الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - ومن التشبه المذموم من الأغنياء بالفقراء:
أن ينفق الموسر على عياله نفقة المعسر أو المتوسط؛ فإن ما يوفره من ذلك لنفسه ظلم فيه غيره من المستحقين، وخالف فيه سنن الشريعة؛ فإن الله تعالى يقول:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].
ومن هذا القبيل إمساك الغني عما يطلب منه شرعاً إما على وجه الإيجاب عليه، أو الندب إليه مما لا يطلب من الفقير كمنع الزكاة، والقعود عن الحج مع الاستطاعة، وعن الجهاد مع تعيُّنه، وسائر ما يجب على الغني، وكالامتناع من الضيافة، والأفضال، وسائر النفقات المطلوبة، والصدقات المندوبة.
ولقد ذم الله تعالى أغنياء المنافقين وأقوياءهم [المتشبهين] بالفقراء والضعفاء من المؤمنين وغيرهم، وأشار إلى أنهم في ذلك يتخلقون بأخلاق النساء، فقال تعالى:{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} ؛ أي: أهل الغنى.
{وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} عن النساء المتخلفات بن الحرب والنفقة في الجهاد.
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 86 - 87]؛ أي:
= الكبير" (18/ 162)، والبزار في "المسند" (3572). قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 323): إسناد أحمد جيد.
لا يفهمون ما في الجهاد والنفقة في سبيل الله، والشجاعة من السعادة، وما في القعود رغبة من العار في الدنيا، والنار في الآخرة.
وإنما طبع على قلوبهم بسبب حبهم الدنيا، ولذلك قال عيسى بن مريم، ونبينا عليهم الصلاة والسلام:"حُبُّ الدُّنْيا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ"(1).
ثم بين الله تعالى ذوي الأعذار المقبولة فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]؛ أي: بإرادة الخير له ولمن معه، والدعاء لهم لأن ذلك ما في قدرتهم ووسعهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وهم سبعة من الأنصار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم بالزاد والماء فقط، أو أن يحملهم على البغال لا على الدواب، فأَسِفوا لذلك.
أو من الأشعريين سألوه ظهراً يعتقبون عليه، فبيَّن الله تعالى أن ذوي الأعذار - وإن حبسهم العذر عن الجهاد والخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم محسنون بقلوبهم وألسنتهم، وبطاعة الله تعالى في حال تخلُّفهم (2).
(1) تقدم تخريجه عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعن عيسى رضي الله عنه.
(2)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 486).
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من تبوك أشرف على المدينة، فقال:"لَقَدْ تَرَكْتُمْ فِي الْمَدِينَةِ رِجالاً ما سِرْتُمْ مِنْ سَيْرٍ، وَلا أنفَقْتُمْ مِنْ نفَقَةٍ، وَما قَطَعْتُمْ مِنْ وادٍ إِلَاّ كانوا مَعَكُمْ فِيهِ".
قالوا: يا رسول الله! كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟
قال: "حَبَسَهُمُ العُذْرُ"(1).
أي: كانوا معكم بالقلوب، فأثيبوا ثواب من كان معكم حقيقة بالأجساد والقلوب.
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجالاً ما قَطَعْتُمْ وادِياً، وَلا سَلَكْتُمْ طَرِيقاً إِلَاّ شَرَكُوكُمْ فِي الأَجرِ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ"(2).
وأين هؤلاء من المُخَفَلَّين من أهل الثروة والقوة والصحة، فإنهم مؤاخذون بتخلفهم؛ إذ لا عذر لهم وإن اعتذروا بما ليس عذرًا، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 160)، والبخاري (4161).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 341)، ومسلم (1911).