الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وينبغي للشاب أن يكون حريصاً على طلب العلم ولو ما يحتاج إليه فقط، وخصوصاً إذا قصَّر وليه في تعليمه في صغره، فإن طلب العلم يحتاج سلامة الطبيعة، وجَودة القريحة، وأكمل ما يكون ذلك في سن الشباب؛ فإن الشاب أخلى بالاً، وأصفى فكراً، وأفرغ قلباً.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أوتي عالم علماً إلا وهو شاب (1).
وليحذر كل الحذر طالب العلم في شبابه مما يطمس بصيرته، ويجمد قريحته، ويبدِّد فكره من الإكثار من الترفهات، وإيثار الدعات.
وإياه، ثم إياه من استعمال ما يغمر عقله، ويفرق فكره من المسكرات والمصطلات؛ فإنها مصائب ابتلي بها أهل هذه الأعصار في سائر الأمصار، وهي تعجل للشاب الهرَم قبل الهرم، وتلحقه في
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6421).
صحته بأهل السقم بل بالعدم، وتمنعه من طلب العلم وفهمه، ولا اعتبار لما يزينه الشيطان اللعين لبعضهم من أن استعمال الكيف يشحذ الخواطر، وأن هذا محال وغلط وضلال.
وهذه الأمور التي حذَّرنا منها هنا وفيما سبق هي التي شغلت كل الناس إلا أقل قليل في هذه الأزمنة عن طلب العلم، واستمالتهم إلى معاشرة أهل الجهل، ونشأ شبابهم على ما عليه كهولهم وشيوخهم، فكانوا جميعًا من الهالكين إلا غرباء منهم قليلين.
وقد روى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري في كتاب "اعتقاد الشافعي" عن أبي عبد الله الفقيه المراغي: أنه أنشد للشافعي رضي الله تعالى عنه: [من البسيط]
إِذا رَأَيْتَ شَبابَ الحَيِّ قَدْ نشَؤُوا
…
لا يَنْقُلُونَ قِلالَ الحبْرِ وَالوَرقا
وَلا تَراهُمْ لَدى الأَشْياخِ فِي حِلَقٍ
…
يَعونَ مِنْ صالِحِ الأَخْبارِ ما اتَّسَقا
فَدَعْهُمُ عَنْكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ هَمَجٌ
…
قَدْ بُدِّلوا بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ الْحَمَقا (1)
وليعلم أنه متى أخر العلم والتعلم إلى وقت الكبر، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم من يتعلم في كبره كمن يكتب على الماء (2)، ومحال أن يرتسم له على الماء خط، وكذلك بعد على الكبير أن يتعلم العلم.
(1) ورواه ابن القيسراني في "المؤتلف والمختلف"(ص: 90)، وأبو سعد السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 153).
(2)
تقدم تخريجه.
وروى الدينوري عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنه قال في قصصه: ما أشد فطام الكبير.
وأنشد: [من الكامل]
أَتُروْضُ غَرْسَكَ بَعْدَما كَبِرَتْ
…
وَمِنَ العَناءِ رِياضَةُ الْهَرِمِ (1)
وروى الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" عن أبي إسحاق قال: كان يختلف شيخ معنا إلى مسروق رحمه الله تعالى، وكان يسأله عن الشيء فيخبره، فلا يفهم، فيقول له: أتدري ما مثلك؟ مثل بغل هَرِمٍ حَطِمٍ جَرِبٍ دفع إلى رائض.
فقيل له: عليه الهملجة (2).
ومتى حصل الشاب رأس مال من العلم فلا يكتفي به ويمل من طلبه، ألا ترى أن الله تعالى يقول:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]؟
ولا يبادر إذا ما وجد من نفسه قوة التعليم فيتصدر حتى يمرَّن على العلم، وتشهد له الأكابر.
فقد سبق عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن الحَدَث إذا تصدر فاته علمٌ كثير (3).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 206).
(2)
رواه الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"(ص: 307).
(3)
تقدم تخريجه.
وقال بعض الحكماء: من طلب الرياسة قبل وقتها حُرِمها إذا جاء وقتُها.
ومن أمثالهم: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وقال المروزي: كان المزي رحمه الله تعالى يقول: [قال الشافعي رحمه الله تعالى]: آفة المتعلم الملل، وقلة صبره على الدرس.
وكان [أبو حامد] يقول: سبيل الحدث أن يدرس، وسبيل الشاب أن يتفهم، وسبيل الكهل أن يناظر، وسبيل الشيخ أن يعلم (1).
وليستعن على طلب العلم بالتقوى والعمل بما يتعلمه أولًا فأولاً.
قال الحسن كما تقدم: من أحسن عبادة الله في شبيبته لقَّاه الله الحكمةَ عند كبر سنه، وذلك قوله تعالى:{وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14](2).
وروى ابن جهضم عن السري السَّقطي رحمه الله تعالى قال: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإن العمل في الشبيبة، ما يفوتني ورد فأقدر على إعادته (3).
وقلت: [من الرجز]
(1) رواه أبو حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر"(2/ 47).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ورواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 199).