الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
ومتى راهق الصبي أو بلغ استقل بنفسه في التأدب بالآداب الشرعية، وطلب العلم على الشيوخ المرضية، ووضع كل شيء في محله، ولا يدع تعاهده الأب أو الولي في هذه الحالة، بل يراقبه، فإن بلغ صالحاً لدينه ودنياه كان رشيداً، فتصح معاملاته من البيع والشراء، والسَّلَم، والإجارة، وغير ذلك، وإذا بلغ فعلى وليه أن يعرِّفه، وعليه أن يتعرف أنه قد صار مكلفاً؛ أي: مخاطباً بالأحكام الشرعية، موعوداً بالثواب على طاعاته، والعتاب [أو العقاب] على مخالفاته، وفي هذه الحالة يكون شاباً يحسن منه التشبه بالكهول والشيوخ الكُمَّل، ويبلغ أشده، ويستوفي شبابه ببلوغ ثمان وعشرين سنة.
وقال النووي في "شرح مسلم" في كتاب النكاح: الشاب عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة (1).
وينتهي ببلوغ أربعين سنة، فينبغي أن يشغل نفسه بالطاعات من
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 173).
الصلاة والصيام، والحج، والعمرة، والتلاوة، وقيام الليل، وقضاء حوائج الناس - ولاسيما الضعفاء والشيوخ - وليكرم الأكابر وذوي الأسنان، ويوقرهم، ويرحم الأصاغير - ولاسيما الأيتام والمساكين والأرامل - ويحسن إليهم، وإلى الجيران والإخوان، وَيعْرِف لهم حقوقهم.
روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إِلَاّ قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ"(1).
وروى الدينوري عن الحسن رحمه الله تعالى قال: من أحسن عبادة ربه في شبيبته لقاه الله الحكمة عند كبر سنه، وذلك قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14](2).
وروى أبو نعيم عن شريح القاضي رحمه الله تعالى قال: حدثني البدريون - منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ شابٍّ يَدَعُ لَذَّةَ الدُّنْيا وَشَهْوَتَها، وَيَسْتَقْبِلُ بِشَبابِهِ طاعَةَ اللهِ تَعالَى إِلَاّ أَعْطاهُ اللهُ عز وجل أَجْرَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صِدِّيقاً".
ثم قال: "يَقُولُ اللهُ تَعالَى: يا أَيُّها الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ لِي! أَنْتَ
(1) رواه الترمذي (2022) وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن بيان. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 572): هو وشيخه أبو الرحال ضعيفان.
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 56).
عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتِي" (1).
وروى أبو بكر بن السني عن طلحة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ يُباهِي بِالشَّابِّ العابِدِ الْمَلائِكَةَ؛ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي".
وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إِنَّ الله يُحِبُّ الشَّابَّ الَّذِي يُفْنِي شَبابَهُ فِي طاعَةِ اللهِ"(2).
وروى الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه عن عتبة بن عبد السلمي - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشاب المؤمن لو أقسم على الله لأبره (3).
وعن مريح بن مسروق قال: ما من شاب يدع لذة الدنيا وشهوتها، ويعمل شبابه لله تعالى إلا أعطاه الله - والذي نفس مريح بيده - أجر اثنين وسبعين صديقاً (4).
وتقدم في رواية أبي نعيم موصولاً مرفوعًا، وقسم مريح لتحقق الحديث عنده.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 139) وقال: غريب من حديث شريح، تفرد به يحيى عن عبد الجبار.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 360) وقال: غريب، تفرد به محمد ابن الفضل.
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 117).
(4)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 117).
ثم روى ابن المبارك عن يزيد بن ميسرة قال: إن الله تعالى يقول: أيها الشاب التارك شهوته لي، المبتذل شبابه من أجلي! أنت عندي كبعض ملائكتي (1).
وقد سبق في رواية أبي نعيم عن شريح نحوه، لكن هذا أتم.
وقوله في هذه الرواية: المبتذل - بالذال المعجمة -: الذي يسمح بنفسه فيبذلها في الطاعة، أو الذي يمتهن نفسه في خدمة الله تعالى وطاعته.
والبذلة: المهنة؛ من قولهم: ابتذلت الثوب، إذا لبسته في الخدمة ولم تصنه.
وروى ابن أبي الدنيا عن حفصة رضي الله تعالى عنها: أن شابًا رأى في منامه أن شيخاً يمشي بين يديه، قال: فجعل يمشي بين يدي ولا ألحقه، قال: فالتفت إلي وقال: إني كنت سريعاً في الشباب.
قال ابن أبي الدنيا: قلت لأزهر - يعني: ابن مروان -: ما يعني بذلك؟
قال: يقول: كنت سريعاً في العمل في الشباب. انتهى (2).
قلت: يحتمل هذا الكلام وجهين: أحدهما: أن من كان سريعاً إلى طاعة الله في شبابه حفظ الله
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 117).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "المنامات"(ص: 42).
تعالى عليه قوته، فلا يَهْرَم.
ويؤيده قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 5 - 6].
والثاني: أن العبد إذا كان مجتهداً في طاعة الله في شبابه أجرى الله تعالى عليه ثواب جَلَدِه وقوته حين يكون ضعيفًا عاجزاً، كما يجري عليه في مرضه وسفره ثوابُ ما كان يعمله من الصالحات في صحته وحضره.
وهاتان فائدتان عظيمتان لطاعة الله تعالى في الشباب.
ولهما فائدة أخرى عظيمة أيضًا: أن العبد إذا حفظ حق الله تعالى في شبابه، فقام بطاعته، وشكر نعمته، فلم يكفر بها بالمعصية، حفظ الله له حق شيخوخته، وقام بكفايته فيها، ولم يحوِجه إلى سؤال الناس والاستعانة بهم في شيء.
روى الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته"، والحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن أبي بكر الرازي: أن أبا بكر الكتاني رحمه الله تعالى نظر إلى شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل، فقال: هذا رجل أضاع حق الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره (1).
***
(1) رواه القشيري في "رسالته"(ص: 74)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(54/ 258).