الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسن - يعني: البصري - في مرضه الذي مات فيه فقال: مرحباً بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسلام، وأدخلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة، إن صبرتم وصدقتم وأيقنتم، فلا يكن حظكم من هذا الخبر أن تسمعوه بهذه الأذن، وتُخرجوه من هذه الأذن؛ فإنه من رأى مُحمَّد صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً ورائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له عَلَم فشمَّر إليه، الوَحَاءَ الوَحَاءَ! النَّجَاءَ النَّجَاءَ! على ما تُعَرِّجُون؟ أنتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معًا، رحم الله عبداً جعل العيش عيشاً واحدًا، وأكل كسرة، وألبس خلقاً، ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى الرحمة حتى يأتيه أجله وهو على ذلك (1).
*
تَتِمَّةٌ:
قال الحافظ أبو الخير شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي في "المقاصد الحسنة": روينا في "جزء أبي حامد (2) الحضرمي" من حديث الأعمش عن إبراهيم قال: كان يعجبهم أن يكون للشاب صبوة (3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في "المقاصد الحسنة": "حاتم" بدل "حامد".
(3)
انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 206)، ورواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 388).
قلت: ليس المفتى فيه أن المعصية أو المكروه كان يعجبهم في نفسه من الشاب، ولا أنهم كانوا يرضون منه بذلك، وحاشا لله لا يكون ذلك منهم، ولكن المعنى فيه أمران:
الأول: أنهم كانوا يخافون على الشاب إذا كان محفوظًا من كل صبوة، كاملًا من كل وجه أن يعجب بنفسه ويستبد من رأيه، وما أقرب الشاب إلى ذلك فيهلك، فالصبوة تطأ من مَنِّه وتكسر نفسه.
ومن هنا ينبغي للشاب إذا كان موفقًا أن لا يزدري غيره لتقصيره عنه، وبذلك يتم توفيقه، ويكمل سواده، بل ينبغي أبدًا أن يرى غيره أكمل منه، ويقيم له العذر في مخالفته، ويتهم نفسه.
كما روى الإمام أحمد، وأبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى: أنه كان إذا رأى شيخاً قال: هذا خير مني، عبد الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني، ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب.
وكان بكر يأمر أصحابه بذلك (1).
والأمر الثاني: أنهم كانوا يخافون على الشاب إن لم يكن له صبوة من العين؛ فإن العين حقٌّ، كما في الحديث الصحيح (2).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (5408)، ومسلم (2187).
وبلغني عن الحافظ أبي الفضل ابن حجر العسقلاني: أنه كان يقول عن تلميذه الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون: ما رأيت في شباب هذا العصر مثله قط، وما رأيت فيه خصلة تدفع عنه العين، فمات الشيخ نجم الدين شاباً بعدما ألف مؤلفاته التي تقف دونها فحولُ الرجال.
وينبغي لمن كان له ولد ونحوه فيه مَخَايل الخير والكمال أن يعوِّذه بكلمات الله تعالى التامة، أو يقول عليه: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ فقد روى البخاري، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعن أبويهما: "أُعِيذُكُما بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ وَهَامَّةٍ، وَكُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
ثم يقول: "كانَ أَبُوكُمْ إِبْراهِيْمُ عليه السلام يُعَوِّذُ بِهِما إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عليهما السلام"(1).
وروى أبو يعلى، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَنْعَمَ اللهُ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً فِي أَهْلِهِ أَوْ مالِهِ أَوْ وَلَدِهِ فَيَقُولُ: ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، إِلَاّ دَفَعَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ كُلَّ آفَةٍ حَتَّى تَأْتِيَهُ مَنِيَّتُهُ"، وقرأ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ
(1) رواه البخاري (3371)، وأبو داود (4737)، والترمذي (2060)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7726)، وابن ماجه (3525).
مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39](1).
ثم إذا كان الشاب على خلاف ما ذكرناه كالانهماك في الشهوات والإقبال على المعصية، فلا ينبغي أن يقطع باليأس من صلاحه وفلاحه، ولا أن يدعى عليه بالهلاك كما يفعله كثير من الجهلة مع أولادهم وأهلهم وخدمهم، بل ينبغي الدعاء لهم بالهداية، والرشاد والسداد؛ فقد قال الله تعالى:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].
فسَّره الحسن وغيره بالدعاء على الزوجة والأولاد في حال الغضب، ثم يندم الداعي.
روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْعُوا عَلى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلى أَمْوالِكُمْ؛ لا تُوافِقوا مِنَ اللهِ ساعَةً فِيها إِجابَةٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ"(2).
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تتَمَنَّوْا هَلاكَ شَبابِكُمْ وَإِنْ كانَ فِيهِم
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4525)، وكذا ابن أبي الدنيا في "الشكر" (ص: 5).
وعزاه ابن كثير في "تفسير"(3/ 85) لأبي يعلى، وقال: قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس، لا يصح حديثه.
(2)
تقدم تخريجه.
غَرامٌ؛ فَإِنَّهمْ على ما كانَ فِيهِم إِمَّا أَنْ يَتُوبوا فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِم، وَإِمَّا أَنْ تُرْدِيَهُمُ الآفاتُ، إِمَّا عَدُوًّا فَيُقاتِلُونهُ، وَإِمَّا حريقاً فَيُطْفِؤُونَهُ، وَإِمَّا مَاءً فَيَسُدُّوْنَهُ" (1).
***
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 119).