الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَمْراً مِنَ الْحَزْمِ (1) فَاسْتَعِنْ
…
عَلَيْكَ بِجُهَّالٍ فَذاكَ مِنَ الْعَزْمِ (2)
وقد تقدم نظير ذلك في الحمقى والمجانين.
*
تَتِمَّةٌ:
روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حكيماً، سكيتاً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون لا صخاباً، ولا صيَّاحاً، ولا حديداً (3).
وروى الدينوري أن محمد بن فضالة أنشده: [من الطويل]
يُرى مُسْتكيناً وَهْوَ لِلَّهْوِ ماقِتاً
…
بِهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ما هُوَ شاغِلُهْ
يَبِيتُ إِذا نامَ الْخَلِيُّونَ ساهِراً
…
كَثِيراً تَشَكِّيهِ كَثِيراً بِلابِلُه
تأوَّه ذي بَثٍّ أُصِيبَ حَمِيمُهُ
…
بِهِ وَلَعٌ تَحْتَ الشَّراسِيفِ قاتِلُه
تَذَكَّرَ ما يَبْقَى مِنَ العَيْشِ آجِلاً
…
فَأَزْعَجَهُ مِنْ عاجِلِ العَيْشِ آجِلُه
(1) في مصدر التخريج: "بداً من الجهل" بدل "أمراً من الحزم".
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 315).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35584).
وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ نَفى الْجَهْلَ كُلَّهُ
…
وَما عالِمٌ أَمْراً كَمَنْ هُوَ جاهِلُه (1)
وروى الطبراني في "الأوسط" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ أَخِي مُوسَى عليه السلام: يا رَبِّ! أَرِني الَّذِي كُنْتَ أَرَيْتَنِي فِي السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ: يا مُوسَى! إِنَّكَ سَتَراهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَاّ يَسِيراً حَتَّى رَأَى الْخَضِرَ عليه السلام فِي طَيّبِ رِيحٍ، وَحُسْنِ ثِيابِ البَياضِ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُوسَى بْنَ عِمْرانَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، فَقالَ مُوسى عليه السلام: وَهُوَ السَّلامُ، وَمِنْهُ السَّلامُ، وَإِلَيْهِ السَّلامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ الَّذِي لا أُحْصِي نِعَمَهُ، وَلا أَقْدِرُ عَلى شُكْرِهِ إِلَاّ بِمَعُونَتِهِ.
ثُمَّ قالَ مُوسَى عليه السلام: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُوْصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِها بَعْدَكَ.
قالَ الْخَضِرُ عليه السلام: يا طالِبَ العِلْمِ! إِنَّ القائِلَ أقلُّ مَلالةً مِنَ الْمُسْتَمعِ؛ فَلا تُمِلَّ جُلَساءَكَ إِذا حَدَّثْتَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعاءٌ؛ فَانْظُرْ ماذا تَحْشُو بِهِ وِعاءَكَ، وَاعْزُفْ عَنِ الدُّنْيا، وَانْبِذْها وَراءَكَ؛ فَإِنَّها لَيْسَتْ لَكَ بِدارٍ، وَلا لَكَ فِيها مَحَلُّ قَرارٍ، وَإِنَّها جُعِلَتْ بلِغةً لِلعِبادِ لِيَتَزَوَّدُوا مِنْها لِلْمَعادِ.
وَيا مُوسَى! وطِّنْ نَفْسَكَ عَلى الصَّبْرِ تَلْقَى الْحُكْمَ، وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ بِالتَّقْوى تَنَلِ العِلْمَ، وَرَضِّ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ تَخْلُصْ مِنَ الإِثْمِ.
(1) انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 443).
يا مُوسَى! تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ؛ فَإنَّ العِلْمَ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ، وَلا تَكُونَنَّ مِكْثاراً بِالْمَنْطِقِ مِهْذاراً؛ إِنَّ كَثْرَةَ الْمَنْطِقِ تَشِينُ الْعُلَماءَ، وَتُبْدِي مَساوِئَ السُّخَفاءِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِذي اقْتِصادٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّوفِيقِ وَالسَّدادِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجِدالِ وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلُ الْحُكَماءِ وَزينُ العُلَماءِ.
إِذا شَتَمَكَ الْجاهِلُ فَاسْكُتْ سِلْماً، وَجانِبْهُ حَزْماً؛ فَإِنَّ ما بَقِيَ مِنْ جَهْلِكَ عَلَيْكَ، وَشَتْمَهُ إِيَّاكَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ.
يا ابْنَ عِمْرانَ! لا تَفْتَحْ باباً لا تَدْرِي ما غَلَقُهُ، وَلا تُغْلِقْ باباً لا تَدْرِي ما فَتْحُهُ.
يا ابْنَ عِمْرانَ! إِنَّ مَنْ لا تَنْتَهِي مِنَ الدُّنْيا نَهْمَتُهُ، وَلا تَنْقَضِ فِيها رَغْبَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ عابِداً؟
مَنْ يَحْقِرُ حالَهُ وَيَتِّهِمُ اللهَ فِيما قَضى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زاهِداً؟
هَلْ يَكُفُّ عَنِ الشَّهَواتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَواهُ؟ وَيَنْفَعُهُ طَلَبُ العِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَّلَهُ لأَنَّ سَفَرَهُ إِلَى آخِرَتهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلى دُنْياهُ.
يا مُوسَى! تَعَلَّمْ ما تَعَلَّمُ لِتَعْمَلَ بِهِ، وَلا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَورُه، [ويكون لغيركَ نُورُهُ].
يا ابْنَ عِمْرانَ! اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوى لِباسَكَ، وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلامَكَ، وَأَكْثِرْ مِنَ الْحَسَناتِ فَإِنَّكَ مُصِيبٌ السَّيِّئاتِ، وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ
قَلْبَكَ، وَاعْمَلْ خَيْراً فَإِنَّكَ لا بُدَّ عامِلٌ سِواهُ.
قَدْ وَعَظْتُ إِنْ حَفِظْتَ.
فَتَوَلَّى الْخَضِرُ، وَبَقِيَ مُوسى حَزِيناً مَكْرُوباً؛ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلام" (1).
وقول الخضر عليه السلام: وأعرض عن الجهال
…
إلى آخره، فهو موافق لقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
ولا شك أن الإعراض أفضل من مقابلة الجهل بالانتقام.
وفي هذا المعنى ما رواه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس" عن النضر بن شُميل: أن المأمون قال له: أنشِدْني أحسن ما قالته العرب في الحلم، فأنشده:[من الطويل]
إِذا كانَ دُونِي مَنْ بُلِيتُ بِجَهْلِهِ
…
أَبَيْتُ لِنَفْسِي أَنْ أُقابَلَ بِالْجَهْل
وَإِنْ كانَ مِثْلِي فِي مَحَلٍّ مِنَ العُلا
…
هَوَيْتُ إِذاً حِلْماً وَصَفْحاً عَنِ الْمِثْلِ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6908)، وكذا ابن عدي في "الكامل" (3/ 215) وقال: رواه زكريا بن يحيى الوقار، يضع الحديث.
وَإِنْ كُنْتُ أَدْنَى مِنْهُ فِي الفَضْلِ وَالْحِجَى
…
رَأَيْتُ لَهُ حَقَّ التَّقَدُّمِ وَالفَضْلِ (1)
(1) انظر: "الجليس الصالح والأنيس الناصح" للمعافى بن زكريا (ص: 246).