الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ما شتمتك، ولكن شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة؟
فلما ذهب أبو حازم قال رجل من حلفاء سليمان: يا أمير المؤمنين! تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم؟
قال: لا (1).
أخرج هذه القصة الدارمي في "مسنده" عن الضحاك بن موسى بنحوه (2)، وقد أوردتها بتمامها لأنها من أنفع القصص للعلماء والعقلاء.
16 - ومن أحوال الحمقى: ما رواه المعافى بن زكريا في "الجليس والأنيس
" عن الهيثم بن عدي قال: قال وهب بن منبه: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه، تود أمه لو أنها أثكلته، وتود امرأته لو أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة، وأنشد لمسكين الدارمي [من الرمل]:
اتَّقِ الأَحْمَقَ لا تَصْحَبَهُ
…
إِنَّما الأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقْ
كُلَّما أَرْقَعْتَ مِنْهُ جانِباً
…
حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ وَهْناً فَانْخَرَقْ
أَوْ كَصدْعٍ فِي زُجاجٍ فاحِشٍ
…
هَلْ تَرى صَدْعَ زُجاجٍ يَتَّفِقْ
وإِذا جالَسْتَهُ فِي مَجْلِسٍ
…
أَفْسَدَ الْمَجْلِسَ مِنْهُ بِالْخَرَقْ
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 237).
(2)
انظر: "سنن الدارمي"(647).
وَإِذا نَهْنَهْتَهُ كَيْ يَرْعَوِي
…
زَادَ جَهْلاً وَتَمادَى فِي الْحُمُق (1)
وزاد فيه غيره: كَحِمارِالسُّوءِ إِنْ أَشْبَعْتَهُ
…
رَمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جاعَ نهقْ
أَوْ كَعَبْدِ السُّوء إِنْ أتعَبْتَهُ
…
سَرَقَ النَّاسَ وَإنْ يَشْبَعْ فَسَقْ (2)
وروى ابن السمعاني عن أبي الحسين محمد بن محمد بن جعفر ابن الحكم: [من الوافر]
زَمانٌ قَدْ تَضَرَّعَ لِلْفُضُولِ
…
فَسَوَّدَ كُلَّ ذِي حُمْقٍ جَهُولِ
إِذا أَحْبَبْتُمْ فِيهِ ارْتفاعاً
…
فَكُونُوا جاهِلِينَ بِلا عُقُولِ (3)
وقرأت بخط البرهان بن جماعة: وكان أبو عمر القاضي يقول: إعظام من لا دين له ولا دنيا عنده حمق.
قلت: وإعظام من عنده دنيا لا ينالك منها شيء، بل لمجرد كونه غنياً حمقٌ، بل أشد الحمق.
(1) رواه المعافى بن زكريا في "الجليس الصالح والأنيس الناصح"(ص: 273).
(2)
البيتان لمسكين الدارمي أيضاً، كما في "الجليس الصالح والأنيس الناصح" للمعافى بن زكريا (ص: 505).
(3)
انظر: "يتيمة الدهر" للثعالبي (2/ 410).
فَصْلٌ
التشبه بالمجانين تارة يكون مذموماً لما يعود على المتشبه به كمن يحاكي المجانين في حركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم، وأحوالهم تهكُّماً واستهزاءً بهم، وهذا حرام لما فيه من الأذية وانتهاك الحرمة، وإن كان المجنون لا يتأذى بذلك في نفسه فقد يتأذى به قريبه أو صديقه، ولو كان عاقلاً فذكر ذلك له لتأذى به وتألم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا الأَمْواتَ فَتُؤْذَى الأَحْياء"(1).
والمجنون لا أقل من أن ينزل منزلة الميت، بل هو أولى بأن لا يسب من الميت، فقد يعافى ويذكر له ذلك، فيتأذى به.
وقد سمعت بعض مشايخنا يقول: ما اعتاد أحد محاكاة المجانين إلا جن ولو قبل موته بيوم.
وفي الحديث: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(2)، وهو لا يحب لنفسه أن يحاكى، أو يسب.
(1) رواه الترمذي (1982) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه.
وكذلك من يحاكي المجانين ليضحك الجلساء ويعللهم، وهذا حرام أيضًا لأنه غيبة؛ فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، ولو كان المجنون عاقلاً يكره ذلك منك.
ولما ذكر العلماء المواضع التي تباح فيها الغيبة لم يذكروا غيبة المجنون منها، فبقيت على أصلها من التحريم، والتمسخر لإضحاك الناس حرام.
وروى ابن أبي الدنيا - بسند جيد - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لِيُضْحِكَ بِها جُلَساءَهُ يَهْوِي بِها أَبْعَدَ مِنَ الثُّرَيَّا"(1).
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} [الكهف: 49] الآية: الصغيرة: التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة: القهقهة بذلك (2).
قال الغزالي: وهو إشارة إلى أن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب (3).
نعم، قد يحتاج العاقل إلى مشاكلة المجنون ومقابلته بمثل عمله
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 78). وحسن العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 775). وأصله في الصحيحين.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 170).
(3)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 131).
كان ضرب رأسه عبثاً وجنوناً، فيضرب رأسه تأديباً وزجراً له عن جنونه، أو يسبه المجنون ويشتمه فينتهره ويزجره، فهذا غير مذموم لصحة القصد فيه، ومتى صح القصد في المشاكلة أبيحت.
ومن هذا القبيل ما أسنده ابن السبكي في "طبقاته" عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: [الطويل]
وَأَنْزَلَنِي طُولُ النَّوَى دارَ غُرْبَةٍ
…
يُجاوِرُني مَنْ لَيْسَ مِثْلِي يُشاكِلُهْ
أُحامِقُهُ حَتَّى يُقالَ: سَجِيَّةٌ
…
وَلَوْ كانَ ذا عَقْلٍ لَكُنْتُ أُعاقِلُهْ (1)
وتارة يكون التشبه بالمجانين مذموماً لما يعود على نفس المتشبه، وهذا يختلف باختلاف الأغراض.
وتارة أن يكون عليه حقوق شرعية وهو قادر على أدائها، فيتجنن لئلا يطالب بها، فهذا حرام لأنه مِنْ أكل أموال الناس بالباطل، فأما لو أريد أن يقهره على أخذ ماله منه، أو يسطي عليه في عرضه أو في حريمه، أو حمل على فتنة في دينه، فإن أمكنه التخلص من ذلك بحيلة غير التجانن فهو أولى، وإلا فلا يكره في حقه التحامق والتجانن كما وقع لمِسْعر بن كدام - رحمه الله تعالى - لما دعاه السلطان إلى ولاية القضاء تحامق عليه، فتركه ولم يوله، وقال: هذا لا يصلح للقضاء.
ووقع مثل ذلك لسفيان الثوري.
(1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (1/ 306).
مات قاض من قضاة بني إسرائيل، فخرج بعض علمائهم راكباً على قصبة يتأله ويتجانن لئلا يولوه القضاء كما تقدم ذلك في باب النهي عن التشبه ببني إسرائيل (1).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن مالك بن دينار أنه قال لمسلم بن قتيبة: ويحك يا مسلم! إياك وأبواب الملوك، ويحك يا مسلم! تحامق لهم، وقد تحلفنا حتى عرفنا.
قال له مالك: تجان يا مسلم! إني أخاف أن يلقوك في ورطة لا تقوم لها ولا تخرج منها (2).
ومن هذا القبيل تستر أولياء الله تعالى بما يشبه أفعال المجانين من غير ترتب لوم عليهم من حيث الشرع إيثاراً للخمول ليصفو لهم وقتهم في طاعة الله تعالى، وتخلص قلوبهم من الأشغال المكدرة لها عن مراقبة الله تعالى، ومشاهدة قدرته وعظمته.
قال سفيان رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من تحامق. رواه أبو نعيم (3).
وروى الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي عَلى النَّاسِ زَمانٌ تُقْتَلُ فِيهِ الْعُلَماءُ كَما تُقْتَلُ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"(ص: 325).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 67).
الْكِلابُ؛ فَيا لَيْتَ الْعُلَماءَ فِي ذَلِكَ الزَّمانِ تَحامَقُوا" (1).
أي: لغرض النجاة، فالتحامق بالقصد الصحيح مأذون فيه شرعاً، مستحسن مقبول.
ومن التشبه المذموم بالمجانين لما يعود على نفس المتشبه ضرره أمران عظيمان يلحقان العبد بالمجانين فعلاً وصورة، وبالهالكين مالاً وحكماً: الأول، وهو من الأفعال: السكرة سواء كان بشرب الخمر والمسكر، أم بأكل الحشيش والأفيون، وغيرهما من أنواع الكيف؛ فإن السكران يعرض له ما يعرض للمجنون من كشف العورة، والتضمخ بالنجاسة، والكلام الفاحش، والأفعال المضحكة، والسكران أسوأ حالاً من المجنون؛ لأن السكران مؤاخذ بأفعاله وأقواله من طلاق وعتاق وإقرار، مطالب بما يفوته من الفرائض، معاقب على ما يقع منه من الذنوب كالقذف، والشتم، والقتل، والضرب، وكشف العورة بخلاف المجنون، وذلك لأن السكران عاص بتغييب عقله.
قال الحسن: جاء الخمر إلى أحب خلق الله إليه، فأتلفه؛ يعني: العقل (2).
لما رواه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه،
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(8671).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر"(ص: 82).
والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأبو نعيم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ الْعَقْلَ، فَقالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَاَقْبَلَ، ثُمَّ قالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قالَ: وَعِزَّتي وَجَلالِي ما خَلَقْتُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعاقِبُ"(1).
والثاني، وهو من الأخلاق: الغضب، والإفراط فيه؛ إذ به يخرج المرء عن سياسة العقل والدين كما نص عليه في "الإحياء"، فلا يبقى له معه بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة (2)، ويتغير لونه، وترتعد فرائصه، وتخرج أفعاله عن الترتب، ويضطرب كلامه وحركته، وينطلق لسانه بالفحش وقبيح الكلام الذي يستحيى منه ذوو العقول، وربما يبطش بالمغضوب عليه ويريد قتله وقد يقتل، فإذا غاب عنه أو حيل بينه وبينه فقد يعود أثر غضبه على نفسه باللطم وتمزيق الثياب، ونتف اللحية، وكسر الآنية، وقد يعدو عدو الواله السكران، وربما يسقط فلا يستطيع النهوض، وقد يغشى عليه، وربما طلق الزوجة ثلاثًا في غضب، وربما دعاه الغضب إلى النميمة وكشف الأسرار، وربما حصل له ضرر بذلك،
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "فضل العقل"(ص: 39) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والطبراني في "المعجم الكبير"(8086) عن أبي أمامة رضي الله عنه وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 318) عن عائشة رضي الله عنها.
قال ابن حجر في "لسان الميزان"(4/ 314): لا يثبت في هذا المتن شيء.
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 167).