الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به، وأحِبَّ من شئت؛ فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (1).
والاستغناء عن الناس قد يكون بالحِرفة والاكتساب، وقد يكون بالتقنع بالميسور والإعراض عما وراءه كما قال صلى الله عليه وسلم:"اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ السِّواكِ".
رواه البزار، والطبراني، والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (2).
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: أفضل الأعمال التجمل عند المحنة (3).
وقال بعض السلف: ستر الفقر من كنوز البر (4).
وقال أبو مدين رحمه الله تعالى: الفقر نورٌ، فإذا كشفته كسفته.
والثاني:
أن يتشبه بالأغنياء في اللباس لمجرد الشهوة أو للشهرة
، وفي التوسع في المآكل والمشارب، والمركب، والمسكن، والخدم، وشراء ما ليس معه ثمنه، أو ما يستدين ثمنه، وفي الجود والسخاء بما ليس عنده ولا يتوصل إليه، وربما يكون ذلك بإلجاء
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4278).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 253): وفيه زافر بن سليمان؛ وثقه أحمد وابن معين وأبو داود، وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان بما لا يضر.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 325).
(4)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 206).
الزوجة، أو الولد والعيال حيث يريدون التشبه بعيال الأغنياء، وذلك وَبَال على الفقير في الدنيا والآخرة حيث يضيق عليه الأمرُ بطلب الغرماء لأثمان مبيعاتهم له، والديون التي تترتب لهم عليه بسبب ذلك، وربما أدى به الحال إلى الهرب، وتعلق حقوق الناس بذمته، أو الحبس والعقوبة، أو إلى الدخول في مداخل السوء لتحصيل ما يسد أمره به؛ كالسرقة، والغصب، والرشوة، والسعاية إلى الحكام، وخدمة الظلمة، وهو في الأصل مسرف مبذِّر، والإسراف والتبذير منه كلاهما محرَّم، فيكون فاسقاً، فيجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة.
وقد روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَشْقَى الأَشْقِياءِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيا وَعَذابُ الآخِرَةِ"(1).
وفي "الكبير" - ورواته ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى عيراً قدمت، فربح فيها أواقاً من ذهب، فتصدق بها على أرامل عبد المطلب، وقال: "لا أَشْتَرِي شَيْئاً
(1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1887)، و (9269). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 267): رواه الطبراني بإسنادين؛ في أحدهما خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، وقد وثقه أبو زرعة وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات، وفي الأخرى أحمد بن طاهر بن حرملة، وهو كذاب.
لَيْسَ عِنْدِي ثَمَنُهُ" (1).
وروى البيهقي، وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ يَكُونُ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلى يَدَيْ زَوْجَتِهِ وَأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ؛ يُعَيِّرُونَهُ بِالفَقْرِ، وَيُكَلِّفُونَهُ ما لا يُطِيقُ، فَيَدْخُلُ الْمَداخِلَ الَّتِي يَذْهَبُ فِيها دِيْنُهُ فَيَهْلَكُ"(2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: ثلاثة لا تكون في بيت إلا نُزعت البركة منه: الخيانة، والزنا، والسرقة (3).
ومن هنا ينبغي للفقير أن لا يخالط الأغنياء، ولا يجالسهم ولا يعاشرهم، ولا ينظر إلى زيهم، ولا يفعل ذلك عيالُه مع عيالهم؛ فإنه يَزدري نعمةَ الله تعالى عليه، ويرى ما لا يطيقه، وتدعوه نفسه وعياله إلى مثل ما عندهم.
ولقد روى الترمذي، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11/ 282)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (1/ 239). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 110): رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
(2)
رواه البيهقي في "الزهد الكبير"(ص: 183) بمعناه. وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 371).
(3)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 69)، إلا أنه قال:"السرف والزنا والخيانة".
تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائِشَةُ! إِنْ أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيا كَزادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجالَسَةَ الأَغْنِياءِ، وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْباً حَتَى تُرَقِّعِيهِ"(1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا معشر المهاجرين! لا تدخلوا على أهل الدنيا؛ فإنها مَسْخطة للرزق (2).
وصدق رضي الله تعالى عنه؛ فإن مخالطة الفقير لأهل الدنيا تدعوه إلى التشبه بهم في حبها وطلبها؛ إذ تَهُشُّ نفسُه إلى مثل ما لهم من الدنيا، فإن طلبها وحصلت له شَغَلَتْه عن الله تعالى، وعما فيه نجاة نفسه [
…
] (3) وإن لم تحصل له بقي ساخطاً ما قسم الله له، محتقراً ما أنعم الله به عليه، ولذلك جاء النهي عن مجالسة الأغنياء كما في حديث عائشة، وعن النظر إليهم وإلى ما شغلوا به.
قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
(1) رواه الترمذي (1780) وقال: غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، وسمعت محمدًا - أي البخاري - يقول: صالح بن حسان منكر الحديث. والحاكم في "المستدرك"(7867).
(2)
ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 263).
(3)
بياض في "أ" و"ت" بمقدار كلمة أو كلمتين.
نزلت تعزيةً للنبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا كما رواه ابن أبي حاتم عن سفيان (1)، بل أخرجه بمعناه ابن أبي شيبة، والبزار، وأبو يعلى، والمفسرون عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه (2).
ونقل الشعبي، وغيره عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: من لم يتعز بعزاء الله تعالى تقطَّعت نفسه حسرات، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس تَطُلْ حسرته، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه، وملبسه فقد قل عليه، وحضر عذابه (3).
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه عن أبي
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 612).
(2)
ورواه الروياني في "مسنده"(695)، والطبري في "التفسير"(16/ 235)، والطبراني في "المعجم الكبير"(989).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 126): رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف.
ولفظ الحديث عند الروياني: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني، فأرسلني إلى رجل من اليهود ببيع، فقال: يقول لك محمد صلى الله عليه وسلم أو رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل بنا ضيف، ولم يبت عندنا ما يصلحه فبعني كذا وكذا من الدقيق أو اسلفني إلى هلال رجب، قال: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن، فخرجت إليه فأخبرته فقال:"والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي" فنزلت هذه الآية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} .
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 133) عن الحسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه.