الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
ليس من تشبه المرأة المذموم بالرجال دخول المرأة في شيء من طلب العلم وتعليمه، وتربية المريدين، وإرشاد السائلين ما لم يكن ثَمَّ خلوة أجنبية، بل مع الصيانة وحفظ قوانين الشرع وأحكامه، فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تفيد العلوم، وتورد الإشكالات على علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد استدركت على جماعة منهم في كثير من الأحاديث والأحكام، فاستدركت على عمر، وابنه، وأبي هريرة، وابن عباس، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأبي الدرداء، وسعيد، والبراء، وفاطمة بنت قيس، وغيرهم.
وقد ألف في ذلك طائفة من العلماء آخرهم الحافظ جلال الدين السيوطي؛ ألف كتاب "الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" رضي الله تعالى عنهم.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بالحلال والحرام، والعلم، والشعر، والطب من عائشة رضي الله تعالى عنها (1).
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(6733).
وقال مسروق: لقد رأيت الصحابة رضي الله عنهم يسألون عائشة رضي الله تعالى عنها عن الفرائض (1). رواهما الحاكم.
وكذلك بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهن من النساء الصحابيات كأم سليم، وأم الدرداء، وفاطمة بنت قيس، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وأسماء بنت يزيد، وأم حَرام، وغيرهن.
وصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها: نِعْمَ النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (2).
وعلى ذلك درج السلف والخلف؛ كانوا يأخذون العلم عن النساء كما يأخذون عن الرجال، وكانوا يتبركون بالنساء الصالحات والعارفات كرابعة العدوية، ورابعة الشامية، وشعوانة، وغيرهن؛ كانوا يحملون الأدب، والزهد، والمعارف عن النساء كما يحملونه عن الرجال، كما يؤخذ ذلك من سيرهم المذكورة في كتب الحديث، والتاريخ.
وقد روي من اجتهاد بعض النساء، وتدقيقهن في الورع ما عجزت عنه الرجال بحيث قيل في المعنى:[من الوافر]
وَلَوْ كانَ النِّساءُ كَما ذَكَرْنا
…
لَفُضِّلَتِ النِّساءُ عَلى الرِّجالِ
فَما التَّأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
…
وَلا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلالِ
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(6736).
(2)
رواه مسلم (332).
نعم، ينبغي أن لا تعلم المرأة الكتابة؛ لأن الكتابة ربما أدت إلى أمور فظيعة، وأحوال قبيحة من إيصال أسرارهن إلى الرجال، وأسرار الرجال إليهن.
وقد أخرج الحاكم، والبيهقي في "الشعب" عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَفَ، وَلا تُعَلِّمُوهُنَّ الكِتابَةَ، وَعَلِّمُوهُنَّ الغَزْلَ وَسُورَةَ النُّورِ"(1).
وقد بلغني أن بعض العلماء كان لا يستحب أن تقرأ سورة يوسف عليه السلام على النساء، ويستحب أن تقرأ عليهن سورة النور (2).
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن أبي سعد قال: إن لقمان عليه السلام مر بجارية تعلم الكتابة فقال: ليت شعري! من سأل هذا السبب؟
قال: ومر بامرأة معلقة بشعرها في شجرة، فقال: يا ليت الشجر كلها كان ثمرها مثل ثمر هذه الشجرة.
واعلم أن في إيثار الرجل الجهل والدَّعَة، والراحة والاشتغال
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(3494)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2453). وفيه عبد الوهاب بن الضحاك متروك.
وروي من طريق أخرى أضعف من هذه رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(5713). وفيه محمد بن إبراهيم الشامي، كذاب.
(2)
وهذا من الورع الكاذب، والجهل المركب.
بالشهوات، وترك الاشتغال بالعلم والتأدب بالآداب الشرعية تشبهاً بالنساء من حيث إن ذلك خلقهن.
وفي الحديث: "إِنَّكُنَّ نَواقِصُ عَقْلٍ وَدِينٍ"(1).
ومن ثم قال الزهري لأبي بكر الهذلي: يا هذلي! أيعجبك الحديث؟
قال: قلت: نعم.
قال: أما إنه يعجب ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم. رواه الخطيب (2).
وفي رواية عن الزهري قال: لا يطلب الحديث من الرجال إلا ذكرانها، ولا يكرهه إلا إناثها (3).
وعندي أن هذا لا يختص بالحديث، بل إلا من حيث إن معظم العلوم يرجع إليه، بل طلب العلم مطلقًا شيبة الرجال، واللهو عنه وعن كل خير لخلق لا يليق إلا بالنساء لو كان لائقاً، ومن ثم قال الله تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37] الآية.
وإذا كانوا لا تلهيهم التجارة والبيع وهما أليق بالرجال، فلأَنْ
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 70).
(3)
رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"(ص: 71).
لا تلهيهم الحلي والحلل والألعاب أولى.
وقال الخطيب: أنشدني الحسن بن علي بن محمد البلخي بأصبهان قال: أنشدني أبو الفضل [العباس](1) بن محمد الخراساني: [من البسيط]
رَحَلْتُ أَطْلُبُ أَهْلَ الْعِلْمِ مُجْتَهِداً
…
وَزِينَةُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيا الأَحادِيثُ
لا يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلَاّ بازِلٌ ذَكَرٌ
…
وَلَيْسَ يُبْغِضُهُ إِلَاّ الْمَخانِيثُ
لا تُعْجَبَنَّ بِمالٍ سَوْفَ تَتْرُكُهُ
…
فَإِنَّما هَذِهِ الدُّنْيا مَوارِيثُ (2)
***
(1) بياض في "أ" و"ت".
(2)
انظر: "شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي (ص: 71).