الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد آن أن نذكر جملة من الخصال التي يكون الإنسان بها متشبهاً بالبهائم، أو السباع، أو الحشرات، أو الهوام زجراً عنها، وتنفيراً منها.
1 - فمنها: الجهل من حيث هو
.
وليس للإنسان تميز عن البهائم إلا بالعلم والعقل كما علمت، فإذا آثر الجهل على العلم كان أسوء حالاً من البهائم.
وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: أنه قال: يا رسول الله! أتيتك من عند قوم هم وأنعامهم سواء.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا سَعْدُ! أفلا أُخْبِرُكَ بِأعْجَبَ مِنْ ذلكَ؟
قَؤم عَلِمُوا ما جَهِلَ هَؤُلاءِ، ثُمَّ جَهِلُوا كَجَهْلِهِمْ" (1).
وروى أبو نعيم عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: أنه ليالي قدم من اليمن مسألة النبي صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ تَرَكْتَ النَّاسَ بَعْدَكَ؟ "
فَقالَ: تركتهم لا هَمَّ لهم إلا هم البهائم.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم. "كَيْفَ أَنْتَ إِذا كُنْتَ في قَوْمٍ عَلِمُوا ما جَهِلَ هَؤُلاءِ، وَهَمُّهُمْ مِثْلُ هَمِّ هَؤُلاءِ؟ "(2).
لكن ضعَّف أبو نعيم هذا الحديث؛ فإن معاذاً إنما قدم من اليمن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 242).
قلت: ولعل هذا السؤال لمعاذ إنما وقع من أبي بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره، فالتبس على بعض الرواة.
ومن أمثال الناس في الجهل: كأنه ديك حجل.
وهو مأخوذ من قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: إنما يهلكون إذا لم يعرف لذي الشيب شيبه، وإذا صريح تمشون الركبات كأنكم يعاقيب حجل؛ لا تعرفون معروفا، ولا تنكرون منكراً (1).
والركبات: جمع رغبة: المرة من الركوب.
ومعنى تمشون الركبات: تمشون راكبين رؤوسكم في الباطل من غير تثبت؛ كما قاله في "النهاية"(2).
واليعاقيب: جمع يعقوب، وهو ذكر الحجل.
والأثر أورده الزمخشري في "الفائق".
ومما حيَّر العقولَ سعةُ الدنيا لأكثر الجهال، وضيقُها على أكثر العلماء، أو على أفاضلهم، أو على كثير منهم، ولا حيرة عند من كوشف بالحكمة في ذلك.
والحكمة فيه أن أهل العلم والكمالات لو خُصُّوا بسعة الرزق في الدنيا وطيب العيش فيها، لحسب الناس أن الرازق لهم العلم والكمال.
(1) انظر: "الفائق" للزمخشري (2/ 81)، ورواه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص: 121).
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 257).
وأيضاً: فإن الدنيا لو كانت لها عند الله قيمة لخص بها أولياءه من أهل العلم والفضل.
وفي الحديث: "لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تُساوِي عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوْضَةٍ ما سَقى كافِراً مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ"(1).
وأيضاً: لو أن الله تعالى جعل الرزق وسعته وطيب عيشه على الفضل والكمال والعلم، لم يكن للبهائم فيها نصيب كما قالت الحكماء: لو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم (2).
فنظمه أبو تمام، فقال:[من الطويل]
يَنالُ الفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهْوَ جاهِلٌ
…
ويُكدي الفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهْوَ عالِمُ
وَلَوْ كانَتِ الأَرْزاقُ تَجْريِ عَلى الْحِجى
…
هَلَكْنَ إِذاً مِنْ جَهْلِهِنَّ البَهائِمُ
فاقتضت الحكمة الإلهية والكرم الربوبي شمول رزقه لخلقه، وتوسعة الرزق تارة إحساناً إلى المحسن وبَرًّا به، وإملاءً للمسيء ومكراً به، وتضييقه تارة تمحيصاً للمؤمن وحماية له من بطر المعيشة، وطغيان النفس، وعقوبةً للفاجر، وتأديباً للمخلط ليرجع إلى الإخلاص، ويعود
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 42).