الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدين يدعوهم إلى الله تعالى، وكان مجاب الدعوة، وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد إذا نزلت من السماء يدعو ويؤمِّن موسى، فأقطعه؛ يعني: ملك مدين، وأعطاه، فترك دين موسى، وتبع دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175](1).
قال القرطبي: وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به.
وقيل: هو في كل منافق.
قال: والأول أرجح (2).
وقال الإمام الوالد في "تفسيره": [من الرجز]
وَذَلِكَ الْمِثالُ شامِلٌ لِمَنْ
…
أُوْتيَ عِلْماً وَبِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ
*
تنبِيهٌ:
لا يختص العالم المتكالب على الدنيا بالتشبيه بالكلب، بل كل متكالب على الدنيا فهو كالكلب، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه:"لا تَطْرَحنَّ الدُّرَّ في أَفْوَاهِ الكِلابِ".
قال محمد بن بكار - أحد رواته -: أظنه يعني العلم. أخرجه أبو حفص بن شاهين (3).
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 321).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(7/ 323).
(3)
تقدم تخريجه.
قلت: وكأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يستودع العلم أهل الدنيا المتكالبين عليها؛ فإن ذلك إضاعة للعلم، ومن هنا كان بعض العلماء إذا جاءه طالب لا يعلمه حتى يستكشف عن نيته؛ هل يريد بالعلم وجه الله تعالى، أو طلب المناصب والولايات، فإن شم منه رائحة الإخلاص علمه، وإلا تركه.
ولطف أبو الحسين الجزار الأديب المشهور في إطلاق الكلاب على أهل الدنيا بقوله: [من الخفيف]
لا تَعِبْنِي بِصَنْعَةِ القصَّابِ
…
فَهْيَ أَزْكى مِنْ عَنْبَرِ الآدابِ
كانَ فَضْلِي عَلى الكِلابِ فَمُذْ صِرْ
…
تُ أَدِيباً رَجَوْتُ فَضْلَ الكِلابِ
ومن المشهور الجاري على الألسنة: الدنيا جيفة، وطلابها كلابٌ (1).
ولا يعرف هذا في أصول الحديث أصلاً، وإنما روى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُنَادِي مُنَادٍ: دَعُوا الدُّنْيَا لأَهْلِهَا، مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الدُّنيَا أكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيْهِ أَخَذَ جِيْفَةً وَهُوَ لا يَشْعُرُ"(2).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 238) عن علي رضي الله عنه، ويروى مرفوعاً ولا يصح.
(2)
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 254): رواه البزار، وقال: =
وروى أبو نعيم، والديلمي عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَيَجِيْئَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَقْوَامٌ وَأَعْمَالُهُمْ كَجِبَالِ تِهَامَةَ، فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلى النَّار".
قالوا: يا رسول الله! مصلين؟
قال: "نعَمْ، كَانُوا يُصَلُّوْنَ، وَيَصُوْمُوْنَ، وَيَأْخُذُوْنَ وهناً مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ وَثَبُوا عَلَيْهِ"(1).
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" بنحوه من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه.
وصفهم بالوثوب، وهو من صفات السباع والكلاب.
وقال أبو الحسن بن جهضم الهمذاني في "بهجة الأسرار": حدثنا أبو الفتح أحمد بن الحسن، ثنا على بن جعفر عن أبي موسى، عن أبي يزيد؛ يعني: البسطامي رحمه الله تعالى قال: خلق الله تعالى إبليس كلباً من كلابه، وخلق الدنيا جيفة لإبليس، ثم قعد إبليس على آخر طريق الدنيا وأول طريق الآخرة، وأعمال الخلق كلها مارة به،
= لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وفيه هانئ بن المتوكل، وهو ضعيف.
(1)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 178) عن سالم مولى أبي حذيفة، والديلمي في "مسند الفردوس"(8875) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وضعف العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 876) إسناديهما.
وقيل: انظر؛ كما وجدت في عمل عبد من عبادي شيئاً من جيفتك فقد سلطتك عليه.
وروى أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقاته"، وأبو نعيم عن أحمد بن أبي الحواري قال: الدنيا مزبلة، ومجمع للكلاب، وأقل من الكلاب من يعكف عليها، وإن الكلب يأخذ منها حاجته وينصرف، والمحب لها لا يزايلها بحال (1).
ورأيت بخط بعض العلماء القدماء أبياتاً منسوبة للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ألَمَّ فيها بهذا المعنى، فقال:[من الطويل]
أَأَنْعُمُ عَيْشًا بَعْدَما حَلَّ عارِضِي
…
طَلائِعُ شَيْبِ لَيْسَ يُغْنِي خِضابُها
وَلَذَّةُ عَيْشِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ
…
فَقَدْ فَنِيَتْ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبابُها
إِذا اسْوَدَّ لَوْنُ الْمَرْء وَابْيَضَّ شَعْرُهُ
…
تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطابُها
خَبَتْ نارُ نَفْسِيَ بِاشْتِعالِ مَفارِقِي
…
وَأَظْلَمَ لَيْلِي إِذْ أَضَاءَ شِهابُها
(1) رواه السلمي في "طبقات الصوفية"(ص: 94).
فَيا نَوْمَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوقَ هامَتِي
…
عَلى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طارَ غُرابُها
رَأَيْتِ خَرابَ العُمْرِ مِنِّي فَزُرْتِنِي
…
وَمَأْواكِ مِنْ كُلِّ الدِّيارِ خَرابُها
فَلا تَمْشِيَنْ فِي مُنْكَرِ الأَرْضِ فاخِراً
…
فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرابُها
وَأَحْسِنْ إِلَى الأَحْرارِ تَمْلِكْ رِقابَهُمْ
…
فَخَيْرُ تِجاراتِ الكِرامِ اكْتِسابُها
فَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيا فَإِنِّي طَعِمْتُها
…
وَسِيقَ إِلَيَّ عَذْبُها وَعَذابُها
فَلَمْ أَرَها إِلَاّ غُرُوراً وَباطِلاً
…
كَما لاحَ فِي ظَهْرِ الفَلاةِ سَرابُها
وَما هِيَ إِلَاّ جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ
…
عَلَيْها كِلابٌ دَأْبُهُنَّ اجْتِذابُها
فَإِنْ تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِلْماً لأَهْلِها
…
وَإِنْ تَجْتَذِبْها نازَعَتْكَ كِلابُها
فَطُوبَى لِنَفْسٍ وَطِئَتْ قَعْرَ دارِها
…
مُغَلَّقَةَ الأَبْوابِ مُرْخًى حِجابُها
فَيارَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مِيْتَتِي
…
أفوزُ بِها مِنْ قَبْلِ يُغْلَقُ بابُها
وإذا أفادت البصائر أن الشره في الدنيا في مقام كلب شره في جيفة، وأهل العلم هم أهل البصائر، وإذا شره العالم خصوصاً البالغ في العلم فيها، فقد حير من دونه إذا رغب عنها، ويرى من فوقه رغب فيها، وأضل من ليس من أهل العلم إذا أراد الاقتداء لأنه إذا رأى من معه طرف من العلم يزهد فيها ويرغب عنها، ورأى الأعلم والأبصر يرغب فيها اقتضى رأيه أن يقتدي بالأعلم، ومن ثم تعلم أنه ليس في الدنيا أفتن لعقول الناس من العلماء المفتونين.
وقد روى الدينوري في المجالسة عن أبي عبد الله القلانسي قال: سمعت إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يتمثل بأبيات من الشعر: [من المتقارب]
رَأَيْتُ الذُّنوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ
…
وَشبِعُها الذُّلَّ إِدْمانُها
وَتَرْكُ الذُّنوبِ حَياةُ القُلُوبِ
…
وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيانُها
وَهَلْ أَهْلَكَ الدِّينَ إِلَاّ الْمُلُوكُ
…
وَأَحْبارُ سَوْءٍ وَرُهْبانُها