الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 - ومن أحوال المجانين، والحمقى: أنهم ربما أتلفوا شيئاً من أموالهم لحفظ مال غيرهم كالذي يحمل اللحم وغيره لغيره في ثوبه وهو جديد نفيس نظيف
.
ومن ثم كان أحمق الناس من باع دينه بدنيا غيره كما روى الإمام أحمد في "الزهد" عن ميمون بن مهران قال: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لجلسائه: أخبروني بأحمق الناس.
قالوا: رجل باع آخرته بدنياه.
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أفلا أخبركم بأحمق منه؟
قالوا: بلى.
قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره (1).
وفي معنى ذلك قول أبي حازم سلمة بن دينار رحمه الله تعالى: إن أحمق الناس رجل اغتاظ في هوى أخيه.
اتفقت له هذه الحكمة في قصة وقعت له ينبغي ذكرها هنا: روى أبو نعيم عن خالد بن كثير رحمه الله تعالى قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجاً فقال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟
قالوا: نعم، أبو حازم.
فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء؟
قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟
(1) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 325).
قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني.
قال: والله ما عرفتني قبل هذا ولا أنا رأيتك، فأي جفاء رأيت مني؟
فالتفت سليمان إلى الزهري، فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا.
فقال: يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟
فقال: عَمَرْتم الدنيا وخَرَبْتُم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب.
قال: صدق.
قال: يا أبا حازم! ليت شعري ما لنا عند الله عز وجل غداً؟
قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل.
قال: وأين أجده من كتاب الله عز وجل؟
قال: قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14].
قال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: قريب من المحسنين.
قال سليمان: ليت شعري! كيف العرض على الله عز وجل غداً؟
قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، قال: وأما المسيء كالآبق يقدم على مولاه.
فبكى سليمان حتى علا نحيبُه واشتد بكاؤه، فقال: يا أبا حازم! فكيف لنا أن نصلح؟
قال: تدعون عنكم الصَّلَف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون
بالسوية، وتعدلون القضية.
قال: وكيف المأخذ من ذلك؟
قال: تأخذه بحقه، وتضعه بحقه في أهله.
قال: يا أبا حازم! من أفضل الخلائق؟
قال: أولو المروءة والنُّهى.
قال: فما أعدل العدل؟
قال: كلمة صدق عند من يرجوه أو يخافه.
قال: فما أسرعُ الدعاء إجابة؟
قال: دعاء المحسن.
قال: فما أفضل الصدقة؟
قال: جهد المقل إلى البائس الفقير لا يتبعها مَن ولا أذى.
قال: يا أبا حازم! من أكيس الناس؟
قال: رجل ظفر بطاعة الله فعمل بها، ثم دلَّ الناس عليها.
قال: من أحمق الخلق؟
قال: رجل اغتاظ في هوى أخيه، فهو ظالم باع آخرته بدنياه.
قال: يا أبا حازم! هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟
قال: كلا.
قال: ولِمَ؟
قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضعف الحياة
وضعف الممات، ثم لا يكون لي معك نصيراً.
قال: يا أبا حازم! ارفع إلينا حاجتك.
قال: نعم: تدخلني الجنة وتخرجني من النار.
قال: ذاك ليس إلي.
قال: فما لي حاجة سواها.
قال: يا أبا حازم! ادع الله لي.
قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى.
قال سليمان: قط؟
قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت إن كنت من أهله، وإن لم تكن أهله فما حاجتك أن ترمي عن قوس بلا وَتَر؟
قال: يا أبا حازم! ما تقول فيما نحن فيه؟
قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟
قال: بل نصيحة تلقيها إلي.
قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عَنْوة بالسيف، عن غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم.
قال رجل من [جلساء] سليمان: بئس ما قلت.
قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق:
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
قال: يا أبا حازم! أوصني.
قال: نعم سوف أوصيك وأوجز: نزِّهِ اللهَ تعالى، وعَظِّمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.
ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم! هذه مئة دينار أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير.
فرمى بها، وقال: والله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؛ إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هَزْلاً، وردي عليك بَذْلاً.
إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ سأل موسى ربه ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان ولم يفطن الرعاء لما فطنتا له، فأتيا أباهما وهو شعيب عليه السلام، فأخبرتاه خبره، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثم قال لإحداهما: اذهبي ادعيه لي، فلما أتته أعظمته، وغطَّت وجهها، ثم قالت: إن أبي يدعوك، فلما قالت: ليجزيك أجر ما سقيت لنا كره ذلك موسى عليه السلام، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مَسْبعة وخوف، فخرج معها وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الرياح تضرب ثوبها، فتصف لموسى عليه السلام عجيزتها، فيغض بصره ويعرض أخرى، فقال: يا أمة الله! كوني خلفي، فدخل إلى شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ، فقال: كُلْ.
فقال موسى: لا.
قال شعيب: ألست جائعاً؟
قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبغي شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذا أجر ما سقيت لهما.
قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي؛ قِرى الضيف وإطعام الطعام.
قال: فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً مما حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء؛ إن وازنتهم وإلا فلا حاجة لي فيها.
إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله عز وجل، وآمنوا بالجِبْت والطاغوت، وكان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم يشاركونهم في دنياهم، ويشركوا معهم في فتنتهم.
قال ابن شهاب - يعني: الزهري -: يا أبا حازم! إياي - يعني: أبي تعرض؟ - قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع.
قال سليمان: يا ابن شهاب! تعرفه؟
قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته كلمة قط.
قال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، ولو أحببت الله لأحببتني.
قال ابن شهاب: يا أبا حازم! تشتمني؟