الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد! فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، فأقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمر أن أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله؛ فإن الدنيا تنفد، والآخرة تبقى، وأخف الفساق، [واجعلهم] يداً يداً، ورجلاً رجلاً، عُدْ مريض المسلمين، واحضُر جنائزهم، وافتح بابك، وباشر أمورهم بنفسك، وإنما أنت رجل منهم، غير أن الله تعالى جعلك أثقلهم حملاً، وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هِنَة في لباسك، ومطعمك، ومركبك، وليس للمسلمين مثلها؛ فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب فلم يكن لها هم إلا السمن؛ فإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شَقِيت به رعيته.
وأنشدوا: [من الوافر]
وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِينِ
…
كَثِيرِ اللَّحْمِ مَهْزُولِ الْمَعالِي
كَمِثْلِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ
…
وَباطِنُهُ مِنَ الْخَيْراتِ خالِي
*
تَنْبِيهاتٌ:
الأَوَّلُ:
الشحم إنما يربو من النعمة وفراغ البال، وخلوه من الهم والغم، والحزن والخوف، وليس من شأن العالم إلا خشونة العيش؛ إما في شأن معاده، وإما في شأن معاشه، والغم بسبب ما وقع منه من التفريط والحزن على ما فات من عمره مضيعاً في غير طاعة، والخوف من الله تعالى، ومن عذابه وعقابه، والاهتمام بما بين يديه، فإن كان
على خلف ذلك لم يكن منتفعاً بعلمه.
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع (1).
ومن ثم كان العالم السمين ممقوتاً.
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إني لأكره أن يكون القارئ سميناً.
وفي رواية: سميناً نِسِيًّا للقرآن (2).
وفي رواية ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف، فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أَنْشدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام! هَلْ تَجِدُ فيْ التَّوْرَاةِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الحبرَ السَّمِينَ؟ " - وكان حبراً سميناً - فغضب، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91](3).
قلت: وإنما كان الحبر السمين بغيضاً عند الله تعالى لأن سمنه دليل قلة خوفه من الله تعالى، وقلة همه بأمر آخرته، وقلة الخوف تناقض حال
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34573)، وكذا أبو عبيد في "فضائل القرآن"(1/ 313).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(7/ 267)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1342).
العالِم؛ إذ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وروى أبو نعيم عن محمد بن سوقة رحمه الله تعالى قال: إن المؤمن الذي يخاف الله تعالى لا يسمن، ولا يزداد لونه إلا تغيراً (1).
وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: قرأت في الحكمة: إن الله عز وجل يبغض كلَّ حَبْر سمين (2).
وروى الإمامان مالك، وأحمد، وأبو يعلى، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "الشعب" عن جعدة بن خالد الجشمي رضي الله تعالى عنه [قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم]، رأى رجلاً سميناً، فطعن في بطنه، وقال: لو كان بعض هذا في غير هذا لكان خيراً لك، ولو كان بعض ما في بطنك في غير السمن والتنعم كان يكون في سبيل الله؛ كإطعام الجائعين كان خيراً لك (3).
قلت: وما ذكر من أن الخائف من الله تعالى لا يسمن؛ هذا جري على الغالب، وقد يكون المؤمن عارفاً متسع المعرفة بحيث رسخ قدمه في الطاعة، وصار في حال الأنس والطمأنينة بالله تعالى؛ إذ لم يفرط فيحزن ويغتم، وصارت الطاعة في حقه خلقاً وطبعاً، فلا يتكلف
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 3).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 362).
(3)
رواه الطيالسي في "مسنده"(1235)، والإمام أحمد في "المسند"(3/ 471)، والطبراني في "المعجم الكبير"(2185)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(5666).
لها ولا يهتم.
وأما أمر معاشه فثقته بالله تعالى أسقطت عنه هم المعاش، وخوَّفه من الله تعالى معدل لرجائه لفضله وإحسانه، فلا يظهر الهُزال في بدنه، بل يبدن ويسمن، وعلى ذلك يحمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بَدَن في آخر عمره مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا في كفاف من العيش والقوت، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد، فما حصل له من البدونة إنما هو بسبب امتلاء قلبه من الفرح بربه، والسرور بقربه.
ومن لطائف الاعتذار عن السمن ما ذكره ابن خميس في "مناقب الأبرار"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" عن أبي بكر الشبلي رحمه الله تعالى أنه قيل له: نراك جسيماً بديناً والمحبة تضني؟
فأشار يقول: [من المنسرح]
أَحَبَّ قَلْبِي وَما درى بَدَنِي
…
وَلَوْ دَرى ما أَقامَ فِي السِّمَنِ (1)
وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري في "لطائف المنن" عن شيخه الشيخ أبي العباس المرسي رحمه الله تعالى: أنه كان ببلاد المغرب ولي من أولياء الله تعالى يتكلم على الناس، وكان بادناً، فجلس يوماً يتكلم على الناس، فقال رجل مكشوف الرأس كبيرها: هذا يزهد في الدنيا وهو كالدب؟ فكوشف الشيخ، فقال من فوق
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 371)، وكذا السلمي في "طبقات الصوفية" (ص: 260).