الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[208/أ]
(1)
كتاب الصلاة
الصلاة في أصل اللغة:
الدعاء. ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}
(2)
[التوبة: 99] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعِيَ أحدُكم فَلْيُجِبْ. فإنْ كان مُفطِرًا فَلْيَطْعَمْ، وإن كان صائمًا فَلْيُصَلِّ» رواه مسلم
(3)
.
والداعي لما كان يؤم
(4)
المدعوَّ ويقصده، سُمِّي
(5)
الثاني من الخيل مصلِّيًا لاتباعه السابقَ وقصده إياه. ثم سُمِّي عظمُ
(6)
الوَرِك «صَلًا» لأنه هو الذي يقصده المصلِّي من السابق. ثم اتسع ذلك، حتَّى قال عليّ رضي الله عنه: سبق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصلَّى أبو بكر، وثلَّث عمر
(7)
.
(1)
من هنا انضمت إلى نسخة الظاهرية قطعة من الكتاب محفوظة في مكتبة الملك فهد الوطنية. أما المطبوع فبدأت الإحالة على الجزء الثاني الذي حققه الشيخ خالد بن علي بن محمد المشيقح من أول كتاب الصلاة إلى آخر باب آداب المشي إلى الصلاة.
(2)
في الأصل و (ف): «ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق
…
» فسقط جزء من الآية. وكذا في المطبوع.
(3)
برقم (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رسمها في الأصل و (ف): «يام» .
(5)
غيَّر العبارة في المطبوع بحذف «لما كان» وزيادة الواو قبل «سمي» دون تنبيه.
(6)
«عظم» ساقط من (ف).
(7)
أخرجه أحمد (895)، وحسنه الضياء في «المختارة» (1/ 373)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 42):«رجال أحمد ثقات» .
ولِمَا بين القاصد والمقصود [208/ب] من الاتصال
(1)
والقرب، كان منه في الاشتقاق الأوسط «الوصل» ، لأنَّ فيه الصاد واللام والواو. ولهذا يقال: الصلاة صِلة بالله. ومنه في
(2)
الاشتقاق الأكبر: صَلي النارَ، واصطلى بها، لما فيه من المماسَّة والمقاربة.
والدعاء: قصدُ المدعوِّ، والتوجُّه إليه، إمَّا على وجه المسألة، وإما على وجه العبادة المحضة؛ لأنَّ دعاءَ الشيء هو طلبه وإرادته، سواء طُلِب لذاته أو لأمر
(3)
منه. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإنه فُسِّر بالمسألة وبالعبادة.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} إلى قوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إلى قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 60 - 74].
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].
وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77].
وقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4].
(1)
في النسختين والمطبوع: «الإيصال» ، تصحيف.
(2)
«في» ساقط من الأصل.
(3)
في الأصل والمطبوع: «للأمر» . والمثبت من (ف).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}
(1)
[النحل: 20].
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [الأحقاف: 4].
وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} الآية إلى قوله
(2)
: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 194 - 197].
[209/أ] وقوله تعالى: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} إلى قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 104 - 106].
وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}
(3)
الآية [الرعد: 14].
(1)
في الأصل: «والذين تدعون
…
» وهي قراءة أبي عمرو وغيره من السبعة ما عدا عاصمًا. انظر: كتاب الإقناع لابن الباذش (2/ 681). و {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} من (ف).
(2)
في (ف): «وقوله» .
(3)
لم يرد «له» في الأصل.
وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء: 117 - 118].
فإن الدعاء في هذه المواضع يراد به نفسُ اتخاذ المدعوِّ ربًّا وإلهًا، بحيث يُسأَل ويُعبَد. وقد فصَّل الله معنى الدعاء في قوله
(1)
: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي قوله
(2)
: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 23]، وفي قوله:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88، الشورى: 10] ونحو ذلك من الآي. فهو يُعبد من حيث هو
(3)
إله، ويُسأل من حيث هو ربٌّ. وإن كان كلُّ عابد سائلًا وطالبًا، وكلُّ سائل عابدًا وقاصدًا من جهة الالتزام. فسُمِّيت العبادات
(4)
لله المحضة مثل القراءة
(5)
والذكر والسؤال والركوع والسجود والطواف صلاة، إذ
(6)
هي دعاء لله وعبادة لله بلا توسُّط شيء آخر. ولهذا قال ابن مسعود: ما دمتَ تذكر الله، فأنت في صلاة، وإن كنت في السوق
(7)
.
(1)
في الأصل والمطبوع: «فصَّل معنى الدعاء بقوله» ، والمثبت من (ف).
(2)
في الأصل والمطبوع: «وقوله تعالى» . والمثبت من (ف).
(3)
«هو» ساقط من (ف).
(4)
في (ف): «العبادة» .
(5)
الكلمة في الأصل غير محررة، فقرأها في المطبوع:«الصلاة» ، والصواب ما أثبت من (ف).
(6)
في المطبوع: «أو» ، تصحيف.
(7)
وكذا حكاه عن ابن مسعود في «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 108) و «جامع المسائل» (6/ 315) و «مجموع الفتاوى» (14/ 215). وفيه (32/ 232) عن أبي الدرداء. وأخرجه الإمام أحمد في كتاب الزهد (2029) عن مسروق بلفظ: «ما دام قلب الرجل يذكر الله عز وجل فهو في الصلاة وإن كان في السوق» . وبهذا اللفظ في «حلية الأولياء» (4/ 204) عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.
ثم غلب هذا الاسم على ما كان فيه فعل مثل القيام والسجود والطواف، دون القول المحض كالقراءة والذكر والسؤال
(1)
، [209/ب] لأن
(2)
ذلك عبادة بجميع البدن. ولهذا اشترطت له الطهارة، وإن اشتركا في استحباب الطهارة. ثم غلب على القيام والركوع والسجود مع أذكارها، لأنها أخصُّ بالتعبد من الطواف. ولهذا حُرِّم فيه الكلام والعمل الكثير. وسُمِّي السجودُ المفرد كسجود التلاوة والشكر، والقيامُ المفرد كقيام الجنازة= صلاةً، وإن كان أغلبُ الصلوات المشروعة هي مما
(3)
اشتملت على القيام والقعود والركوع والسجود. فإذا أُطلِق اسم الصلاة في الشرع لم يُفهَم منه إلا هذا، وهي القيام والركوع والسجود لله بالأذكار المشروعة فيها.
ثم قال جماعة من أصحابنا، منهم ابن حامد وأبو الخطاب
(4)
وابن عقيل
(5)
: هي منقولة من
(6)
اللغة إلى الشرع، ومعدول بها عن المفهوم الأول إلى مفهوم آخر. وقال القاضي وغيره
(7)
: ليست منقولة، بل ضَمَّت
(1)
في الأصل: «والذكر والسؤال كالقراءة» ، والتصحيح من المطبوع. ولعل «كالقراءة» كان لحقًا في حاشية أصل هذه النسخة، فوضعه ناسخها في غير موضعه.
(2)
في الأصل والمطبوع: «ولأنَّ» . والمثبت من (ف).
(3)
في (ف): «ما» .
(4)
في الأصل: «منهم أبو الخطاب» ، فأسقط «ابن حامد». وانظر:«التمهيد» لأبي الخطاب (1/ 89)، و «المسودة» (ص 177، 562).
(5)
زاد بعده في (ف): «وأكثر أصحابنا» .
(6)
في المطبوع: «في» ، تصحيف.
(7)
انظر: «العدَّة» (1/ 189 - 190)، و «المسودة» (ص 177، 561 - 562).
إليها الشريعةُ شروطًا وقيودًا، وهي مبقاة على ما كانت عليه. وكذلك القول في اسم الزكاة والصيام وغيرها من الأسماء الشرعية.
وتحقيق ذلك أنَّ تصرُّف الشرع فيها كتصرُّف أهل العرف في بعض الأسماء اللغوية: إما تخصيصُها ببعض معانيها كالدابَّة، وإما تحويلُها
(1)
إلى ما بينه وبين المعنى الأول سبب كاسم الراوية
(2)
والغائط والعَذِرة. فالصلاة كانت اسمًا لكلِّ دعاء، فصارت اسمًا لدعاء مخصوص. أو كانت اسمًا لدعاء، فنقلت إلى الصلاة الشرعية [210/أ] لما بينها وبين الدعاء من المناسبة. والأمر في ذلك متقارب. نعم، قد يُسرف بعض من يقول: هي منقولة، فلا يشترط أن يكون بين المنقول عنه والمنقول
(3)
إليه مناسبة، بل يجعله وضعًا
(4)
ثانيًا حتى كأنه ليس من المجاز اللغوي. ويسرف من يقول: هي [غير]
(5)
منقولة، حتى يعتقد أن مفهومها في الشرع هو محض الدعاء والمسألة فقط كما يكون
(6)
في اللغة، وأنَّ [ما]
(7)
خرج عن ذلك من قيام وقعود وغير ذلك، فهو شرطٌ في الحكم، بمعنى أنَّ الصلاة التي هي الدعاء لا تجزئ إلا على هذا الوجه، كما لا تجزئ إلا بتقدُّم الإيمان والطهارة. ولا
(1)
في (ف): «بتخصيصها
…
أو بتحويلها».
(2)
للمزادة. وفي الأصل: «الرواية» ، تحريف.
(3)
في المطبوع: «المنقولة منه والمنقولة» وما أثبت من الأصل و (ف) صواب.
(4)
في الأصل والمطبوع: «وصفًا» ، تصحيف.
(5)
زيادة ليستقيم المعنى.
(6)
في (ف): «كما كان» . وفي المطبوع: «مما يكون» .
(7)
زيادة يقتضيها السياق. وفي المطبوع أثبت «ما» مكان «أن» دون تنبيه.
تُجعَل هذه الأفعال جزءًا من المسمَّى ولا مفهومة من نفس الاسم. وكلا القولين طرفٌ، وخيار الأمور أوسطها
(1)
.
وبهذا التقرير، فقولُ
(2)
من يقول: هي منقولة، أقرب إلى الصواب. وكذلك أيضًا بتقدير أن يُعنى بالنقل
(3)
تخصيصُها ببعض معانيها. وهي في ذلك أبلغ من تخصيص أهل العرف الاسمَ ببعض معانيه كالدابَّة والنجم، لأنَّ ذلك التخصيص
(4)
كان معلومًا، بخلاف ما كان من خصائص الصوم والصلاة
(5)
والزكاة، فإنه لم يكن معروفًا معناه، ولا دلالة اللفظ على غيره
(6)
. وقد اتفقوا على أن الصلاة المشروعة بعد بيان النبي
(7)
صلى الله عليه وسلم صارت هي المفهومة
(8)
من لفظ «الصلاة» في الكتاب والسنَّة. ومن ادَّعى بعد ذلك أنها
(9)
تُصْرَف إلى مجرَّد المعنى اللغوي، فقد غلِط
(10)
.
(1)
في (ف): «أوساطها» .
(2)
في الأصل: «يقول» ، وفي المطبوع:«قول» .
(3)
كذا في الأصل، وغيّر العبارة في المطبوع إلى:«أيضًا بهذا التقرير أن معنى النقل» .
(4)
في (ف): «الخصوص» .
(5)
في (ف): «الصلاة والصوم» .
(6)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «للفظ عليه» ، وهو بعيد عن رسم الكلمة.
(7)
في (ف): «الرسول» .
(8)
في الأصل: «في المفهومه» . وفي المطبوع: «في المفهوم» . والصواب ما أثبت من (ف).
(9)
في الأصل: «أنها بعد ذلك» . وفي المطبوع: «بعد ذلك أنها بعد ذلك» !
(10)
في «مجموع الفتاوى» (7/ 298): «والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيِّرها، ولكن استعملها مقيَّدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها» . وانظر أيضًا «مجموع الفتاوى» (7/ 440)، (14/ 215).
والصلاة واجبة في [210/ب] الجملة. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}
(1)
[البينة: 5]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقال:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. ونصوص القرآن التي فيها ذكرُ الصلاة كثيرة جدًّا
(2)
.
وكذلك السنَّة. منها: حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُنِي الإسلامُ على خمس: شهادةِ أنَّ لا اله إلا الله وأنَّ محمّدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وحجِّ البيت، وصومِ رمضان» متفق عليه
(3)
.
وأجمعت الأمة على أنَّ الصلاة واجبة في الجملة، وأنها أعظم مباني الإسلام الفعلية. وهي عمود الدين. وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض خصائصها.
مسألة
(4)
: (روى عبادة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ الله على العبد في اليوم والليلة. فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهدٌ أن يُدخِله الجنةَ، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله
(1)
لفظ «حنفاء» ساقط من الأصل.
(2)
لم يرد: «جدًّا» في (ف).
(3)
البخاري (8) ومسلم (16).
(4)
«المستوعب» (1/ 141 - 142)، «المغني» (1/ 6 - 7؛ 48 - 52)، «الشرح الكبير» (3/ 6 - 23)، «الفروع» (1/ 401 - 414).
عهدٌ. إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له». فالصلوات الخمس واجبة على كلِّ مسلم بالغ عاقل، إلا الحائضَ والنفساءَ).
أمَّا عددُ الصلوات المكتوبات وعدد ركعاتها في حقِّ المقيم الآمن، فهو من باب العلم العامِّ الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغِ عن الله، المبيِّنِ
(1)
عنه معنى
(2)
[211/أ] خطابه وتأويلَ كلامه، الشارعِ عن الله بإذنه وبما أنزل إليه من الكتاب والحكمة.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، مثل الحديث الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي
(3)
وابن ماجه
(4)
.
وعن طلحة بن عبيد الله
(5)
أنَّ أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائرَ الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبِرْني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة
(6)
؟ قال: «الخمسَ إلا أن تَطَّوَّع شيئًا» فقال: أخبِرْني ماذا فرض الله عليَّ من الصيام؟ فقال: «شهرَ رمضان إلا أن تطَّوَّع» فقال: أخبِرني ماذا فرض الله عليّ من الزكاة؟ قال فأخبَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام. قال: والذي أكرمَك، لا
(1)
في الأصل والمطبوع: «والمبيِّن» . والمثبت من (ف).
(2)
في الأصل والمطبوع: «معاني» . والمثبت من (ف).
(3)
«والنسائي» ساقط من (ف).
(4)
أحمد (22693)، وأبو داود (1420)، والنسائي (461)، وابن ماجه (1401).
وصححه ابن حبان (1732)، وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 288)، والضياء في «المختارة» (3/ 355).
(5)
في الأصل: «عبد الله» ، تصحيف.
(6)
في الأصل والمطبوع: «الصلوات» .
أتطوَّع شيئًا، ولا أنقُص مما فرض الله عليّ شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفلحَ إنْ صدَق» أو «دخل الجنةَ إن صدَق» متفق عليه
(1)
.
وعن أنس بن مالك قال: فُرِضَت الصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أسرِي به خمسين، ثم نُقِصَت حتى جُعِلت خمسًا، ثم نودي: يا محمَّدُ إنه لا يُبدَّل القولُ لديَّ، وإنَّ لك بهذه الخمس خَمْسِين. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصحَّحه
(2)
.
ومعناه في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة
(3)
وغيره مثل حديث معاذ بن جبل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَعلِمْهم أنَّ الله افترضَ عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة»
(4)
، وحديث ضِمام بن ثعلبة
(5)
.
وهي [211/ب] واجبة على كلِّ مسلم عاقل
(6)
بالغ ــ لأن هذه شروط التكليف بالشرائع ــ على أيِّ حال كان، من صحة أو سقم، أو خوف أو أمن
(7)
، أو إقامة أو سفر ــ والأدلّة
(8)
الدالَّة على وجوبها في هذه الأحوال عمومًا
(1)
البخاري (1891) ومسلم (11).
(2)
أحمد (12641)، والنسائي (449)، والترمذي (213).
قال الترمذي: «حسن صحيح غريب» ، والحديث أصله في «الصحيحين» مطولًا.
(3)
البخاري (3207) ومسلم (164).
(4)
أخرجه أحمد (2071)، والبخاري (1395)، ومسلم (29)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2522)، وابن ماجه (1783).
(5)
البخاري (63) ومسلم (12).
(6)
«عاقل» ساقط من الأصل والمطبوع.
(7)
«أو أمن» ساقط من الأصل والمطبوع.
(8)
في الأصل: «والدلالة» . وصوابها من (ف)، وكذا في المطبوع.
وخصوصًا كما تذكر
(1)
إن شاء الله تعالى ــ إلا الحائض والنفساء، لما سبَق في باب الحيض أنَّ الحائض لم تكن تؤمر بقضاء الصلاة. فأمَّا المستحاضة ومَن به سلَسُ البول، فتجب عليهما. ويجب عليهما قضاءُ ما تركاه منها، كما تقدَّم.
فصل
فأما الكافر الأصلي، فإنها تجب عليه، في أشهر الروايتين، بمعنى أنه يعاقَب على تركها في الآخرة، وفي الدنيا إذا شاء الله تعجيلَ عقوبته؛ ويُذَمُّ على ذلك في الدنيا والآخرة.
فأما في حال كفره، فلا تصحُّ منه. وإذا أسلم لم يجب عليه القضاء باتفاق، لأنَّ الله تعالى يقول:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وعن عمرو بن العاص قال: لما جعَل الله الإسلامَ في قلبي أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ابسُطْ يدَك فلْأُبايِعْك. فبسَط يمينَه. قال: فقبضتُ يميني، فقال:«ما لك يا عمرو؟» . فقلتُ: أردتُ أن أشترِط. فقال: «تشترط ماذا؟» قلتُ: أن
(2)
يُغفَر لي. قال: «أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدِم ما كان قبله؟» رواه مسلم
(3)
.
وفي لفظ لأحمد
(4)
(1)
في (ف): «نذكر» .
(2)
«أن» ساقط من الأصل والمطبوع.
(3)
برقم (121).
(4)
برقم (17777).
وقوله: «الإسلام يهدم [212/أ] ما قبله» يعني
(1)
: من تركِ الواجبات وفعلِ المحرَّمات، بخلاف الهجرة والحجِّ فإنهما يهدمان ما فعل من إثم فيما بين العبد وبين الله تعالى، دون ما ترك من واجب يُقضَى؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا ممن أسلم أن يقضي صلاةً ولا صومًا ولا زكاةً، ولم يأخذه
(2)
بضمان دم ولا مال ولا شيء
(3)
من الأشياء.
وهذا لأنّ الكافر كان منكرًا للوجوب وللتحريم، فكان الفعل والترك داخلًا في ضِمْن هذا الاعتقاد الباطل، وفرعًا له. فلما تاب من هذا الاعتقاد وموجَبِه غفر الله له الأصلَ وفروعَه
(4)
، ودخلت هذه الفروع فيه في حال المغفرة، كما دخلت فيه في حال المعصية. بخلاف من تركه معتقدًا للوجوب، فإنَّ
(5)
الترك هناك غير مضاف إلى غيره بل إلى كسل، فالتوبةُ منه بالنشاط إلى فعل ما ترَك
(6)
.
ولا يخاطَب الكافرُ بفعلها إلا بعد أن يُسلِم، لما روى ابن عباس أنَّ النبيَّ
(1)
لفظ «يعني» ساقط من الأصل والمطبوع.
(2)
في الأصل والمطبوع: «ولا يأخذه» . وفي (ف): «ولم يأخذ» . وأشار الناسخ في حاشيته إلى أن في نسخة: «يأخذه» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «بشيء» ، والمثبت من (ف).
(4)
«وفروعه» ساقط من (ف).
(5)
في (ف): «ولأن» .
(6)
ورد في الأصل هنا عبارة: «ولأنَّ تخلل المسقط
…
يجب القضاء»، وليس هذا محلّها، وسترد بعد قليل (ص 17) في مكانها الصحيح.
- صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنَّك تأتي قومًا أهلَ كتاب
(1)
، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا اله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله. فإن هم أطاعوك لذلك فأَعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأَعلِمْهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، فتُرَدُّ إلى فقرائهم. [212/ب] فإن هم أطاعوك لذلك فإيَّاك وكرائمَ أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» رواه الجماعة
(2)
.
وأما الكافر المرتدّ، فالمشهور أنه يلزمه قضاءُ ما تركه
(3)
قبل الرِّدَّة من صلاة وزكاة وصوم، ولا يلزمه قضاءُ ما تركه في زمن الرِّدّة. وهذا هو المنصوص عنه في مواضع، مفرِّقًا بين ما تركه قبل الرِّدَّة وبعدها.
وحكى ابنُ شاقْلا روايةً أنه لا يلزمه شيء من ذلك
(4)
، بناءً على أن الردَّة تُحبِط العمل لقوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]، وقوله:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28].
وأنَّ
(1)
الكفر الطارئ يهدِم ما كان
(2)
قبله من الصالحات، كما أنَّ الإيمان الطارئ يهدم ما كان قبله من السيئات. والقضاءُ إنما يراد به جبرُ ما حصل
(3)
من الخلل في العمل، فإذا حبِط الجميعُ فلا معنى لجبره، مع ظاهر قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وعنه رواية أخرى
(4)
: أنه يلزمه قضاء الجميع. أمّا ما قبل الردَّة
(5)
، فلوجوبه عليه. وأمَّا ما بعد الردَّة، فلأنه قد
(6)
التزم حكمَ الإسلام، فلا يُقبل منه الرجوع عنه؛ [213/أ] كالمسلِم إذا تركها عامدًا. ولهذا يضمن ما أتلفه في حال الردَّة من دم
(7)
أو مال، على المنصوص. ولهذا لا يُقَرُّ على دينه بعقد جزية ولا رِقٍّ
(8)
.
(1)
استبدل به في المطبوع: «لأنَّ» . والذي في الأصل و (ف) صواب، وسياق الكلام: «بناءً على أنَّ الردة تُحبِط العمل، وأنَّ الكفر
…
».
(2)
«كان» ساقط من (ف) هنا وفي الجملة التالية.
(3)
في الأصل بعده: «به» . وكذا في المطبوع.
(4)
ذكرها أيضًا ابن شاقلا عن أحمد كما في «المغني» (2/ 48). وقال ابن مفلح في «نكته على المحرر» (1/ 29): «والروايتان في مسألة الحج مشهورتان ذكرهما جماعة، منهم أبو إسحاق بن شاقلا
…
وأما مسألة الصلاة فلا أجد أحدًا ذكر فيها نصًّا عن الإمام أحمد».
(5)
في النسختين: «قبل الإسلام» ، والمثبت من المطبوع.
(6)
«قد» من (ف).
(7)
قراءة المطبوع: «دية» .
(8)
في الأصل: «بغير جزية ولا فرق» ، وفي (ف):«بجزية ولا رق» . ويظهر أن «بغير» في الأصل تحريف «بعقد» كما أثبت.
فإذا لم يُقَرَّ
(1)
على الاعتقاد لم يُقَرَّ على موجَبه وهو الترك، فيكون مطالَبًا بالفعل في الدنيا. ولأنَّ الدليل يقتضي وجوبها على كلِّ حال
(2)
. وإنما عُفي للكافر الأصلي عن القضاء، لأنَّ مدَّة الترك تطول غالبًا. وقد كان على دين يَعتقِد صحتَه، ولم يَعتقد بطلانَه؛ وهو مع ذلك مُقَرٌّ عليه، يجوز أن يهادَن ويُؤمَن وأن يسترَقَّ ويُعقَد له الجزية إن كان من أهل ذلك، بخلاف المرتدِّ.
ووجه المشهور: أنَّ ما تركه قبل الردَّة
(3)
قد وجب في ذمته واستقرَّ، فلا يسقط بعد ذلك بفعله لو كان مباحًا، فكيف يسقط بالمحرَّم؟ ولأنه ترك صلاةً يُخاطَب بفعلها ابتداءً، فخوطب بقضائها كالنائم والناسي، وأولى. ولأنّ تخلُّلَ المُسقِط بين زمنَي
(4)
الوجوب والقضاء لا يُسقِط الواجبَ، كما لو ترك الصلاةَ ثم حصل جنون أو حيض، ثم حصل العقل والطهارة، فإنه يجب القضاء.
وأمَّا حبوطُ عمله بالردَّة، فقد منع ذلك أكثر أصحابنا
(5)
، وقالوا: الآيات فيمن مات على الردَّة، بدليل قوله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة:
(1)
في (ف): «يقم» هنا وفي جواب إذا.
(2)
في (ف): «كل أحد» .
(3)
في النسختين: «الإسلام» ، وتصحيحه من المطبوع.
(4)
في الأصل والمطبوع: «زمن» ، والمثبت من (ف).
(5)
في الأصل والمطبوع: «بعض أصحابنا» . ويؤيد ما أثبتُّ من (ف) ما سبق في (1/ 331)، وانظر:«الإنصاف» (3/ 15).
217]. والإطلاق في الآيات البواقي لا يمنع [213/ب] ذلك، لأنَّ كلَّ عقوبةٍ مرتَّبةٍ على كفر، فإنها مشروطة بالموت عليه؛ كما أنَّ كلَّ مثوبة مرتَّبة على إيمان، فإنها مشروطة بالموت عليه
(1)
.
فإن قيل: التقييد في هذه الآية بالموت على الكفر إنما كان لأنه رتَّب عليه
(2)
شيئين، وهما
(3)
: حبوط العمل، والخلود في النار، والخلود إنما يستحقُّه الكافر؛ وتلك الآيات إنما ذُكِر فيها الحبوط فقط، فعُلِم أنَّ مجرَّد الردَّة كافٍ
(4)
فيه.
قلنا: قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة، 5] وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، لا يكون إلا لمن مات مرتدًّا، لأنَّ الخاسرين: الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وهذا ليس لمن مات على عمل صالح.
ولأنه
(5)
إذا عاد إلى الإسلام فقد غُفِر له الارتداد الماضي، فإن
(6)
التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا زال الذنب زالت عقوباته وموجَباته، وحبوطُ العمل من موجَباته. يبيِّن هذا أنه لو كان فعَل في حال الردَّة ما
(1)
«كما أن كل مثوبة
…
عليه» ساقط من الأصل والمطبوع.
(2)
في الأصل والمطبوع: «مرتب على» ، والمثبت من (ف).
(3)
في النسختين والمطبوع: «وهو» .
(4)
في الأصل: «كان» ، وهو تصحيف ما أثبت من (ف). وفي المطبوع:«كافية» .
(5)
في الأصل: «فلانه» ، والمثبت من (ف). وفي المطبوع:«لأنه» .
(6)
في المطبوع: «لأن» ، والمثبت من النسختين.
تقتضيه الردَّة من شتم أو سبٍّ أو شُربٍ
(1)
لم يُقَم عليه إذا أسلم.
ولأنَّ الكافر
(2)
الحربيَّ لو تقرَّب إلى الله بأشياء، ثم خُتِم له بالإسلام، لكانت محسوبةً له، بدليل ما روى حكيم بن حِزام قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيت أمورًا كنتُ أتحنَّث بها في الجاهلية من صدقة
(3)
وعتاقة وصلة، هل فيها من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أسلمتَ على ما سلَف لك مِن [214/أ] خيرٍ» متفق عليه
(4)
.
فإذا كان الكفرُ المقارِنُ
(5)
للعمل لا يُحبِط إلا بشرط الموت عليه، فأن لا يحبطَه
(6)
الكفر الطارئ إلا بشرط الموت أحرى وأولى، لأنَّ بقاءَ الشيء أولى
(7)
من ابتدائه وحدوثه، والدفع أسهل من الرفع. ولهذا فإنَّ
(8)
الردَّة والإحرام والعِدَّة تمنع ابتداء النكاح، دون دوامه. كيف وتلك الأعمال حين عُمِلت عُمِلت لله سبحانه، وقد غفَر الله ما كان بعدها من الكفر بالتوبة منه.
(1)
في المطبوع: «شرك» ، والمثبت من النسختين.
(2)
«الكافر» ساقط من (ف).
(3)
في الأصل: «حلوه» مع وصل الواو بالهاء. وفي (ف): «صلاة» ، وكذا في المطبوع، وهو تحريف ما أثبتنا من «الصحيحين» .
(4)
البخاري (1436) ومسلم (123/ 195).
(5)
في الأصل: «المقارب» ، والمثبت من (ف)، وكذا في المطبوع.
(6)
في (ف): «فإنه» ، وفي المطبوع:«فإنه لا يحبط» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(7)
في (ف): «أقوى» .
(8)
في الأصل: «قال» ، وفي المطبوع:«قالوا» ، والمثبت من (ف).
ومن أصحابنا من قال: يُحبِط العمل مطلقًا، لكن قال: الإحباط هو
(1)
إهدارُ الثواب، لا إبطال العمل في نفسه؛ بدليل أنه لا ينقض ما قبل الردَّة من الأمور المشروطة بالإسلام، كالحكم والولاية والإرث والإمامة والذبح. فلا تبطل صلاةُ من صلَّى خلفه
(2)
، ولا يحرُم ما ذبحه قبل الردَّة. ولا يلزم من بطلان ثوابه بما فعله سقوطُ الواجب الذي لم يفعله، فإنّ الردَّة تناسب التشديد لا التخفيف.
ثم نقول: فعلُ المكتوبة له فائدتان. إحداهما: أنه يقتضي الثواب. والثانية: أنه يمنع العقاب الواجب بتقدير الترك. فإذا ارتدَّ ذهبت الفائدة الواحدة
(3)
وهي
(4)
الثواب، وبقيت الأخرى، وهي منعُ العذاب على الترك، بحيث لا يعذَّب مَن فعل وحبط
(5)
عمله، على نفس ما فعله من الخير
(6)
، وإنما يعذَّب على الكفر المُحبِط، كما يعذَّب من لم يفعل. وهذا الخلل [214/ب] يتعيَّن جبرُه، وإلا عوقب على الترك.
وهذا معنى ما يجيء في كثير من الأعمال الواجبة أنها غير مقبولة، أي لا ثواب فيها، وإن أبرأت الذمَّةَ، بحيث لولا الفعلُ لكان معاقَبًا
(7)
، ولولا
(1)
«هو» ساقط من (ف).
(2)
في المطبوع: «خلفهم» ، والصواب ما أثبت من الأصل و (ف).
(3)
كذا في النسختين، وفي المطبوع:«فائدة واحدة» .
(4)
«وهي» ساقط من الأصل.
(5)
في الأصل: «يحبط» ، والمثبت من (ف).
(6)
كذا وقعت هذه العبارة في النسختين والمطبوع.
(7)
في الأصل: «مكافيا» ، وقراءة المطبوع:«مكلَّفًا» ، ولعل الصواب ما أثبتنا.
السبب المانع من القبول
(1)
لكان فيها ثواب. ولهذا قلنا: إذا أتى قبل الردَّة ما يوجب الحدَّ من زنى أو سرقة أو غيرهما
(2)
، فإنه يقام عليه الحدُّ بعد الإسلام الثاني، نصَّ عليه؛ بخلاف من أقيم عليه الحدُّ قبل الردَّة، فإنه لا يقام عليه الحدُّ ثانيةً.
وأيضًا
(3)
فلو فرضنا أن لا فائدة أصلًا فيما فعله قبل الردَّة، فإنما ذاك
(4)
فيما يفعله دون ما وجب
(5)
عليه ولم يفعله؛ فإنه الآن قادر على فعله على وجهٍ يفيده
(6)
، فيجب عليه، كما يجب عليه
(7)
قضاء الحقوق التي كانت واجبةً قبل الردَّة. ويثاب على قضائها، وإن كان قد بطلت فائدةُ ما قضاه قبل الردَّة
(8)
.
وأما ما بعد الردة
(9)
، فإنه لم يخاطَب به ابتداءً، وإنما يخاطب أولًا بالإسلام، فلا يجب قضاؤه كالكافر الأصلي؛ فإنَّ الموجِبَ للسقوط في أحدهما موجودٌ في الآخر. وقد ارتدَّ جماعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر،
(1)
«لكان
…
القبول» ساقط من (ف) لانتقال النظر.
(2)
في الأصل والمطبوع: «وغيرهما» .
(3)
«وأيضًا» من (ف).
(4)
في الأصل: «زال» ، تصحيف. وفي المطبوع:«ذلك» .
(5)
في الأصل: «يوجب» .
(6)
في الأصل: «يفسده» مع علامة الإهمال على السين، تصحيف ما أثبت من (ف). وفي المطبوع:«يبرئه» .
(7)
«كما يجب عليه» ساقط من (ف)
(8)
«ويثاب على قضائها
…
الردة» ساقط من (ف) لانتقال النظر.
(9)
في النسختين: «بعد الإسلام» ، وفي المطبوع:«قبل الإسلام» ، ولعل الصواب ما أثبت.
ومكث منهم طائفة على الردَّة
(1)
برهةً من الدهر، ولم يُنقَل أنَّ أحدًا منهم أُمِر بالقضاء. ولأنَّ الترك هنا كان في ضمن الاعتقاد، فلما غُفِر له الاعتقاد غُفِر له ما في ضمنه. ولأنَّ إيجابَ القضاء هنا قد يكون فيه تنفير عن الإسلام، لا سيَّما إذا كثرت أعوامُ الردَّة، وكانت
(2)
الأموال كثيرة؛ [215/أ] فإنه قد يعجز عن القضاء، فيصبر
(3)
على الكفر فرارًا من القضاء.
فأما ما فعله قبل الردَّة، فلا يجب عليه قضاؤه بحال، لأنَّ الذمة برئت منه، حتّى الحجّ في إحدى الروايتين. وعنه: إيجابُ قضاء الحجّ. فمن أصحابنا من علَّل ذلك بأنَّ العمل الماضي حَبِط بالردَّة، فيجب عليه ما يجب على الكافر الأصلي. فعلى هذا يجب إعادة ما صلَّى
(4)
إذا أسلم، ووقتُه باقٍ. وهذه طريقة ابن شاقْلا وأبي الخطاب وغيرهما
(5)
.
وقال القاضي وأكثر أصحابه مثل الشريف أبي جعفر والآمدي
(6)
: يجب إعادةُ الحج، مع القول بأنَّ العمل لم يحبَط أصلًا
(7)
؛ لأنَّ هذا
(1)
«على الردة» ساقط من (ف).
(2)
في الأصل: «فكانت» ، والمثبت من (ف)، وكذا في المطبوع.
(3)
في الأصل: «فتصير» ، وفي المطبوع:«فيصرُّ» ، والمثبت من (ف).
(4)
في (ف): «صلَّاه» .
(5)
انظر: «الانتصار» (2/ 336) و «النكت على المحرر» (1/ 30).
(6)
انظر: «رؤوس المسائل» للشريف (1/ 165)، و «الفروع مع التصحيح» (1/ 403 - 404). وقد ورد «والآمدي» في الأصل والمطبوع بعد «القاضي» ، والصواب ما أثبت من (ف).
(7)
«أصلًا» ساقط من الأصل.
إسلام
(1)
جديد، والإسلام مبنيٌّ
(2)
على خمس، فلا بدَّ فيه من جميع المباني؛ بخلاف ما تكرَّر
(3)
وجوبه من الصلاة والزكاة والصوم. ولأنَّ الاحتساب له بذلك الحجِّ لا يمنَع أن يجب عليه حجٌّ ثانٍ بالإسلام، كالكافر الحربي لو حجَّ ثم أسلم لزمه حجٌّ ثانٍ
(4)
، مع أنَّ ذلك الحجَّ محسوب له. وكذلك العبد والصبيّ لو حجَّا قبل الوجوب كُتب لهما ثوابه، ثم يلزمهما بالوجوب
(5)
حج ثان.
وإذا أسلم لزمه قضاءُ ما تركه بعد الإسلام، وإن لم يعلم وجوبه.
فصل
وأما المجنون، فلا يجب عليه قضاؤها
(6)
في ظاهر المذهب. نصَّ عليه في رواية صالح وأبي داود وغيرهما
(7)
.
وقد روى حنبل عنه
(8)
: أن المجنون يقضي الصلاة والصيام إذا أفاق، كالمغمى عليه. وحمله بعض أصحابنا على الجنون [215/ب] العارض دون المطبِق، لقرب شبهه بالإغماء.
(1)
في (ف): «الإسلام» .
(2)
في (ف): «بني» .
(3)
في (ف): «يتكرر» .
(4)
«بالإسلام
…
ثان» ساقط من (ف) لانتقال النظر.
(5)
في الأصل: «بالإسلام» ، وصوابه من المطبوع.
(6)
في المطبوع: «قضاء على ما» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(7)
انظر: «مسائل صالح» (3/ 27) وأبي داود (ص 73).
(8)
فيما ذكره أبو بكر. انظر: «المبدع» (1/ 266) و «شرح الزركشي» (1/ 498).
وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال
(1)
: المبرسَم
(2)
يعيد
(3)
الصلاة، وإن طال ذلك شهرًا أو أكثر.
والأول هو المذهب، لما روى عليٌّ
(4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يُفيق» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن
(5)
. وهذا الحديث ينفي القضاء والأداء، لكن وجب القضاء على النائم، لقوله:«من نام عن صلاة أو نسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذكَرها»
(6)
، فبقي المجنون على الإطلاق كالصبي.
(1)
في الأصل: «رواية إنه يحتمل الحال» ، وهو تحريف عجيب. وكذا في المطبوع. وصوابه من (ف).
(2)
المبرسم هو المصاب بالبِرسام، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة (المعجم الوسيط). فارسي معرب، مركب من «بَر» وهو الصدر، و «سام»: الورم. انظر: «المعرب للجواليقي» (ص 156).
(3)
في الأصل: «بعد» . وكذا في المطبوع. وهو تصحيف.
(4)
في الأصل: «عن علي رضي الله عنه» . والمثبت من (ف).
(5)
أحمد (956)، وأبو داود (4403)، والترمذي (1423)، وابن ماجه (2042).
وحسنه البخاري والترمذي، وصححه ابن خزيمة (1003)، وابن حبان (143)، والحاكم (1/ 258)، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على علي، وله شاهد صحيح من حديث عائشة مرفوعًا، وسيأتي تخريجه في كتاب الصيام.
انظر: «العلل الكبير» للترمذي (225 - 227)، «العلل» للدارقطني (3/ 72 - 74)، «فتح الباري» لابن رجب (5/ 294).
(6)
أخرجه البخاري (597) ومسلم (684/ 315) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأما من زال عقله بغير الجنون
(1)
، فيجب عليه القضاء، سواء كان السبب مباحًا أو محرَّمًا
(2)
، من فعله أو من غير فعله، كالسكران ببَنْجٍ
(3)
أو خمرٍ
(4)
، والنائم، والمغمَى عليه لمرضٍ أو شُربِ دواء أو غير ذلك.
وقال القاضي: إن كان الإغماء بشرب دواء مباح لم يجب القضاء، لأنه لو وجب القضاء لامتنع من شرب الدواء، بخلاف إغماء المريض
(5)
.
والمباح: هو ما تحصل معه السلامة في أغلب الأحوال، وإن كان سمًّا
(6)
في أقوى الوجهين. وفي الآخر: لا يجوز شربُ السَّمِّ بحال
(7)
.
وقيل: إن كان عقله يزول بالدواء ويطول
(8)
، فهو كالمجنون. وإن كان لا يدوم كثيرًا، فهو كالإغماء.
والأول: المذهب، لأنها عبادة، فلم
(9)
تسقط بالإغماء، كالصيام وسائر العبادات
(10)
.
(1)
في المطبوع: «بغير جنون» ، والمثبت من الأصل و (ف).
(2)
في (ف): «حرامًا» .
(3)
نبات طبي مخدِّر، فارسي معرب. انظر:«القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل» (ص 57).
(4)
في (ف): «بخمر أو بنج» .
(5)
انظر: «شرح الزركشي» (1/ 498) و «الإنصاف» (3/ 10 - 11).
(6)
غير محررة في (ف)، وقال الناسخ في الحاشية:«لعله: مباحًا» ، وهو خطأ.
(7)
«شرب السم بحال» ساقط من (ف).
(8)
في النسختين: «لا يطول» ، والمثبت من المطبوع.
(9)
«فلم» ساقط من الأصل.
(10)
العبارة «والأول: المذهب
…
بالإغماء» جاءت في الأصل قبل الفقرة السابقة بعد «شرب السم بحال» . و «كالصيام وسائر العبادات» جاء في آخر الفقرة السابقة بعد «كالإغماء» . والمثبت من (ف).
قال الإمام [216/أ] أحمد
(1)
: أغمي على عمَّار بن ياسر ثلاثًا، فقضى
(2)
. وروي نحو ذلك عن سمُرة بن جُندُب وعمران بن حصين
(3)
.
وهذا لأنَّ هذه الأسباب هي بين محرَّم لا يُعذَر في شربه وبين مباح تقصُر
(4)
مدته غالبًا، فأشبه النومَ. ويفارق الجنون، فإنه يطول غالبًا، وينافي أهلية التكليف، ويوجب الولاية على صاحبه، ولا يجوز على الأنبياء. ولأنَّ الإغماء والنوم ونحوهما
(5)
يزيل الإحساس الظاهر والعقل الظاهر، وإلا فيجوز أن يرى رؤيا، ويُوحَى إليه في حال نومه وإغمائه، ويكون زوال العقل تبعًا لزوال الحسِّ الظاهر
(6)
؛ بخلاف المجنون فإنَّ حسَّه وإدراكه باقٍ، والعقل زائل، فهو في ذلك كالبهائم
(7)
. ولهذا النائمُ
(8)
والمغمى عليه يندر منهما القول والعمل، بخلاف المجنون.
(1)
في مسائل عبد الله (ص 57 - 58) وصالح (2/ 202) والكوسج (2/ 691 - 692).
(2)
«فقضى» ساقط من الأصل. وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 392)، وبنحوه عبد الرزاق (4156)، وابن أبي شيبة (6646).
(3)
أخرج الأثرين ابن أبي شيبة (6647)، وابن المنذر في «الأوسط» (4/ 392).
(4)
في (ف): «اقصر» .
(5)
«ونحوهما» ساقط من الأصل.
(6)
في المطبوع: «حس الظاهر» ، والمثبت من النسختين.
(7)
في الأصل: «كالنائم» ، فأصلحه في المطبوع بزيادة «ليس» قبله.
(8)
في الأصل: «ثم ولهذا المجنون» ، والمثبت من (ف). وكذا أصلحه في المطبوع من غير إشارة إلى ما في الأصل.
فصل
وأمَّا الصبيُّ، فلا تجب عليه في أشهر الروايتين
(1)
.
وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشرًا. اختارها أبو بكر والتميمي
(2)
، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أبناءكم بالصلاة لِسَبع سنين
(3)
، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع» رواه أحمد وأبو داود
(4)
.
وعن سَبْرة الجهني قال: قال رسول الله: «مُرُوا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن
(5)
.
(1)
بعده في (ف): «عنه» .
(2)
في «الإنصاف» (2/ 20) أن اختيار أبي الحسن التميمي رواية أخرى، وهي أنها تجب على المراهق. وانظر:«الفروع» (1/ 413). وقد مضت ترجمة التميمي في كتاب الطهارة.
(3)
«سنين» ساقط من الأصل.
(4)
أحمد (6689)، وأبو داود (496)، من طرق عن سوار بن داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.
إسناده حسن، سوار شيخ لا بأس به كما في «الجرح والتعديل» (4/ 272)، وقد صححه الحاكم (1/ 197)، وحسنه النووي في «الخلاصة» (1/ 252)، ويشهد له حديث سبرة الآتي.
انظر: «البدر المنير» (3/ 238 - 242)، «صحيح أبي داود: الكتاب الأم» (509).
(5)
أبو داود (495)، والترمذي (407).
قال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه الحاكم (1/ 258).
فقد أمرَ بالعقاب على تركها [216/ب] وما يُعاقَب على ترك شيء إلا الواجب، لا سيما مع رأفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته. ولأنه يفهم الأمر، ويقدر على الامتثال، فوجب عليه كالبالغ. وهذا لأنَّ عمدة الوجوب إنما هي العقل الذي به يُعلَم، والقدرة التي بها يُفعَل، وكلاهما موجود. ولأنَّ العشر مظنة الاحتلام وأول سنيه
(1)
، فجاز أن تقوم مقامه.
ويُحمَل حديث رفع القلم على مأثم
(2)
ما يفعله من الذنوب، لا على مأثم ما يتركه من الواجب. ويؤيِّد هذا أنَّ المأمورات تصح منه، فجاز أن تجب عليه. ولهذا صحَّ منه الإسلام، وهو مُلزِم
(3)
لأحكام كثيرة في الدنيا والآخرة. وأما المنهيات فإنها تقع منه باطلة إذا كانت تقبل البطلان، فلا تحرُم عليه. ولهذا لا تصحُّ تصرفاته بغير إذن من نكاح وبيع وهبة، ويقع كفره وقذفه وزناه وسرقته غيرَ موجب للحدِّ والعقوبة. ومن قال هذا صحَّح إسلامه دون رِدَّته كإحدى الروايات
(4)
، وهذا لأنَّ فعلَ البِرِّ أسهل من ترك الإثم. ولهذا قال سهل بن عبد الله
(5)
: أعمالُ البِرِّ يفعلها البَرُّ
(6)
والفاجرُ، ولا يصبر عن الآثام إلا صِدِّيق. ومن قال هذا التزم وجوبَ الصيام إذا أطاقه.
(1)
في الأصل والمطبوع: «سببه» ، تصحيف.
(2)
«مأثم» ساقط من الأصل هنا وفيما يأتي.
(3)
في الأصل والمطبوع: «يلزم» . والمثبت من (ف).
(4)
انظر «مسائل الكوسج» (7/ 3748) و «المغني» (12/ 281).
(5)
التُّسْتَري (ت 283). وأخرج قوله أبو نعيم بإسناده في «الحلية» (10/ 197) ضمن كلام طويل، والسلمي في «طبقات الصوفية» (ص 209).
(6)
لعل كلمة «البَرَّ» ألحقت في الحاشية، ولكن لم تظهر في الصورة، فإن علامة اللحق قبل «والفاجر» ظاهرة.
فأمَّا الحجّ فلا يجب عليه قبل الاحتلام قولًا واحدًا، لقوله:«أيُّما صبيٍّ حجَّ به أهلُه ثم احتلم، فعليه حَجَّة أخرى» وهذا يروى مرسلًا وموقوفًا على
(1)
ابن عباس
(2)
.
وكذلك لو بلغ بالسنِّ أو الإنبات ولم يحتلم لم يجب عليه.
ولو
(3)
حجَّ بعد البلوغ بالسنِّ ثم [217/أ] احتلم لزمه إعادةُ الحج في رواية منصوصة، على ظاهر الحديث الوارد فيه؛ ولأنَّ السنَّ والإنبات
(4)
ليس هو في
(5)
الحقيقة الإدراك، لأنَّ الله إنما علَّق الأحكامَ ببلوغ الحلُم بقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، وقوله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا
(1)
في الأصل والمطبوع: «عن» والمثبت من (ف).
(2)
أما المرسل فأخرجه أبو داود في «المراسيل» (134) من حديث محمد بن كعب القرظي، وفي إسناده انقطاع.
وأما الموقوف فأخرجه ابن أبي شيبة (15105)، وابن خزيمة (3050)، والبيهقي (5/ 179) بإسناد صحيح.
وجاء من وجه آخر مرفوعًا عند ابن خزيمة (3050)، والحاكم (1/ 481)، والطبراني في «الأوسط» (3/ 140)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 44) وصححه، ووافقه ابن الملقن في «البدر المنير» (6/ 15). ورجح وقفه ابن خزيمة والبيهقي، وابن دقيق العيد في «الإلمام» (1/ 367).
انظر: «بيان الوهم» (2/ 584 - 587)، «نصب الراية» (3/ 6 - 7).
(3)
في (ف): «حتى لو» .
(4)
في (ف): «أو الإنبات» ، وقد سقط منها واو العطف قبل «لأن» أيضًا.
(5)
سقط «في» من الأصل، فأثبت في المطبوع:«حقيقة الإدراك» .
الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58]
(1)
، وقوله تعالى:{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152، الإسراء: 34]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«رُفِع القلمُ عن الصَّبيِّ حتى يحتلِم»
(2)
. لكن لمَّا كان بلوغُ الحلُم خفيًّا عن غير المحتلم، وكان ذلك غالبًا يكون مع بلوغِ الخمسَ عشرةَ
(3)
وإنباتِ شَعر العانة= جُعِلا مظِنَّةً و
(4)
علامةً فأُقيما
(5)
مقامه في الأحكام التي تتعلَّق بغير هذا البالغ، من الحدود والقصاص والجهاد والحَجْر وغير ذلك، إذ كانوا لا يطلعون
(6)
على الحقيقة غالبًا؛ فأمَّا فيما بينه وبين الله فإنه يعلم وقت احتلامه.
ولأن هذه الأمور تتكرَّر قبل الاحتلام وبعده، فجاز أن يُجعَل ما يقارب الاحتلام في حكمه احتياطًا وعمومًا، بخلاف الحجِّ فإنه لا يتكرَّر. فلو
(7)
اجتزأ بحجِّه
(8)
قبل الاحتلام لكان قد فعل الحجَّ قبل كمال قواه وبلوغ أشدِّه، وذلك لا يُجزئه
(9)
إذا بلغ.
والرواية الأخرى هي
(10)
اختيار أكثر أصحابنا، حتى جعلها القاضي
(1)
لم ترد هذه الآية في الأصل.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في الأصل: «خمس عشرة» ، وفي المطبوع:«خمسة عشر» .
(4)
سقطت الواو من الأصل، فأثبت في المطبوع:«جعل مظنته علامة» .
(5)
غيَّره في المطبوع إلى «قائمة» دون تنبيه.
(6)
في الأصل والمطبوع: «يطلقون» .
(7)
في المطبوع: «ولأنه» خلافًا للأصل.
(8)
أثبت في المطبوع: «أحرم لحجه» .
(9)
في المطبوع: «ولذلك يعيد» . غيَّر دون تنبيه.
(10)
«هي» ساقط من الأصل.
روايةً واحدةً. وكذلك ابن بطَّة تأول الرواية الأولى، لما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم:«رُفِع القلمُ عن الصبيِّ حتى يحتلم» ، وهذا يعُمُّ قلم
(1)
الإثم الحاصل بفعلِ محرَّم أو تركِ واجب، [217/ب] كما شرِكَه
(2)
في ذلك المجنون. ولأنها عبادة بدنية فلم تجب قبل البلوغ كالحج والجهاد. وهذا لأنَّ الصبيَّ في الأصل لمّا كان مظنة نقص العقل وضعف البنية جعل الشرع بلوغ الأشُدّ حدًّا للتكليف، لأنه مظنة استكمال شرائطه غالبًا.
ولأنها لو وجبت عليه لقُتِل بتركها كالبالغ، ولكان الإمام هو الذي يقيم عليه الحدَّ ولم يكتفِ بضربه، ولم يفوِّض ذلك إلى الوليِّ. وبهذا يُعلَم أنَّ ضربه عليها ليتمرَّن عليها ويعتادها. وقد يُضرَب
(3)
لمصالحه وإن لم تكن واجبةً عليه، كما تُضرب البهيمة تأديبًا لها ورياضةً
(4)
وكما يُضرَب المجنون لذلك. وكان ابن عباس يقيِّد عكرمة على حفظ القرآن والسنّة
(5)
. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ عندي يتيمًا، أفَأضربُه
(6)
؟ قال: «نعم
(7)
، مما كنت ضاربًا منه
(1)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «حكم» .
(2)
في المطبوع: «شاركه» .
(3)
في المطبوع: «يجب» .
(4)
في الأصل: «رواصه» ، وفي المطبوع:«دواء» . والصواب ما أثبت من (ف).
(5)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (5/ 287)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 326)، والبيهقي (6/ 209).
(6)
في الأصل: «ان عبدي يما اذا اضربه» ، تحريف. وفي المطبوع:«ممَّ أضرب يتيمي» وهو اللفظ المشهور للحديث. وما أثبتُّه من (ف) وارد في «تهذيب الآثار ــ مسند عمر» (1/ 422).
(7)
حذف «نعم» في المطبوع.
ولدَك»
(1)
.
وكما يُضرَب على الكذب وفعل المحرَّمات، ليكُفَّ عنها ويعتاد تعظيمَ المحرَّمات، وإن كان قلم إثمها
(2)
مرفوعًا إجماعًا.
وعلى كلتا
(3)
الروايتين، فيؤمر بها إذا بلغ سبعَ سنين. قال بعض
(4)
أصحابنا: ويهدَّد على تركها، ويُضرَب عليها إذا بلغ العشر كما في الحديث. وذلك واجب على وليِّه وكافله. نصَّ عليه لما
(5)
تقدَّم في الحديث، فإنَّ الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب، وقد قال الله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، قال علي عليه السلام
(6)
: علِّموهم وأدِّبوهم
(7)
.
(1)
أخرجه ابن حبان (4244)، والطبراني في «الصغير» (1/ 157)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 72)، من طرق عن معلى بن مهدي، عن جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي عامر الخزاز، عن عمرو بن دينار، عن جابر به.
إسناده ضعيف، معلى وجعفر والخزاز متكلم فيهم، وقد تفردوا برفعه، وفيه شذوذ أيضًا، إذ جاء من وجه آخر عند ابن أبي شيبة (21792)، عن الحسن العرني مرسلًا، قال ابن حجر في «إتحاف المهرة» (3/ 297):«هو شاذ، فقد رواه عبد الرزاق من رواية: ابن عيينة، وأيوب جميعًا، عن عمرو بن دينار، عن الحسن العرني، به مرسلًا. وأيوب وابن عيينة أحفظ من أبي [عامر]، وروايتهما هي المحفوظة» ، وقد أعله البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 4)، وحمل فيه الذهبي على جعفر في «الميزان» (1/ 410)، وعده من مناكيره.
(2)
في الأصل: «قلم مها» ، تحريف ما أثبت من (ف). وفي المطبوع:«قلمه» .
(3)
«كلتا» ساقط من الأصل.
(4)
«بعض» ساقط من الأصل.
(5)
في الأصل: «ولما» . وفي المطبوع: «وكما» .
(6)
كذا «عليه السلام» في النسختين، ولعله من زيادة النسَّاخ.
(7)
أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 303)، والمروزي في «البر والصلة» (99)، والطبري في «جامع البيان» (23/ 103 - 104).
وإهمال ذلك سببُ مصيره إلى [218/أ] النار. ولأنَّ هذا من مصالحه، فوجب مراعاتُه، كما يجب حفظُ ماله، ومنعُه من جميع الفواحش والمعاصي. ويؤمر مع ذلك بالطهارة ونحوها مما يُشترط للصلاة، لأنَّ الصلاة لا تصحّ بدونها.
فإن
(1)
بلغ في أثناء الوقت لزمته الصلاة، وإن كان قد صلَّاها أو هو فيها؛ لأنها حينئذ وجبت عليه، وما تقدَّم كان نفلًا فلم يمنع الإيجاب، كما لو حجَّ
(2)
قبل البلوغ ثم بلغ. ولو بلغ في أثنائها وقد خرج
(3)
الوقت لم تجب عليه، لزوال وقت الوجوب. هذا هو المذهب المنصوص، حتى لو احتلم في أثناء الليل وقد صلَّى المغرب والعشاء أعادهما. نصَّ عليه.
ولو قيل: إنه إذا
(4)
صلَّاها مرةً لم تجب عليه ثانيةً، لكان وجهًا
(5)
لأنَّ تعجيلَ الصلاة والزكاة قبل وجوبها ــ إذا كان مشروعًا ــ يمنع
(6)
الوجوب،
(1)
في (ف): «فإذا» .
(2)
في (ف): «كالحج» .
(3)
في الأصل: «ثم خرج» ، والمثبت من (ف).
(4)
«إذا» ساقط من الأصل.
(5)
في المطبوع: «وجيها» . وقال في «درء التعارض» (8/ 11): ومذهب الشافعي: لا تجب الإعادة، وهو قول في مذهب أحمد. ومن الناس من يضعِّف هذا القول، ولعله أقوى من غيره
…
». وقال في منهاج السنة (5/ 180): «وكثير من الناس يعيب هذا على الشافعي، وغلطوا في ذلك، بل الصواب قوله، كما بُسِط في موضعه، وهو وجه في مذهب أحمد» . وفي «الإنصاف» (3/ 22) أنه تخريج لأبي الخطاب، واختاره الشيخ تقي الدين.
(6)
في (ف): «منع» . وكذا في المطبوع.