، صفة مشبهة.
وقيل: علم ابن (1) العربي، [و] هو: الاسم الأعظم، ولا يجوز أن يقال لغيره.
و(الرحيم): فعيل مِن (رحم)، لكن في (الرحمن) مِن المبالغة ما ليس فيه، واشتقاقهما مِن الرحمة، وهي هنا مجاز عن الإنعام، لا الرأفة التي تحدث في القلب؛ لاستحالتها في حقه تعالى.
وقال بعضهم: الرحمن والرحيم واحد؛ لأنهما مِن الرحمة، وهي ترك عقوبة من يستحقها.
وقيل: إرادة الخير لأهله، وهي أصلها الرقة والتعطف مِن الرحم؛ لرقتها وانعطافها على ما فيها، لكن في الرحمن زيادة مبالغة، وهو عام معنى؛ لأنه الرازق لكافة الخلق في الدنيا، وخاص لفظًا؛ لأن غيره -تعالى- لم يسم رحمن، وما شذ مِن قولهم في مسيلمة الكذاب:
* وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا (2) *
فلا اعتداد به. وأجاب الزمخشري بأنه مِن باب تعنتهم في كفرهم.
= في المسألة: أن اللفظ إما أن يدل على صفة كمال أم لا، فإن لم يدل على صفة كمال لم يجز إطلاقه على اللَّه تعالى، إلا أن يرد به الشرع، فيقتصر على ذكره في المواضع التي ورد فيها، وإن دل على صفة كمال فإن ورد الشرع به جاز إطلاقه على اللَّه تعالى في الموضع الذي ورد فيه وفي غيره، وإن لم يرد به فمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وعامة أهل السنة أنه لا يجوز أن يسمى اللَّه تعالى إلا بما سمى به نفسه، أو أجمعت الأمة عليه، قال القمولي من الشافعية: كقديم، وواجب الوجود. وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والمعتزلة إلى أنه يجوز أن يسمى اللَّه بكل اسم صح معناه، ولم يمنع الشرع ولا الإجماع منه، وذهب الغزالي إلى أنه يجوز إطلاق ذلك على سبيل الوصف لا على سبيل التسمية، فالأسماء عنده توقيفية، والأوصاف لا نهاية لها".
(1)
كذا في سائر النسخ، وفي فتح الجليل وهو الشرح الكبير لشارحنا: وقيل: علم عربي.
(2)
هذا عجز بيت صدره:
* سموت بالمجد يابن الأكرمين أبًا *
قال السبكي (1): هذا لا يفيد جوابًا، بل ذكر السبب الحامل لهم.
وأجاب هو بأن المخصوص به -تعالى- هو المعرف باللام.
وقال ابن مالك (2) وغيره: معناه لا زلت ذا رحمة. . انتهى.
و(الرحيم): خاص معنى؛ لأنه يرحم المؤمنين خاصة يوم القيامة، وعام لفظًا؛ لأن غيره قد يُسمى رحيمًا، ومنه الحديث:"يا رحمن الدنيا والآخرة، ويا رحيم الآخرة"(3).
(1) هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي، أبو الحسن، تقي الدين، (683 - 756 هـ = 1284 - 1355 م): شيخ الإسلام في عصره، وأحد الحفاظ المفسرين المناظرين. وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات، ولد في سبك (من أعمال المنوفية بمصر) وانتقل إلى القاهرة ثم إلى الشام. وولي قضاء الشام سنة 739 هـ واعتل فعاد إلى القاهرة، فتوفي فيها، من كتبه "الدر النظيم" في التفسير، لم يكمله، و"الإغريض في الحقيقة والمجاز والكنية والتعريض"، و"التمهيد فيما يجب فيه التحديد - ط"، وغيرها. واستوفى ابنه تاج الدين أسماء كتبه، وأورد ما قاله العلماء في وصف أخلاقه وسعة علمه. ينظر: الأعلام (4/ 302).
(2)
هو: محمد بن عبد اللَّه بن مالك الطائي الجياني، أبو عبد اللَّه، جمال الدين، (600 - 672 هـ = 1203 - 1274 م): أحد الأئمة في علوم العربية، ولد في جيان بالأندلس، وانتقل إلى دمشق فتوفي فيها. أشهر كتبه (الألفية - ط) في النحو، وله (تسهيل الفوائد - ط) نحو، و (شرحه له - خ) المجلد الأول منه، في الرباط (213 أوقاف)، و (الضرب في معرفة لسان العرب)، و (الكافية الشافية - ط): أرجوزة في نحو ثلاثة آلاف بيت، و (شرحها - ط)، وغير ذلك. ينظر: الأعلام (6/ 233).
(3)
هذا كلام الزمخشري في الكشاف (1/ 6)، وما قاله الشارح لا يستقيم من وجهين:
الأول: أن ما ادعى أنه حديث ليس بحديث، ولذا قال الزمخشري: ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا.
والآخر: أن ما ذكره لا يسعفه النقل؛ فقد جاء في مسند أبي بكر الصديق ص 93، والبيهقي في الدعوات الكبير (1/ 135)، والطبراني في الكبير (20/ 154)، وفي مسند الشاميين (3/ 320)، وفي الدعاء ص 317، وغيرهم مرفوعًا:"رحمن الدنيا والآخرة".
وقد أجاب عن هذا الإشكال محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (1/ 5 - 6) بما ليس جوابًا، فقال: " (الرحمن الرحيم) هما وصفان للَّه تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن: أشد مبالغة من الرحيم؛ لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، وعلى هذا أكثر العلماء، وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه، كما قاله ابن كثير، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: الرحمن: رحمن الدنيا والآخرة، الرحيم: رحيم الآخرة.
وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا، حيث قال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} ، وقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} ، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، قاله ابن كثير، ومثله قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ، أي: ومن رحمانيته: لطفه بالطير، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء.
ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} ، وقال:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ، فخصهم باسمه الرحيم.
فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما قررتم وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما".
فالظاهر في الجواب واللَّه أعلم: أن الرحيم خاص بالمؤمنين، كما ذكرنا، لكنه لا يختص بهم في الآخرة، بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضًا، فيكون معنى "رحيمهما": رحمته بالمؤمنين فيهما.
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضًا: أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} ؛ لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا، وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضًا، وكذلك قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} ، فإنه جاء فيه بالباء المتعلقة بالرحيم الجارة للضمير الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، وتوبته عليهم رحمة في الدنيا، وإن كانت سبب رحمة الآخرة أيضًا، والعلم عند اللَّه تعالى".
وما أجاب به غير مسلم، وقال الآلوسي (1/ 62): "وأما سابعًا فلأن قولهم فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة؛ لأنه يخص المؤمن، إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر، فلا يستقيم عليه ورحيم الآخرة؛ إذ النعم الأخروية غير =
يقول فعل مضارع فاعله العبد، وأتى بالجملة الفعلية لدلالتها على
= متناهية، وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين، فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضًا، ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير، بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلًا.
فهذا الوجه مخدوش على الحالين، على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالًا؛ إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف. . وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة، وكون الكفار في الأول تبعًا غير مقصودين، كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه، فليس ذلك رحمة في حقهم.
والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ليس بشيء:
أما أولًا: فلأن القصد تبعًا وأصالة لا مدخل له.
وأما ثانيًا: فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذاك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من اللَّه تعالى لكافر في الدنيا، كما قد قيل به لقوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} ، وقوله تعالى:{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا} ، فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا؛ إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة، وما يكون له في الآخرة، فوراء كل عذاب شديد.
وأما ثالثًا: فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه، لا يضر، وكل أهل النار يتمنى التخفيف:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} ، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وأما ثامنًا: فلأن قولهم: وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة إلخ، فيه بعض شيء، وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول؛ لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة، نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوًا، ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية؛ إذ المراد يا موليًا لجسام النعم في الدارين، ولما دونها في الدنيا.
وأيضًا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها، مشيرًا إلى عموم الأول وخصوص الثاني، ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمريد شكره، إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف، والمعروف المرفوع:"رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما"، وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء، كما لا يخفى".