الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
وإذا حصلت من الشاب زلة فلا ينبغي له التمادي في الضلال، و [لا يقل]: بالخير التؤدة، بل يبادر إليها؛ فإنه قد يؤخذ على غرة فجأة، وليعتبر بمن يموت شابًا، فليس كل الأموات شيوخاً، بل أكثرهم غير الشيوخ، ولا شك أن من أهل النار شيوخاً وشباباً.
وقد روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا سكن أهل النار في النار سمعت للنار قعقعة في العظام منهم، فنادت: ما لكم من شباب! ما كان أحسن وجوهكم! وما لكم من شيوخ! ما كان أجملكم! ما أحسن زرعكم لو كان لكم حاسد غيري (1).
والتوبة - وإن كانت سبب محبة الله تعالى للعبد كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]- فإن توبة الشاب لها مزية على توبة غيره، وهي أحب إلى الله تعالى من توبة غيره، ولذلك وقع النص على توبته. فيما رواه أبو الشيخ في كتاب "الثواب" عن أنس رضي الله تعالى
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 264).
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الشَّابَّ التَّائِبَ"(1).
ورواه الأستاذ أبو القاسم القشيري في "رسالته" بلفظ: "ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ شابٍّ تائِبٍ"(2).
وروى أبو المظفر السمعاني في "أماليه" عن سلمان رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعالَى مِنْ شابٍّ تائِبٍ، وَما مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ مِنْ شَيْخٍ مُقِيمٍ عَلى مَعاصِيهِ، وَما فِي الْحَسَناتِ حَسَنةٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ تَعالَى تُعْمَلُ فِي لَيْلَةِ جُمُعَةٍ أَوْ يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَما فِي الذُّنوبِ ذَنْبٌ أَبْغَضَ إِلَى اللهِ تَعالَى مِنْ ذَنْبٍ يُعْمَلُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ".
وإذا كان للشاب مال يفصّل منه شيء يفضل عن كفايته وكفاية عياله وعن دينه، فينبغي أن يجود ويسخو به إفضالاً على الإخوان والجيران لأنه ادخار لهم، وصدقة على اليتامى والأرامل والمساكين؛ فإنه ذخيرة له في الآخرة.
ويعوِّد نفسه مكارم الأخلاق، ومتى غلبت عليه حدة الشباب
(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"(ص: 313). قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(2/ 983): رواه ابن أبي الدنيا في "التوبة"، وأبو الشيخ في كتاب "الثواب" من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف.
(2)
رواه القشيري في "رسالته"(ص: 126)، وكذا ابن عدي في "الكامل"(4/ 118) وأعله بأبي عاتكة، وقال: منكر الحديث، وعامة ما يرويه عن أنس لا يتابعه عليه أحد من الثقات.
حسن منه التشبه بذوي الأسنان في رياضة الأخلاق، ويستحضر حينئذ الحديث:"خَيْرُ شَبابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِكُهُولكُمْ"(1).
وروى الحاكم في "تاريخه" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شابٌّ سَخِىٌّ حَسَنُ الْخُلُقِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ شَيْخٍ بَخِيلٍ عابِدٍ سَيِّئِ الْخُلُقِ"(2).
وينبغي للشاب إذا خوَّله الله تعالى في الأموال أن لا يبطر بها، ولا يغتر بكثرتها فيصرفها في الملاذِّ المحرمة، أو يسرف فيها فيندم عند الحاجة إليها في كبره أو قبل كبره، ويعرض على نفسه أنه مفارق لها، ويبقى ثوابها أو عقابها، فلا يسترسل في هوى نفسه من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، فربما ألهاه ذلك عن ذكر الله تعالى؛ وكفى بذلك خسراناً.
وقد قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: كلُّ ما شغلك عن الله من أهل أو مال [أو ولد] فهو عليك شؤم (3).
وإذا ولي ولاية، أو صار له جاه أو سلطان فلا يحمله ذلك على الغرور والتسلط على أموال الناس، أو أعراضهم، أو نفوسهم، ويمنع نفسه مما تدعو إليه نفوس الشبان من ذوي الحداثة والشباب، وأهل
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ورواه تمام الرازي في "فوائده"(1/ 125)، والديلمي في "مسند الفردوس"(3587).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 264).
الجاهات والوجاهات، ومن لباس الحرير، وافتراش الديباج، والركوب على مياثر الإِبْريسم، واستعمال آنية الذهب والفضة، وشرب الخمور، واتخاذ القَينات والقِيان، وغير ذلك مما تذهب لذته وتبقى تبعته؛ فإن هذه الأمور قد تكون سبباً لمحق الأعمار، وخراب الديار، وتعجيل الدمار، والسَّوْق إلى النار.
ولقد قيل: [من البسيط]
تَفْنَى اللَّذاذَةُ مِمَّنْ نالَ صَفْوَتَها
…
يَوْماً (1) وَيَبْقَى عَلَيْهِ الإِثْمُ وَالعارُ (2)
وفي "تاريخ الخلفاء" للسيوطي، وغيره: عن يحيى الغَسَّاني قال: نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وكان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جباراً، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات (3).
فانظر كيف غر سليمان شبابه وسلطانه حتى ألحق نفسه في التمثيل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبخلفائه الراشدين، وأسقط اسم علي رضي الله تعالى عنهم منهم، ثم لوح لنفسه بطول المدة من حيث إنه في ريعان شبابه وفَورة سلطانه، وكان مماته أقرب شيء إلى ما تلفظ به.
(1) في "حلية الأولياء": "من الحرام" بدل "يومًا".
(2)
البيت لمسعر بن كدام، كما في "حلية الأولياء" لأبي نعيم (7/ 221).
(3)
انظر: "تاريخ الخلفاء" للسيوطي (ص: 226).
وأين هذا من يقظة عمر بن عبد العزيز في شبابه، واتصافه في سلطانه بالخوف من الله تعالى والاستقامة في نفسه، والعدالة في رعيته؟
ذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" عن صالح بن حسين (1) الصدئي الشامي الطبراني كاتب عمر بن عبد العزيز على الخراج والجند، وكان كتب ليزيد بن معاوية قال: ربما كلمت عمر بن عبد العزيز فيغضب، فأذكر ما في الكتاب: اتق غضب الملك الشاب، فلا أزال أرفق به حتى يذهب غضبه، فيقول لي بعد ذلك: ما يمنعك يا صالح ما ترى مني أن تراجعنا في الأمر إذا رأيته؟
وقال عمر بن عبد العزيز: وجدنا صالح بن حسين كاسْمِهِ (2).
ولا ينبغي لمن وجد الشاب من أهله وهو أسن منه على غروره وبطره أن يخليه من رأيه ونظره، ويغفل عن نصيحته لقوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].
ورأى طاوس رحمه الله تعالى فتية من قريش وهم يرفُلُون في مشيتهم، فقال: إنكم لتلبسون لبسة ما كان آباؤكم يلبسونها، وتمشون مشية ما يحسن الزفافون (3) يمشونها.
وقال ابن طاوس: قلت لأبي: إني أريد أن أتزوج فلانة.
(1) في "تهذيب الكمال": "جبير" بدل "حسين".
(2)
انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (13/ 24).
(3)
في "حلية الأولياء": "الرقاص" بدل "الزفافون".
قال: اذهب فانظر إليها.
قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي، وغسلت رأسي وادَّهنت، فلما رأى مني تلك الهيئة قال: اقعد ولا تذهب. رواهما أبو نعيم (1).
وإنما منعه من الذهاب بعد ما أمره به لأنه لو ذهب في تلك الهيئة كانت هيئته غارَّة للمرأة وأوليائها لو رأوه في تلك الهيئة؛ إذ يظنون فيه فوق ما هو عليه؛ فانظر هذا الحذر، وتأمل هذا الورع!
***
(1) رواهما أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 10).