الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّانِي فِي تَشَبُّهِ العَالِمِ بِالجَاهِلِ في نَفْسِ الجَهْلِ
وهو على وجهين:
الوجه الأول: أن يقعد عن طلب الزيادة في العلم
، أو ينبغي للمؤمن أن لا يرضى إلا بخير المنزلتين.
وقد قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم؛ فإنه إذا ظن أنه علم فقد جهل. رواه الدينوري في "المجالسة"(1).
لكن طلب الزيادة في العلم إنما يحسُن بعد العمل بما علم والخروج من عهدته، ولذلك ورد في الدعاء:"اللَّهُمَّ انْفَعْنا بِما عَلَّمْتَنا، وَزِدْنا عِلْماً"(2).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 56).
(2)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني في "طبقات المحدثين بأصبهان"(2/ 317) عن أنس رضي الله عنه.
وليس من مقتضى العلم أن يترك العمل به ليزداد من العلم؛ فإن العلم إنما يراد للعمل به.
وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول: العلم آلة العمل، فإذا أفنيت عمرك في جمع الآلة فمتى تعمل (1)؟
وفي معناه ما قاله بعض العلماء المتقدمين لطلبة الحديث: [من المتقارب]
إِذا كُنْتُمْ تَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ
…
نَهاراً وَفِي لَيْلِكُمْ تَرْقُدُونَ
وَقَدْ بانَ مِنْكُمْ زَمانُ الشَّبابِ
…
فَبِاللهِ قُولُوا مَتَى تَعْمَلُونَ
وقال عبد الله بن جعفر المكنى بأبي بكر من أصحاب الإمام أحمد: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله تعالى وسئل عن الرجل يكتب الحديث فيكثر، قال: ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب، ثم قال: سبيل العلم مثل المال؛ إن المال إذا ازداد زادت زكاته.
قلت: وكما أن المال ينمو بالزكاة ويتضاعف بالنص، فكذلك العلم، والعلم نعمة كالمال، وشكرها المستزيد لها العمل به.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ". رواه أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه (2).
فكيف يوفق للزيادة من نعمة من لم يوفق لشكرها؟
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 341).
(2)
تقدم تخريجه.
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه قال: خرج رجل في طلب العلم فاستقبله حجر، فإذا فيه منقور: أنت بما تعلم لا تعمل، كيف تطلب علم ما لم تعلم (1)؟
فإذا قام العالم بحق ما علمه من العلم بالعمل به والرعاية له دون الاقتصاد على روايته فقط، أو على روايته والمجالسة به، فليطلب الازدياد من العلم، وليس من المعقول أن يطلب الإنسان ما لا يحتاج إليه من العلم، ويدع ما يحتاج إليه منه، أو من العمل به كحال أهل العصر الذين أقبلوا على المنطق، والعربية، والبلاغة، وغرائب العلوم، والمسائل، والتبحر فيها، وأعرضوا عن علوم الشريعة المؤدية إلى تزكية النفس ونجاتها في الدار الآخرة.
على أننا لم نذم ولا نذم تلك العلوم، بل نرشد إلى قدر الحاجة منها، وإنما نذم الإيغال فيها، والاشتغال بتكرير مسائلها في الخَلْوة والجَلْوة عن الاشتغال بالأحكام الشرعية خصوصاً ما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وأخص منه ما يتعلق بتهذيب النفوس، وإصلاح القلوب، ولا شك أن ذلك من الجهل بما يكون أعود عليهم نفعاً في الدار الآخرة.
ومن كلام بعض السلف: إن من أوتي من العلم ما لا يحزنه لحريٌّ أو لا يكون أوتي علماً ينفعه (2).
(1) رواه الخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل"(ص: 59).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 41) عن عبد الأعلى التيمي، ولفظه:"من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع"، وقد تقدم.
وقد روى [ابن السني] وأبو نعيم كلاهما في "رياضة المتعلمين"، عبد البر عن عبد الله بن المِسور -مرسلاً -: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علِّمني من غرائب العلم.
قال: "ما صَنَعْتَ فِي رَأْسِ العِلْمِ؟ "
قال: وما رأس العلم؟
قال: "هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ "
قال: نعم.
قال: "وَما صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ "
قال: ما شاء الله.
قال: "هَلْ عَرَفْتَ الْمَوْتَ؟ "
قال: نعم.
قال: "ما أَعْدَدْتَ لَهُ؟ "
قال: ما شاء الله.
قال: "اذْهَبْ فَأحْكِمْ ما هُنالِكَ، ثُمَّ تَعالَ نُعَلِّمْكَ غَرائِبَ الْعِلْمِ"(1).
وروى ابن عبد البر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل والناس مجتمعون عليه، فقال:"ما هَذا؟ "
قالوا: رجل علَاّمة.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 24)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 5). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (1/ 41): ضعيف جداً.
فقال: "ماذا؟
قالوا: بالشعر وأنساب العرب.
فقال: "عِلْمٌ لا يَنْفَعُ وَجَهْلٌ لا يَضُرُّ".
وقال: "وَإِنَّما العِلْمُ آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَوْ فَرِيضةٌ عادِلةٌ"(1).
فانظر كيف بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن علم الشعر والنسب ونحوهما يلحق بالمباحات، وأن العلم الذي يهتم به ويعتنى بشأنه إنما هو علم الكتاب والسنة والأحكام الشرعية، فإذا أخذ الإنسان حظه منها فلا عليه إذا ظَفِرَ في غيرها من العلوم التي لم تكن بمثابتها.
وإنما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم علم الشعر والنسب جهلًا مَع تسميته إياه علماً؛ لأن الإنسان إذا اشتغل بهذا العلم في زمان فاته قدر صالح من العلم النافع في ذلك الزمان، وكل زمان يمضي فلا يعود، فاشتغاله بعلم النسب والشعر أدى إلى جهله بذلك القدر من العلم النافع.
وأيضاً فإن أوقات العمر في غاية النفاسة، وهي رأس مال العبد من الدنيا، فإذا صرفها فيما هو نافع، أو فيما هو أكثر نفعًا، فقد جهل مقدار تلك الأوقات حيث بخسها، وبذلها فيما لا يجدي.
ومن هنا يتبين لك معنى الحديث الآتي: "إِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلًا"(2).
(1) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 23) وقال: في إسناد هذا الحديث رجلان لا يحتج بهما، وهما سليمان وبقية.
(2)
تقدم تخريجه.
قال أبو عبيد: هو أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلمه.
قال: وقال الأزهري: هو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالكلام، والنجوم، وكتب الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه لدينه كعلم القرآن والشريعة، انتهى (1).
نعم، مهما أخذ الإنسان بحظه من العلوم النافعة فلا بأس بترويح نفسه بشيء من علم التاريخ، والنسب، والشعر، والأدب، ونحو ذلك.
فقد روى أبو داود عن الزهريّ مرسلاً، والقضاعي متصلاً، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَوِّحُوا القُلُوبَ ساعَةً وَساعَة"(2).
واستنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمية بن الصلت وغيره.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من أعرف الناس بعلم الأنساب.
وكان شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى - ولم يمض له وقت منذ سن التمييز إلا في علم أو خير - كان في آخر أمره ينظر في علوم الشرع تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وأصولاً في سائر أيام الجمعة إلا يوم الجمعة، فيقسمه على وظيفتين:
(1) انظر: "غريب الحديث" لابن الجوزي (1/ 183).
(2)
تقدم تخريجه.