الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائمِ وَالسِّبَاع وَالطَّيْر وَالهَوَام
(8)
بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالبَهَائمِ وَالسِّبَاع وَالطَّيْر وَالهَوَام
اعلم أننا جعلنا هذا الباب في خاتمة هذا القسم الثاني من الكتاب لأنه بهذا القسم أليق، وبهذا النوع أحق؛ لأن التشبه بالبهائم والسباع والطير والهوام لا يحسن إلا على ضرب من التأويل كما ستعلم.
واعلم أن الإنسان إنما أكرمه الله تعالى، وفضَّله بالعقل والمعرفة والبيان حيث يقول عز وجل:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
قال جعفر رحمه الله تعالى: بالمعرفة (1).
وقيل: بالنطق.
وبهذه الثلاثة يتميز الإنسان على سائر الحيوانات، وإلا كان هو والبهائم على حد سواء.
ولذلك قال بعض الحكماء: المرء بأصغريه لسانه وقلبه؛ أي: عقله ومعرفته لأن القلب محلهما.
وقال آخر: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة.
(1) انظر: "تفسير السلمي"(1/ 391).
ولا خفاء أن فضل الإنسان لا يتم إلا إذا كان نطقه معقولاً ناشئاً عن عقل رصين، وقلب سليم.
ومن ثم قال عدي بن حاتم الطائي رضي الله تعالى عنه: لسان المرء تَرجمان عقله (1).
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: [من المتقارب]
تَعاهَدْ لِسانَكَ إِنَّ اللِّسانَ
…
سَرِيْعٌ إِلَى الْمَرْء فِي قَتْلِهِ
وَهَذا اللِّسانُ بَرِيْدُ الْفُؤادِ
…
يَدُلُّ الرِّجالَ عَلى عَقْلِهِ (2)
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: إن الله تعالى أنطق اللسان بالبيان، وافتتحه بالكلام، وجعل القلوب أوعية العلم، ولولا تلك لكان الإنسان بمنزلة البهيمة؛ يومئ بالرأس، ويشير باليد (3).
ثم اعلم أن الإنسان لا يتلبس بالعلم والمعرفة، ولا بالصواب في النطق إلا بالعقل، فالعقل رأس الحكمة، ومنبع المعرفة، وأصل الديانة، وإنما سمي عقلاً لأنه يعقل؛ أي: يمنع صاحبه من الخطأ.
قال عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله تعالى: إذا عَقَلَكَ عَقْلُكَ عما لا يليق فأنت عاقل (4).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 296).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(ص: 298).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(117).
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "العقل وفضله"(ص: 49).
ثم لا يُعقل المرء عن الخطأ ما لم يعرف الصواب من الخطأ، والخطأ من الصواب.
والمراد من الصواب ما صوَّبه الشرع، والخطأ ما كان بخلافه.
فرجع معنى العقل إلى متابعة الشرع، فالعاقل من عَقَله عَقْلُه بعُقال الشرع، وعن تعدي حدود الشرع ومتابعة هوى نفسه.
وكلما كان الإنسان متابعاً للشرع كان أمكن في العقل بدليل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به ما كنا في أصحاب السعير (1).
وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لِكُلِّ شَيءٍ دِعامَةٌ، وَدِعامَةُ عَمَلِ العَبْدِ عَقْلُهُ، فَبِقَدرِ عَقْلِهِ تَكُوْنُ عِبادتُهُ، أَما سَمِعتُم قَولَ الفاجِرِ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]؟ "(2).
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(9/ 358).
(2)
رواه الحارث بن أبي أسامة في "المسند"(840)، وكذا الديلمي في "مسند الفردوس" (4999). قال ابن حجر في "المطالب العالية" (13/ 725): هذه الأحاديث من "كتاب العقل" لداود بن المحبر، كلها موضوعة، ذكرها الحارث في "مسنده" عنه.
وقال في "تهذيب التهذيب"(3/ 173) في ترجمة داود بن محبر: قال الإمام أحمد: شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث، وقال الدارقطني: متروك الحديث. =
قلت: وفيه إشارة إلى أن العمل المعتدَّ به ما كان عن عقل عاقل ونُهية كاملة.
وقد توجد صورة العمل في عبد ولا يكون في العبد بذاك، وأكثر ما يكون رؤية النفس في العمل والمن به، والكبر والخيلاء، والبغي والطغيان في الأعمال الصورية التي لا روحانية لها.
ومثل هذه الأخلاق إنما تنشأ عن قلة العقل والجهل بمقدار النفس.
ومن ثم قال معاوية بن قُرة رحمه الله تعالى: إن القوم يحجون ويعتمرون، ويجاهدون، ويصلون، ويصومون، ولا يعقلون، ولا يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم (1).
وقال أبو زكريا رحمه الله تعالى: إن الرجل يتلذذ في الجنة بقدر عقله (2). رواهما ابن أبي الدنيا، وابن الجوزي في "الأذكياء".
وروى أبو القاسم البغوي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَدَّ الملائِكَةُ واجْتهدُوا في طاعَةِ اللهِ بِالعَقلِ، وَجَدَّ المؤْمِنُونَ مِنْ بَني آدَمَ عَلى قَدرِ عُقُولهِم؛ فَأَعْمَلُهُمْ بِطاعَتِهِ أَوْفَرُهُم عَقْلاً"(3).
= قلت: وسيأتي أحاديث منها في هذا الجزء، وسأكتفي بالحكم فيها بالقول: وفيه داود بن المحبر.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "العقل وفضله"(ص: 42)، وابن الجوزي في "الأذكياء" (ص: 10) واللفظ له.
(2)
رواه ابن الجوزي في "الأذكياء"(ص: 10).
(3)
ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(819) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. =
وروى الحكيم الترمذي، وابن أبي الدنيا، والخطيب عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! بأي شيء يتفاضل الناس في الدنيا؟
قال: "بِالعَقْلِ".
قلت: وفي الآخرة؟
قال: "بِالعَقْلِ".
قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟
فقال: "يا عائِشَةُ! فَهَلْ عَمِلُوا إلَّا بِقَدرِ ما أَعْطاهُمُ اللهُ تَعالى مِنَ العَقْلِ؟ فَبِقَدْرِ ما أُعْطُوا مِنَ العَقْلِ كانَتْ أَعْمالُهُم، وَبِقَدْرِ ما عَمِلُوا يُجْزَوْنَ"(1).
وروى البيهقي في "الشعب" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال:
= وفيه داود بن المحبر.
قال ابن حجر في "الإصابة"(7/ 248): أخرجه البغوي من طريق ميسرة ابن عبد ربه، أحد المتروكين، عن حنظلة بن وداعة، عن أبيه، عن أبي عازب رضي الله عنه.
وأشار إلى الروايتين - رواية البراء ورواية أبي عازب - العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 50) لكنه قال: ابن عازب رجل من الصحابة غير البراء بالسند نفسه.
(1)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 356)، وكذا الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(823). وفيه داود بن المحبر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قِوامُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَقْلَ لَهُ"(1).
وروى أبو نعيم عن عبد الله بن حبان قال: قيل لعطاء - يعني: ابن أبي رباح -: ما أفضل ما أُعطي العباد؟
قال: العقل بالله، وهو المعرفة بالدين (2).
وقال القاضي أبو الحسن الماوردي في "أدبه": اختلف الناس فيمن صرف عقله إلى الشر هل يسمى عاقلاً؟
فقال بعضهم: أسميه عاقلاً بوجود العقل منه.
وقال بعضهم: لا أسميه عاقلًا حتى يكون خيِّراً ديناً لأن الخير والدين من لباب العقل، وأما الشرير فلا أسميه عاقلاً، وإنما أسميه صاحب رويِّة وفكر.
قال: وقد قيل: العاقل من عَقَل عن الله أمره ونهيه حتى قال أصحاب الشافعي فيمن أوصى بثلث ماله لأعقل الناس: إنه يكون مصروفاً إلى الزهاد لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل.
قال: وروى لقمان بن عامر عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عُوَيْمِرُ! اِزْدَدْ عَقْلاً تَزْدَدْ مِنْ رَبِّكَ قُرْبا، وَبِهِ عِزًّا".
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4644) وقال: تفرد به حامد بن آدم، وكان متهماً بالكذب.
وكذا رواه ابن عدي في "الكامل "(3/ 100) وقال: منكر.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 315)، وعنده:"العقل عن الله".
قلت: فداك أبي وأمي! من لي بِالعقل؟
قال: "اِجْتَنِبْ مَحارِمَ اللهِ، وَأَدِّ فَرائِضَ اللهِ تَكُنْ عاقِلاً، ثُمَّ تَنَفَّلْ صالحاتِ الأعمالِ تَزْدَدْ في الدُّنْيا عَقْلاً، وَتَزْددْ مِنَ رَبِّكَ قُرْباً وَبِهِ عِزًّا"(1)، انتهى (2).
وفي هذا الحديث الذي ذكرته إشارة إلى أن العبد إنما يستتم العقل بتأدية الفرائض واجتناب المحارم، ومن تساهل في شيء من ذلك فإنما هو لنقصان عقله.
وقال الدينوري في "المجالسة": أنشد محمد بن موسى: [من الطويل]
أَلا إِنَّ خَيْرَ الْعَقْلِ ما حَضَّ أَهْلَهُ
…
عَلى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بَدْئاً وَعاقِبَة
وَلا خَيْرَ فِي عَقْلٍ يَزِيْغُ عَنِ التُّقَى
…
وَيَشْغَلُ بِالدُّنْيا الَّتِي هِيَ ذاهِبَة (3)
* تنبِيْهٌ:
لو استحسن الإنسان بعقله شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى وهو مخالف للشريعة لا يكون عاقلاً، ومن لم ينتفع بعقله فكأنما كان بلا عقل، والعقل النافع هو الذي ينقذ صاحبه من النار، وفعله ما استحسنه
(1) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(828)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 358). وفيه داود بن المحبر.
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 13 - 15).
(3)
انظر: "المجالسة وجواهر العلم" للدينوري (ص: 297).
بعقله لا ينقذه من النار؛ إذ المنقذ من النار طاعةُ الله تعالى، وإنما يطاع الله تعالى من حيث أَمر، لا من حيث يَستحسن العبد، فالطاعة المنقذة من النار هي الطاعة الموافقة للشرع والأمر بدليل:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وروى البيهقي في "الشعب" عن أبي عمرو الزجاجي رحمه الله تعالى قال: كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطباعهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم إلى الشريعة والاتباع؛ قال: فالعقل الصحيح الذي يستحسن محاسن الشريعة، ويستقبح ما تستقبحه (1).
ثم إن العبد كلما كان أطوع لله وأتقى كان أصعد في مراتب العقل وأرقى، وكلما كان كمل عقلاً وأتم نهياً كان أبعد عن الطبع البهيمي والمزاج الحيواني، وبذلك يكون الإنسان كريماً مكرماً، فاضلاً مفضلاً، ممدوحاً محموداً.
قال أبو القاسم الراغب في كتاب "الذريعة إلى محاسن الشريعة": الإنسان - وإن كان بكونه إنساناً أفضل موجود - فذلك بشرط أن يراعى ما به الإنسان صار إنساناً، وهو العلم والعمل المحكم، فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضُل، ولهذا قيل: الناس أبناء ما يحسنون؛ أي: يعرفون، ويعملون من العلوم والأعمال الحسنة.
يقال: أحسن الإنسان إذا علم، وأحسن إذا عمل حسناً.
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 162).
قال: فأما الإنسان من حيث ما يتغذى ويغسل فنبات، ومن حيث ما يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار، وإنما فضيلته بنطقه وقواه ومقتضاه، انتهى.
ونقل الماوردي عن بعض العلماء أنه قال: ركَّب الله تعالى الملائكة عليهم السلام من عقل بلا شهوة، وركَّب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما؛ فمن غلب عقلُه شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم (1).
قلت: وحيث علمت أن الإنسان من الملك والبهيمة بحيث إنه بقدر ما يغلب عقلُه ونُهاه شهوتَه وهواه يقرب من الملائكة، ثم يترقى حتى يصير في منزلتهم أو يفوقها كما في الحديث المار يقول الله تعالى:"أيُّها الشَّابُّ التَّارِكُ شَهْوَتَهُ لي، أَنْتَ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلائِكَتي"(2).
وكما روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قالَ اللهُ تَعالى: عَبْدِي المؤْمِنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَعْضِ مَلائِكَتي"(3).
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 22).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(6634). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 82): وفيه أبو المهزم وهو متروك.
ورواه ابن ماجه (3947) ولفظه: "المؤمن"كرم على الله عز وجل من بعض ملائكته". وفيه أبو المهزم هذا.
وبقدر ما تغلب شهوتُه عقلَه يقرب من البهائم، ثم يتأخر حتى يصير في منزلة البهيمة، أو ينزل في حضيض أسفل من منزلة البهائم كما قال الله تعالى:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44].
فقد ظهر لك في ترتيب كتابنا هذا سر عجيب، وهو أنا ذكرنا أولاً التشبه بالملائكة عليهم السلام، وجعلناه في بداية القسم الأول من الكتاب، وذكرنا آخراً التشبه بالبهائم، وجعلناه في نهاية القسم الثاني من الكتاب، فكان التشبه بالملائكة والتشبه بالبهائم كطرفين للكتاب أعلى وأدنى، وكان المتشبه بالملائكة في الطرف الأعلى من الإنسانية، والمتشبه بالبهائم في الطرف الأدنى من الحيوانية، وجعلنا التخلق بأخلاق الله تعالى في وسط الكتاب لأنه هو النهاية التي يُنتَهى إليها بسير السائرين، والمحط الذي عليه تحط رحال العارفين، ثم ذكرنا بعد ذلك النهي عن التشبه بالشيطان إشارة إلى من لم يتخلق بأخلاق الله عز وجل، ولا بأخلاق عباده الصالحين فهو إما شيطان، وإما قرين شيطان، وإما بهيمة في صورة إنسان.
فعدنا بعد الأمر بالتلبس بالحق إلى الزجر عن التلبس بالباطل، فكأن لسان الحال قد قال: إن لم تأمر بما أمرناك به من السلوك في مسالك الأبرار والأخيار، فلا أقل من أن تنزجر عن الذهاب في سبيل الفجار والأخيار، فإن لم يُصبها وابلٌ فَطَل.
وإذا انحصر الحق في التخلق بأخلاق الله تعالى، وأخلاق عباده
الصالحين، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فتبين بذلك أن من لم يترق في درجات الحق فهو متنزل في دركات الباطل؛ والله سبحانه وتعالى هو الموفق.
فَصْلٌ
قال حجة الإسلام في "الإحياء": اعلم أن الإنسان قد اصطحب في تركيبه وخلقه أربع شوائب، فلذلك اجتمعت عليه أربعة أنواع، وهي: الصفات السبعية، والبهيمية، والشيطانية، والربانية.
قال: فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالضرب والشتم.
ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشَّرَه، والحرص، والشَّبق، وغير ذلك.
ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتعزز بالرئاسة، والانسلال عن رِبْقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها، بل يدعي لنفسه العلم والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا قذف بالجهل.
قال: والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، والإنسان حريص على ذلك.
قال: ومن حيث يختص من البهائم والسباع بالتمييز مع مشاركته لها في الشهوة والغضب حصلت فيه شيطانية تستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، وتتوصل إلى الأغراض بالمكر، والحيلة، والخداع، ويعرض الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
قال: وكل إنسان ففيه شَوب من هذه الأصول الأربعة؛ أعني: الربانية، والشيطانية، والسبعية، والبهيمية.
وكل ذلك مجموع في القلب، وكأن المجموع في إهاب الإنسان خنزير، وكلب، وشيطان، وحكيم.
فالخنزير هو الشهوة؛ فإنه لم يكن مذموماً لكونه وشكله وصورته، بل لجشعه، وكَلَبه، وحرصه.
والكلب: هو الغضب؛ فإن السبع الضاري، والكلب العقور ليس كلباً وصبعاً باعتبار اللون والصورة والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة، والعداوة، والعقر.
وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه، وشَبَق الخنزير وحرصه، فالخنزير يدعو بالشر إلى الفحشاء والمنكر، والسبع يدعو إلى الظلم والإيذاء، والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير، وغيظ السبع، يغرِّر أحدهما بالآخر، ويحسِّن لهما ما هما مجبولان عليه.
قال: والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة، ونوره المشرق الواضح،
وأن يكسر شهوة هذا الخنزير بتسليط الكلب؛ إذ بالغضب يكسر سَورة الشهوة، ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه، ويجعل الكل مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر، وظهر العدل في مملكة البدن، وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير، ويرضي الكلب، فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير. انتهى كلام الغزالي في "الإحياء"(1).
وقد اشتمل هذا الفصل من كلامه على فوائد:
الأُولَى: أن الغالب على البهائم الشهوة، وعلى السباع الغضب، وهما معتدلان في الإنسان ليستعملهما في منافع بدنه وشرائع دينه، ويدفع بهما مضار معاشه ومَعَاده باستعماله كلًّا منهما في محله بقدر الحاجة، بحيث يكون مستولياً بعقله عليهما، فإن غلبا أو أحدهما على عقله، واستوليا أو أحدهما على فطنته، فقد فوَّت على نفسه الخاصة الإنسانية، وترجح فيه جانب البهيمية أو السبعية، أو كليهما، فالعبد بسبب استرساله في الشهوة، واستطلاقه مع الهوى يكون متشبهاً في ذلك بالبهائم والسباع، ومهما غلب عقله على شهوته وغضبه كان مترقياً عن هذه المنزلة السافلة، سامياً إلى مراقي الحكمة العلية الفاضلة كما قال أبو بكر بن دريد:[من الرجز]
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 10 - 12).
وَآفَةُ العَقْلِ الْهَوى فَمَنْ عَلا
…
عَلى هَواهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجا (1)
الفائِدَةُ الثَّانِيةُ:
أن الشيطان عبارة عن غلبة الغضب، وغلبة الشهوة مع التمييز بينهما، والإدارك لما يترتب عليهما من المنافع والمضار، واستعمالهما على خلاف الحكمة مع عدم مراعاة اجتلاب المنافع واجتناب المضار، بل هكذا خَبْطَ عَشْواء على مَتن عَمْياء.
فقد علم بذلك أن الإنسان المتميز عن البهيمة والسبع بالنطق والتمييز إذا غلبت عليه الشهوة والغضب كان بهيمة وسبعاً لغلبة شهوته وغضبه، بل أضلّ منهما، لأن الشهوة - وإن غلبت على السباع - فإنها لا تميز بين مضار ذلك ومنافعه، ولا تعرف طريق وضعه في مواضعه، فهي معذورة في ذلك، ومن ثم لم تكن مكلفة، ولا يترتب على فعلها ثواب ولا عقاب، بخلاف الإنسان؛ فإن الشهوة والغضب قد غلبا عليه، وهو مميِّز بين مضارهما ومنافعهما، وله عقل يعرف به طريق وضع كل منهما في موضعه، ومن ثم كان مكلفاً مطالباً، مثاباً على أفعاله، أو معاقباً عليها، فهو أخس من البهائم، وأجهل من السباع كما قال الله تعالى:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44].
وإنما كان أضل من البهيمة والسبع لأنه تنزل بجهله عن منزلتهما
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 105).
إلى الشيطانية، فصار شيطاناً، والشيطان عبارة عن خلق مميز غلبت شهوته، واشتد غضبه، فاسترسل معهما حتى هلك، وبسبب التمييز كان الشيطان ومن كان على طريقته معذبين في النار، ولم يصيروا تراباً كسائر البهائم، فهم أسوأ حالاً من البهائم، ولذلك يقول الكافر الشامل للشيطان إذا رآها صارت تراباً، وذهب به إلى النار:{يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].
وقد تحرر لك من ذلك أن المتشبه بالبهائم والسباع فيما ذكرناه متشبه بالشيطان أيضا، فهو جامع للخصلتين؛ فافهم!
* تنبِيهٌ:
حين يقول الشيطان في الكفار: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] لا يبعد أن يمَال له: إذًا تبين لك أن عنصر النار الذي خلقت منه ليس بخير من عنصر التراب الذي خلق منه آدم، ومن ثم قال بعضهم: إن المراد بالكافر في الآية الشيطان، والألف واللام فيه للعهد.
الفائِدَةُ الثَّالِثةُ: أن ذم الكلب والخنزير ليس راجعاً إلى ظاهر صورتهما، بل إلى ما في الخنزير من الجشع، والكَلَب، والحرص الناشئ عن الشهوة، وما في الكلب من الضراوة، والعداوة، والعقر الناشئ عن الغضب، فإذا كان الذم إنما يرجع إلى هذه الأوصاف فلا فرق في استحقاقهما الذم بين أن تكون في إهاب كلب وخنزير، أو غيرهما من البهائم والسباع، وبين أن تكون في إهاب إنسان، بل هي
في الإنسان أحق بالذم، وإنها في البهائم والسباع جبلات وطباع، وهي ليست مكلفة بأفعالها، بخلاف الإنسان فهي فيه أكثر قبحاً وأحق ذماً.
فقد علمت بذلك أن المتشبه بالبهائم والسباع مستوجب لأشد اللوم وأقبح الذم، وذلك كان في التنفير عن التشبه بهما.
ومن كلام الراغب في "الذريعة": ومن صرف همته كلها في تربية القوى الشهوانية باتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام لَخَلِيق أن يلحق بأفق البهائم فيصير غَمْراً كثور، واما شَرِهاً كخنزير، أو ضارياً ككلب، أو حقوداً كجمل، أو متكبراً كنمر، أو ذا رَوَغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مَريد، وعلى ذلك قوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60](1).
الفائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الحكيم الذي هو مثال العقل في كلام الغزالي رحمه الله تعالى مأمور بثلاثة أمور بها يكون حكيماً، وإلا كان سفيهاً:
- أن يدفع كيد الشيطان.
- ويكسر شهوة الخنزير.
- ويدفع ضراوة الكلب.
(1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 9).
ويسوس بهذا الثلاثة التي اشتملت عليها دائرة مملكته أحسن السياسة، وإلا بأن أطاع شيطانه، أو استرسل مع شهوته، أو امتد في غضبه لم يكن حكيماً، بل إن غلبت عليه الشهوة صار بهيمة، أو الغضب أو الضراوة صار سبعاً، وإن جمع بينهما مع علمه بأن ذلك يضره صار شيطاناً.
وقد اتضح لك بذلك أن الذي يستحق أن يطلق عليه اسم الحكيم هو الرجل العاقل؛ أي: الذي قدر بعقله على منع شهوته، وقَطَع غضبه، وقَمَع شيطانه.
وتسمية العقل حكيمًا على سبيل المبالغة، والإشارة إلى أن الحكيم لا يقال لغير العاقل المتصرف بعقله في مملكة إنسانيته أحسن التصرف.
ولذلك قال ابن زيد رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]: الحكمة: العقل في الدين (1).
وقال الإمام مالك: الفقه في دين الله (2). أخرجهما ابن أبي حاتم.
وروى عبد بن حميد عن قتادة رحمه الله تعالى قال: الحكمة:
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 480)، وكذا الطبري في "التفسير"(1/ 557).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 532).
الفقه في القرآن (1).
وروى هو وابن جرير عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: الحكمة: القرآن، والعلم، والفقه (2).
وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه في الآية قال: الحكمة: قراءة القرآن، والفكر فيه (3).
وقال مجاهد أيضاً: الحكمة: الإصابة في القول. رواه عبد بن حميد (4).
وقال ابن القاسم: الحكمة: طاعة الله، والفقه في الدين، والعمل، أي: الصالح (5).
وقال الحسن رحمه الله تعالى: الحكمة: الورع (6).
وقال الربيع بن أنس رحمه الله تعالى: الحكمة: الخشية (7). رواهما الثعلبي.
وقال أبو العالية رحمه الله تعالى: خشية الله رأس كل حكمة،
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 66).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(3/ 90).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 66).
(4)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 66).
(5)
انظر: "تفسير القرطبي"(3/ 330).
(6)
رواه الثعلبي في "التفسير"(2/ 272)، وابن أبي الدنيا في "الورع" (ص: 48).
(7)
ورواه الطبري في "التفسير"(3/ 91)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 531).
وقرأ الآية. رواه ابن أبي حاتم (1).
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: الخشية حكمة، من خشي الله فقد أصاب أفضل الحكمة. رواه ابن المنذر (2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن ثابت الربعي رحمه الله تعالى قال: وجدت فاتحة زبور داود عليه السلام: إن رأس الحكمة خشية الرب عز وجل (3).
وروى الحكيم الترمذي، وابن لال عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخافَةُ الله"(4).
وروى ابن المنذر عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: كان يقال: الرفق رأس الحكمة مخافة الله (5).
والعقل هو الحكيم الذي تحصل به الحكمة؛ لأن مِنْ لازِمِ العقل التفقه في الدين، والترقي في معارف الكتاب والسنة، وذلك يورث الخشية من الله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، والخشية تورث العمل بمقتضى هذه العلوم، وهو طاعة الله تعالى، والورع عن المحرمات، ثم عن المكروهات، ثم عن كل ما سوى الله
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 531).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 67).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 73).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
تعالى، وما يراد به وجهه الكريم، والرفق في سائر الأمور، والتخلص عن الخرق في سائر الأحوال.
ومَنْ تحقَّق بهذا المقام آثر الصمت، ولذلك كان الصمت حكمة، أو نطق بالصواب، ورزق الإصابة في القول والعمل، وكان قوله مقبولاً، وعمله حُلواً عند الناس لقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]؛ تفرقون به بين الحق والباطل، وبين النافع والضار.
ومن هنا قال بندار بن الحسين رحمه الله تعالى حين سأله أبو الحسن الهمذاني عن قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]: الحكمة: سرعة الجواب مع إصابة الصواب (1).
وقد تبين بهذا الذي قررناه: أن من لم يكن حكيماً فهو إما شيطان، وإما بهيمة، وإما سبع كان كان في الصورة إنساناً.
وقد قلنا في المعنى: [من السريع]
لا تَحْسِبِ الإِنْسانَ مَنْ لَمْ يَنَلْ
…
مِنْ خِلْقَةِ الإِنْسانِ إِلَاّ الصُّورْ
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(2/ 271).
ما هُوَ إِلَاّ سَبُعٌ كاسِرٌ
…
أَوْ بُهْمَةٌ فِي مِثْلِ شَكْلِ البَشَرْ
أَوْ هُوَ شَيْطانٌ مَرِيدٌ لَهُ
…
فِي صُورَةِ الإِنْسانِ بُؤْس وَشَرٌ
وإِنَّما الإِنْسانِ ذُو حِكْمَةٍ
…
يُعْطِي بِها النَّفْعَ وَينْفِي الضَّرَرْ
وتبين أيضاً: أن الإنسان إذا ترقى بعقله في طاعة الله تعالى، واكتسب المعارف السنية تارة بالتعلم، وتارة بالطاعة والتعبد والتقوى، صار حكيماً يوافق بكلامه الصواب مع سرعة الجواب، وما ذاك إلا لتكامل عقله وتضاعف معرفته، فاستعمال العقل فيما وضع له ينتج التزايد في العقل لأن العقل نعمة، واستعماله فيما وضع له شكر لتلك النعمة، والشكر يقتضي الزيادة في النعمة، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي الدرداء رضي الله عنه:"ثُمَّ تَنَفَّلْ صالحاتِ الأَعْمالِ تَزْدَدْ عَقْلاً"(1).
ومن هنا قالوا: إن العقل قسمان: غريزي ومكتسب من العقل الغريزي لكثرة الاستعمال والتجارب كما قيل: [من الطويل]
(1) تقدم تخريجه.
ألَمْ تَرَ أَنَّ العَقْلَ زَيْنٌ لأَهْلِه
…
وَلَكِنْ تَمامُ العَقْلِ طُولُ التَّجارِبِ (1)
وإنما يستنتج العقل النافع باستعمال العقل في اكتساب الآداب الشرعية، وتحصيل الأخلاق المرضية، وتطهير النفس عن الأوصاف الدنية باستعماله بالدهاء والحيلة، والمكر والخديعة.
وما أحسن ما أنشده الأصمعي رحمه الله تعالى: [من البسيط]
إِنْ يَكُنِ العَقْلُ مَوْلُوداً فَلَسْتُ أَرى
…
ذا العَقْلِ مُسْتَغْنِياً عَنْ حادِثِ الأَدَبِ
إِنِّي رَأَيْتُهُما كَالْماءِ مُخْتَلِطاً
…
بِالتُّرْبِ تَظْهَرُ مِنْهُ زَهْرَةُ العُشُبِ
وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَتْهُ فِي مَوالدِهِ
…
غَرِيزَةُ العَقْلِ حاكَى الْبُهْمَ فِي النَّسَبِ (2)
وقال آخر، وفي "الإحياء": أنه لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [من الهزج]
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 101).
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 286).
رَأَيْتُ العَقْلَ نَوْعَيْنِ
…
فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ
وَلا يَنْفَعُ مَطْبُوعٌ
…
إِذا لَمْ يَكُ مَسْمُوعُ
كَما لا تَنْفَعُ العَيْنُ
…
وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ (1)
قال الماوردي: واعلم أن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي لأنه نتيجة منه، وقد ينفك العقل الغريزي عن المكتسب فيكون صاحبه مسلوبَ الفضائل، موفور الرذائل كالأَنْوك الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قل ما تخلو منه رذيلة.
قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأَحْمَقُ أَبْغَضُ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ؛ إِذْ حَرَمَهُ أَعَزَّ الأَشْياءِ عَلَيْه"، انتهى (2).
وقال الراغب: العقل الغريزي بمنزلة البصر للجسد، والمستفاد بمنزلة النور، كما أن البدن متى لم يكن له بصر فهو أعمى، كذلك النفس متى لم يكن لها بصيرة؛ أي: عقل غريزي فهي عمية، وكما أن البصر متى لم يكن له نور لا ينتفع به، كذلك العقل متى لم يكن له نور من العلم مستفاد لم تجد بصيرته.
ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 16)، و"إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 86)، وعندهما:
ولا ينفع مسموع
…
إذا لم يك مطبوع
(2)
انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 15).
ثم قال: ولما كان فقدان البصيرة أشنع من فقدان البصر لأنه بارتفاع البصيرة انتفاع النفس بالبصر قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
فذمهم بفقدان البصيرة تنبيهاً على أن فقدانها اختياري؛ إذ هو بتركهم استفادة العلم، وأكثر من أن البصر ضروري، انتهى.
وحاصل ما قررناه في هذا الفصل: أن اتصاف الإنسان بالأوصاف الحيوانية، وتخلقه بالطباع البهيمية مما يخالف الحكمة الإلهية، ويخل منه بالإنسانية، فلذلك جاء الشرع الشريف بالنهي عن التشبه بالبهائم والسباع في كثير من الخصال والطباع، وجاء القرآن العظيم بتمثيل الكفار والفساق بالأنعام، فقال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
فمثل واعظ الكفار وداعيهم بالراعي إذا نعق بالغنم، وهي لا تسمع إلا دعاءً ونداءً لا تفهم معناه، بل هم أسوء حالاً من الغنم لأنها قد تنزجر بنعق الراعي، وتنضم من نفشاتها، بخلاف الكفار ونحوهم؛ فإنَّ وعظ الواعظ لا يؤثر فيهم، ولا يزجرهم عن كفرهم وطغيانهم، وإذا ذكروا لا يذكرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48].
فأشار سبحانه وتعالى إلى أنهم أسوء حالاً من الغنم بقوله في وصفهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171]؛ أي: صم عن سماع الحق، بكم عن النطق به، عَمِي عن رؤية مسالكه وطرائقه، فهم لا يعقلون
الحق حقاً فيتبعونه، ولا الباطل باطلاً فيتقونه.
قال الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51] شبههم في إعراضهم عن الحق ونفورهم عن استماع الذكر بالحمر النافرة.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 20 - 22].
قال القاضي في تفسير عدهم من البهائم: ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما ميزوا به وفضلوا لأجله، انتهى (1).
وقد اشتملت الآية على نهي المؤمنين عن التشبه بالكافرين في سماعهم بالمسموع بشرِّ الدواب من حيث إن الدواب تسمع ولا تنتفع، وكذلك حكم هؤلاء ومن جرى على منوالهم، فالآية متضمنة لنهي المؤمنين عن التشبه بالكفار في شبههم بالبهائم فيما ذكر.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر
(1) انظر: "تفسير البيضاوي"(3/ 98).
الآخرة، ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى، ولهم آذان لا يسمعون بها الحق، جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شراً من الأنعام، فقال:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]، ثم أخبر أنهم الغافلون. رواه ابن جرير (1).
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44].
قال مقاتل رحمه الله تعالى: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعلِفها، وهؤلاء لا ينقادون، ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم (2)؛ أي: فكانوا أضل منها من هذه الحيثية.
وقيل: كانوا أضل منها لأنها لا تعتقد صحة التوحيد والنبوة، ولا تعتقد بطلانها، وهؤلاء يعتقدون بطلانهما، فهم أسوء حالاً منها.
وروي أن سفيان الثوري رحمه الله تعالى كان يقول: إلهي! البهائم يزجرها الراعي فتنزجر عن هواها، وأراني لا يزجرني كتابك عما أهواه، فواسوأتاه (3).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(9/ 132).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 36).
(3)
انظر: "الطبقات الكبرى" للشعراني (ص: 71).
* لَطِيفَةٌ: قيل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]: إنهم كانوا يعبدون الحجر، فإذا رأوا أحسن منه تركوه وعبدوا الآخر، وكذلك البهائم إذا رعت في كلا، فرأت غيره أبهج منه تركته، غير أن البهائم تنتفع بما ترعى أولاً وثانياً بخلاف هؤلاء؛ فإنهم لم تنفعهم آلهتهم التي عبدوها أولاً، ولا التي عبدوها ثانياً، فهم أضل من البهائم (1).
وروى أبو سليمان الخطابي بإسناده في "غريب الحديث": أن رجلاً قال لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: إنك في هذه البلاغة والرأي الفاضل كنت تأتي حجراً فتعبده؟
فقال: والله لقد كنت أجالس أقواماً تزن حلومهم الجبال الرواسي، ولكن ما قولك في عقول كادَها خالقها؟ (2)
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "العقل" عن القاسم بن أبي بزة رحمه الله تعالى قال: إن رجلاً من بني قشير أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نعبد في الجاهلية أوثاناً، وكنا نظن أنها تضر وتنفع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُ عَقْلاً"(3).
(1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (6/ 92).
(2)
انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 486).
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في "العقل وفضله"(ص: 38).